• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ناشئة الليل*

ناشئة الليل


{إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً}

 (ما شيء أجده في قلبي ألذُّ عندي من قيام الليل)[1] ما كان للإمام التابعي الجليل ثابت البناني[2] - رحمه الله تعالى - أن يقول هذا إلا بعدما زكت نفسه، وصَلَح قلبه، وطابت حياته، بعدما تعرَّض لنفحات الله في أسحار الليالي، وذاق لذة مناجاته في الأوقات الخوالي؛ فسبحان من تفضل على عباده بهذا النعيم قبل لقائه، وبصَّرهم بطريق السعادة، ورزقهم لذة هذه العبادة، فَهُم بليلهم ألذُّ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحبُّوا البقاء بالدنيا[3]!

 قومٌ إذا جـــنَّ الـــظلامُ عليهِــــمُ

باتوا هنالك سجَّـــــداً وقياماً

خُمصُ البطونِ من التعفُّف ضمَّراً

لا يعرفون سوى الحلالِ طعاماً[4]

فنعمة قيام المسلم بالليل، هي من توفيق الله له، وإعانته على طاعته، والتقرب إليه بعبادته، فهي شعار الصالحين، ومن سمات عباد الله المتقين، ومن الأسباب العظيمة الموجبة لدخول الجنة بعد رحمة أرحم الراحمين.

وإن الناظر في النصوص الشرعية عن حقيقة هذه العبادة تتجلى له مقاصدها في عدة إشراقات قرآنية، وفضائل نبوية تظهر أولاً في كتاب الله - عز وجل - بكون التهجد بالصلاة هو الصلة الدائمة بالله المؤدية للمقام المحمود الذي وعده محمداً صلى الله عليه وسلم فما أحوج الآخرين من أمته للاقتداء به لينالوا علوَّ المقام ورفعة الدرجات؛ ففي سورة الإسراء: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً} [الإسراء: 79]!

وفي آيات أخرى تبرز عدة أوامر إلهية لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم للقيام بهذه العبادة الجليلة؛ ففي سورة المزمل نداء للرسول صلى الله عليه وسلم بترك التزمل - وهو التغطي بالليل - والنهوض إلى القيام بالليل والعبادة[5] {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ 1 قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً 2 نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1 - 4] فكان خيرَ مثال في ذلك، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

وفي آية المزمل الأخرى بينت أن القيام بالليل أجمع للخاطر وأجدر لفقه القرآن: {إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: ٦] كما قاله ابن عباس، رضي الله عنهما[6].

وفي سورة الشرح خطاب له صلى الله عليه وسلم بعدم القيام إلا بعد الفراغ من أمور الدنيا وأشغالها؛ لكي يكون نشيطاً فارغ البال مخلصاً الرغبة والنية لله عز وجل[7]: {فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ 7 وَإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8].

 وفي سورة آل عمران ورد الثناء على طائفة من أهل الكتاب بسبب هذا الفعل: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] وفي سورة الذاريات يبرز في سمات عباد الله المتقين التي استحقوا بها جنة الآخرة: {إنَّ الْـمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 15 آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ 16 كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ 17 وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 - 18].

وفي إشراقة أخرى في سورة الزمر يأتي تفضيل القانت الخاشع على غيره: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً}. [الزمر: ٩]

ويتضح الأمر ثانياً في الأحاديث النبوية؛ حيث جاء الحثُّ عليها في صورة بهية وجزاء وافر في عدة أحاديث كريمة من رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ تارة في الفضل والشفاعة لصاحب هذا القيام: «فيقول القرآن: منعتُه النوم بالليل»[8].

 ومرة في حثِّ وتربية شباب الأمة على ذلك: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل»[9]. وأخرى في حثٍّ صريح للأمة بكونه أفضل الصلاة بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل[10].

وفي حديث آخر بيَّن صلى الله عليه وسلم أنه به تكون الغبطة الحقيقية: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار»[11].

وفي بيان عذب منه صلى الله عليه وسلم بيَّن لأمته أنَّ فاعل ذلك محبوب عند الله؛ فبين أن اللهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةً، وذكر منهم: «رَجُلٌ سَافَرَ مَعَ قَوْمٍ، فَارْتَحَلُوا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَقَعَ عَلَيْهِمُ الْكَرَى، أَوِ النُّعَاسُ، فَنَزَلُوا، فَضَرَبُوا بِرُؤوسِهمْ، ثُمَّ قَامَ، فَتَطَهَّرَ، وَصَلَّى رَغْبَةً لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرَغْبَةً فِي مَا عِنْدَهُ»[12].

وفي حثٍّ آخر يبيِّن صلى الله عليه وسلم أنه اقتـداء وقربة وتكفير ومنهاة عن الإثم، كما في حديث أبي أُمامة مرفوعاً: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ»[13].

وتتضح هذه الحقيقة ثالثـاً في سـيرة سـلفنا الصالح - رحمهم الله - في إحياء ليلهم بالصلاة وتدبُّر القرآن والدعاء والاستغفار، فقد وصفهم صاحبهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله: (لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً؛ قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم...)[14].

وقال عنهم أيضاً ابنه الحسن - رضي الله عنهم أجمعين -: (إن من كان قبلكم رأو القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار)[15].

بل كانوا يحرصون على ذلك حتى بالسفر. قال ابن أبي مليكة سافرت مع ابن عباس - رضي الله عنهما - من مكة إلى المدينة فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفاً حرفاً، ثم يبكي حتى تسمع له نشيجاً[16].

ولقد كانوا مع ذلك يحرصون أيضاً على أمر أهلهم بالصلاة والقيام، كما كان يفعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ثم يتلو قوله - تعالى -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: ٢٣١][17].

وكانوا يتعاهدون مع نسائهم وخدمهم حتى مع وجود ما يشغلهم من أضياف ونحوه، ونعم البيت القرآني الذي يتربى على هذا؛ فعـن أبـي عثمـان النهـدي قال: (تضيفـت أبا هريرة - رضي الله عنه - سبعاً، فكان هو وامراته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا ثم يوقظ هذا ويصلي هذا ثم يوقظ هذا)[18]. حتى إن الأمر بلغ ببعضهم كسفيان الثوري أنه يفرح إذا جاء الليل لأجل القيام بهذه العبادة الجليلة، وإذا جاء النهار حزن[19].

وكان قتادة يقول: (ما سهر الليل منافق)[20] إمعاناً لثقل هذا الأمر على المنافقين والمرائين، وحثاً لعباد الله الصادقين.

 وبما أن النساء شقائق الرجال فللعابدات المتهجدات ذكر عالٍ في هذا المقام يزينه فعل أمــهات المؤمنين اللاتي تربَّين على ذلك في مدرسة محمـــد صلى الله عليه وسلم فقامت معه خديجة – رضي الله عنها - في أول الأمــــر حين جاء الأمر بـ {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] ، وهذه الصديقة عائشة – رضي الله عنها - الصوامة القوامة روي عنها أنها قامت في آية واحدة، وهي قوله - تعالى -: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، تردِّدها وتتدبرها وتبكي[21]، وهذه حفصة بنت الفاروق – رضي الله عنها - تظفر بتزكية عالية من الروح الأمين لمداومتها على هذه العبادة؛ فقد روي أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «راجع حفصة فإنها صوامة قوامة»[22].

وهنا وصية مهمة لمن يريد إحياء هذه العبادة بالتزام منهج محمد صلى الله عليه وسلم في هديه فلا يغالي ولا يجافي، ولقد جاءت أحاديث كثيرة في بيان هذه العبادة، ونقلت لنا كتب السنة شيئاً كثيراً عن فضلها وأحكامها وهيئتها[23]، وقد حكى لنا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - حال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة بوصف بليغ؛ حيث يقول - رضي الله عنه -: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ. فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا؛ يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ». فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى». فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ»[24].

إن هذا الوصف المؤثر الذي وصفه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه – في بيان صفة قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بالليل، يظهر للأمة المنهج العملي السليم في كيفية إحياء الليل، وهو يوضح أيضاً لمريد التدبر المحور العملي الذي ينبغي أن يقتدي به ويراعيه؛ فالمتأمل في هذا الحديث العظيم تظهر له ثلاثة مقاصد غاية في الكمال والإجلال:

أولها: طول القراءة في التهجد: حيث قرأ صلى الله عليه وسلم في ركعة واحدة البقرة وآل عمران والنساء، وطول القيام من أفضل الصلاة كما جاء ذلك مفسَّراً من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصَّلاَةِ أفْضَلُ؟ قَالَ: «طُولُ القُنُوتِ»[25] والمراد بـــــ «القنوتِ»: القِيام. فكان أفضل لكون ذلك محل قراءة القرآن[26].

وثانيها: التدبر في القراءة: حيث كان صلى الله عليه وسلم يقرأ مترسلاً بتمهُّل وتدبُّر معايشاً الآيات التي يقرؤها كما جاء في الحديث: «إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ». وهذه الأمور ليست خاصة بقراءة الليل، كما قال النووي: (استحباب هذه الأمور لكل قارئ في الصلاة وغيرها)[27].

ثالثها: الكمال في الأداء: حيث حرص صلى الله عليه وسلم على الكمال في أداء هذه العبادة؛ فجمع فيها بين القراءة وبين الذكر وبين الدعاء وبين التفكُّر؛ لأن الذي يسأل عند السؤال ويتعوذ عند التعوذ ويسبِّح عند التسبيح، يتأمل قراءته ويتفكر فيها، فيكون هذا القيام روضة من رياض الذكر، قراءة وتسبيحاً ودعاءً وتفكُّراً[28].

فيا من يريد التدبر والانتفاع والتأثُّر والخشوع والشفاء؛ الزم هذا الباب العظيم الذي وصَّى به ربُّ العزة في كتابه، وحثَّ عليه محمد صلى الله عليه وسلم وداوم على فعله، وتبعه أصحابه وتابعيهم؛ ففي ذلك من الكنوز العظيمة، والخيـرات الكثيـرة ما لا يحصيه إلا الله، ويكفي فيه شرفاً أنه وقت نزول الرب - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا:

يا بَاغِيَ الإِحْسَــــــــــــانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ

لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَـــــايَةِ الآمَــــــــــــالِ

انْظُرْ إلى هدْيِ الصَّحَابَةِ وَالذِي

كانُوا عَلَيْهِ في الزَّمَانِ الَخْالِي

دَرَجُوا عَلَى نَهْجٍ الرَّسُولِ وَهَدْيه

وَبِهِ اقْتَدوْا في سَائرِ الأحوالِ

القَانِتِيـــــــــنَ المُخْبِتيــــــنَ لِرَبهِمْ

النَّاطِقِينَ بأَصْدَقِ الأقـــوَالِ

يُحْيُونَ لَيْلـهم بِطَـــــاعَةِ رَبهِمْ

بِتِلاوَةٍ، وَتَضَرُّعٍ، وَسُــــؤَالِ

وعُيُونُهُمْ تجْرِى بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ

مِثْل انْهِمَالِ الوَابلِ الهَطـــــَّالِ

في الَّليْلِ رُهبَانٌ، وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ

لِعَدُوهِمْ مِنْ أَشْجَــعِ الأبطالِ

بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِــــرَبهمْ

وَبهَا أَشِعَّــــــةُ نُورِهِ المُتَـــــلالي[29]

وإن من الأمور المهمة في هذا الموضوع أن يحرص العابد على فعل مقومات هذا الأمر من الإخلاص، والمتابعة، والمجاهدة، كما حرص السلف الكرام عليها؛ فقد سأل رجل تميماً بن أوس الداري - رضي الله عنه - فقال له: كيف صلاتُك بالليل؟ فغضب غضباً شديداً ثم قال: (والله! لركعة أصليها في جوف الليل في السر أحب إليَّ من أن أصلي الليل كلَّه، ثم أقصُّه على الناس)[30]. وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله، فإذا قرُب الفجر رجع فاضطجع في فراشه، فإذا طلع الصبح رفع صوته كأنه قد قام تلك الساعة[31].

 أمَّا مجاهدة النفس على القيام فهي من أعظم الوسائل المعينة على قيام الليل؛ لأن النفس البشرية بطبيعتها أمَّارة بالسوء تميل إلى كل شر ومنكر، فمن أطاعها في ما تدعو إليه قادته إلى الهلاك والعطب، وقد أمرنا الله - تعالى - بالمجاهدة فقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] وقال - سبحانه -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] وقال - تعالى -: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْـمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة: 16] وقال ثابت البناني: كابدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة[32]. وقال إبراهيم بن شماس: كنت أرى أحمد بن حنبل يُحيي الليل وهو غلام[33].

وكان الإمام البخاري يقوم فيتهجد من الليل، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال[34].

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية في ليله منفرداً عن الناس، خالياً بربه، ضارعاً مواظباً على تلاوة القرآن، مكرراً لأنواع التعبدات[35].

إن هذه الفضائل والتأكيدات من الشارع الحكيم جعلت علماء الشريعة يبحثون عن سر هذا الوقت الذي حث الشارع على إحيائه بالقرآن، فنجد أن النووي يشرح ذلك بقوله: (إنما رجحت صلاة الليل وقراءته؛ لكونها أجمع للقلب وأبعد عن الشاغلات والملهيات، وأصوَن عن الرياء وغيره من المحبطات، مع ما جاء الشرع به من إيجاد الخيرات في الليل فإن الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلاً)[36].

ويشاركه ابن حجر العسقلاني بقوله: (لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية)[37].

ويوافقهم ابن كثير بقوله: (قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة؛ وأجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهُّمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش)[38].

وهنا تأتي مسألة - قد يستفيد منها المتدبر - جاء ذكرها في الفتاوى الكبرى، وهي مسألة: أيهما أفضل إذا قام من الليل: الصلاة أم القراءة؟

وأجاب عنها شيخ الإسلام ابن تيمية بما يلي: بل الصلاة أفضل من القراءة في غير الصلاة، نص على ذلك أئمة العلماء، وقد قال: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)[39]. لكن من حصل له نشاطٌ وتدبُّرٌ وفهمٌ للقراءة دون الصلاة فالأفضل في حقه ما كان أنفع له[40].

ومن خلال ما سبق يتبين أن المداومة على القراءة في التهجد فيها خيرات عظيمة، وهي معينة جداً على التدبر وتأثُّر القلب وخشوعه، فلا يثبت القرآن في الصدر ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا القيام به في جوف الليل كما يقوله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[41]، ويقول السري السقطي: (رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل)[42].

إن الاتصال بالمصدر الرباني الذي نزَّل القرآن هو زاد المتقين، وشعار المخلصين. الاتصال به ذكراً وعبادةً ودعاءً وتسبيحاً؛ حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء، وفي تطلُّع وفي أُنْس، تفيض منه الراحة على التعب والمشاق الدنيوية، والهموم الحياتية، وتفيض منه القوة على الضعف والقلة.

حيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل، وترى عظمة التكليف، وضخامة الأمانة. فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من متاعب الحياة؛ فالله - عزو جل - الرحيم كلف عبده الدعوة، ونزل عليه (القرآن) الزاد الصالح لهذه الرحلة المضنية في هذه الحياة.

نعم هو زاد لأصحاب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل. إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق من الأتقياء والمصلحين والدعاة إلى الله في هذا الزمن؛ خاصة في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة التي تعيشها الشعوب الإسلامية اليوم، فالتعبد لله - عز وجل - في هذه العبادة الليلية؛ نجاح وفلاح للدعوات والمشاريع النهارية.

 فالتعرض لنفحات الله - عز وجل - في هذا الوقت وقراءة كتابه والاستعانة بالدعاء والتسبيح؛ هي زادٌ مضمون يعين على جميع مشاق الحياة وأتعابها.

وبعد، ففي النفس حياء وخجل، وخوف ووجل، فالتقصير حاصل، والفعل دون ذلك بمراحل، والله المستعان، ولكن هو التبليغ ولو بآية، والتذكير إن نفعت الذكرى، ولسان الحال، كشأن ابن الجوزي حين قال: (إلهي وسيدي إن قضيت عليَّ بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي؛ صيانة لكرمك لا لأجلي، لئلا يقولوا: عذب من دلَّ عليه)[43].

فاللهم اجعلنا من عبادك المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والصابرين على ما أصابهم، والمقيمي الصلاة ومما رزقتهم ينفقون.


 

 


[*]قال الأزهري: ناشئة الليل: قيام الليل. وقال الحسن البصري: كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة الليل. ينظر: معالم التنزيل، للبغوي: (4/493).

[1]  صفة الصفوة، لابن الجوزي: (2/155).

[2] قال الإمام الذهبي في السير: (5/221) في ترجمة ثابت البناني: (الإمام، القدوة، شيخ الإسلام، أبو محمد البناني مولاهم، البصري، ولد: في خلافة معاوية (وحدث عن جمع من الصحابة)، وكان من أئمة العلم والعمل، رحمة الله عليه. قال أنس: إن للخير أهلاً، وإن ثابتاً هذا من مفاتيح الخير، وعن ابن أبي رزين، أن ثابتاً قال: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة. قال شعبة: كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كل يوم وليلة. وعن محمد بن ثابت، قال: مات ثابت سنة سبع وعشرين ومائة، وهو ابن ست وثمانين سنة).

[3] قاله أبو سليمان الداراني - رحمه الله - كما في حلية الأولياء: (9/275).

[4] تفسير القرطبي: (13/71).

[5] ينظر: تفسير ابن كثير: (4/557).

[6] أخرجه أبو داود في السنن، كتاب التطوع، باب نسخ قيام الليل والتيسير فيه، حديث رقم: (1306). وحسن إسناده الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود: (5/48).

[7] ينظر: تفسير ابن كثير: (4/680).

[8] أخرجه الإمام أحمد في المسند، في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – حديث رقم: (6626)، وغيره، وصححه السيوطي في الجامع الصغير: (5203)، والشيخ: أحمد شاكر في تعليقه على المسند: (10/118)، والشيخ: الألباني في صحيح الجامع: (3882).

[9] قال ذلك لعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً. ينظر: صحيح البخاري، باب فضل قيام الليل، حديث رقم: (1122).

[10] ينظر: صحيح مسلم، كتاب: الصيام، باب: فضل صوم المحرم، حديث رقم: (1163).

[11] ينظر: صحيح مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: باب فضل من يقوم بالقرآن. حديث رقم: (815).

[12] أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي ذر - رضي الله عنه - باب: ومن غرائب مسند أبي ذر رحمه الله، حديث رقم: (1637)، والحاكم في المستدرك، في كتاب الجهاد، حديث رقم: (2446). وصححه ووافقه الذهبي.

[13] أخرجه الترمذي في جامعه، حديث رقم: (3549)، والبغوي في شرح السنة وحسنه: (2/458). وحسنه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: (1/466)، والألباني في الإرواء، حديث رقم: (452).

[14] حلية الأولياء: (1/76).

[15] التبيان في آداب حملة القرآن، للنووي: (1/29).

[16] مختصر قيام الليل، (ص131).

[17] أخرجه الإمام مالك في الموطأ، باب: ما جاء في صلاة الليل، حديث رقم: (289)، وصحح إسناده الشيخ: عبد القادر الأرناؤوط في التعليق على جامع الأصول.

[18] سير أعلام النبلاء، للذهبي: (2/609)، وصحح إسناده ابن حجر في الإصابة: (4/209).

[19] الجرح والتعديل، للإمام ابن أبي حاتم: (1/ 85).

[20] الزهد والرقائق، لابن المبارك: (1/31).

[21] مختصر قيام الليل، (ص144).

[22] أخرجه الحاكم في المستدرك: (6753)، وسكت عنه الذهبي، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (9/248): (رجاله رجال الصحيح)، وصححه السيوطي في الجامع الصحيح: (6079)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: (5/17).

[23] ذكرت هذه الأحاديث والآثار في أكثر دواوين السنة من الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات، وهناك كتب ألفت مستقلة في هذا الباب، مثل: قيام الليل، للإمام المروزي المتوفى سنة: 294هـ، وقد اختصره المقريزي المتوفى سنة: 845هـ، وكتاب: التهجد وقيام الليل، لأبي بكر ابن أبي الدنيا المتوفى سنة: 281هـ، وكتاب: فضل قيام الليل والتهجد، للآجري المتوفى سنة: 360هـ، وغيرها. أمَّا الكتب المعاصرة فكثيرة، ومن أشهرها وأجمعها كتاب: رهبان الليل، للدكتور: سيد العفَّاني، مطبوع في ثلاثة مجلدات.

[24] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، بَاب اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، حديث رقم: (772).

[25] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أفضل الصلاة طول القنوت، حديث رقم: (756).

[26] ينظر شرح النووي على مسلم: (4/200).

[27] شرح النووي على مسلم: (6/62).

[28] ينظر: شرح رياض الصالحين، للشيخ: محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله تعالى -: (2/94).

[29] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم: (2/237).

[30] الجزء المتمم لطبقات ابن سعد، الطبقة الرابعة، بتحقيق: د. عبد العزيز السلومي، (ص165).

[31] حلية الأولياء: (3/7).

[32] سير أعلام النبلاء: (5/221).

[33] سير أعلام النبلاء: (11/ 228).

[34] طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى: (1/ 276).

[35] الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، للبزَّار، (ص 36).

[36] التبيان، للنووي، (ص64).

[37] فتح الباري: (9/45).

[38] تفسير ابن كثير: (4/559).

[39] يشير إلى حديث ثوبان - رضي الله عنه - الذي أخرجه ابن ماجه: (277)، والدارمي: (1/68)، والحاكم: (1/130)، والبيهقي (1/457)، وغيرهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

[40] الفتاوى الكبرى، ابن تيمية: (2/41).

[41] مقدمة أضواء البيان، (ص4).

[42] ينظر: الجامع لتفسير الإمام ابن رجب الحنبلي، جمع: طارق بن عوض الله: (2/186).

[43] صيد الخاطر، (ص249).

 

 

أعلى