تتجلَّى وظيفة العدول في الكشف عن شحنات اللغة التأثيرية والدلالية. غير أنَّ العدول عن المطابقة قد يُؤتَى به عن قصد وتعمُّد لإحداث أثر معين، ولدواعٍ بلاغية وأسلوبية
«المطابقــة»
عند البلاغيين: هي الموافقة والمُشابهة، وهي من الوسائل التي تُعين على إيضاح
المعنى المراد تبليغه، ليجريَ السياقُ في صورةٍ لغويةٍ صحيحة، تُزيل الغموض وتَحول
دون حصول اللَّبْس واختلال البناء، وقد درس النحاةُ
«المطابقةَ»
باعتبارها مجموعة من العناصر اللغوية تؤدي وظائف متماثلة، والمقصود هنا؛ اتفاق
كلمتيْن أوْ أكثر في: المعنى، أوْ في التذكير والتأنيث، أوْ الإفراد والتثنية
والجمع، أوْ التكلُّم والخطاب والغيبة، أوْ التعريف والتنكير، أوْ العلامة
الإعرابية.
وقد تكون المطابقة غير لازمة؛ إذْ يمكن الاستغناء عنها لغرض أسلوبي أوْ إعجاز
بياني، ويصطلح على انتفاء المطابقة بــ«العدول»،
أيْ: الخروج عن المألوف أوْ المعتاد والتحول عنه.
وتُعدُّ ظاهرة
«العدول»
سِمَة من السمات الأسلوبية التي شَكَّلت هيكل البلاغة، واحتلَّت حيزًا كبيرًا في
تأويلات البلاغيين، وقسَّموها إلى عدَّة أقسام:
العدول عن لفظ، واختيار لفظ آخَر بدلًا منه، وذلك لخصيصةٍ بيانية يحتاجها السياق.
الرجوع عن الغَيْبة إلى الخطاب، وعن الخطاب إلى الغَيْبة.
الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر.
الإخبار عن الفعل الماضي بالمضارع، وعن الفعل المضارع بالماضي.
الرجوع من خطاب التثنية إلى خطاب الجَمع، ومن خطاب الجمع إلى خطاب الواحد.
وتتجلَّى وظيفة العدول في الكشف عن شحنات اللغة التأثيرية والدلالية. غير أنَّ
العدول عن المطابقة قد يُؤتَى به عن قصد وتعمُّد لإحداث أثر معين، ولدواعٍ بلاغية
وأسلوبية. ويتضمن النص القرآني مجموعة من الآيات التي تتسم بالعدول عن المطابقة،
وقد شَكَّل هذا الموضوع أرضية خصبة تباينت فيها آراء النحاة والبلاغيين
والمُفسِّرين:
= فقد يكون العدول عن لفظ لآخَر لغاية تعبيرية، كقوله تعالى: ﴿هُمُ العَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: 4]، فجيء بلفظ (العدوّ) بدلًا من (الأعداء)، والسر
في ذلك: أنَّ لفظ (العدوّ) يدلّل على اتفاق كلمتهم على العداوة، ومع ذلك جرّدهم من
كل صفات القوة والتأثير، بدليل قوله تعالى في صدر هذه الآية: ﴿وَإِذَا
رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ
العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾[المنافقون: 4]. فقد أخرجهم من الكثرة إلى القلَّة
والمهانة والهوان، وكأنه يُغري بهم، كما في قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا..﴾[الأنفال: 43]، ﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: 44].
ولوْ أنه لوْ قال (الأعداء) لكان في هذا تكثير لشأنهم وتهويل لأمرهم، كما جاء في
سياقٍ آخَر: ﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً﴾[الممتحنة: 2].
ومن ذلك -أيضًا- قوله تعالى: ﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى
مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ [الحشر :14]؛ فقد جاء بلفظ ﴿جُدُر﴾
وليس (جدران)، لتدلّ على أقصى درجات الكثرة، فقد أراد تصوير رعبهم وشدّة خوفهم
وحرصهم على حياتهم. فهُم لا يقاتِلون حتى يقيموا أكبر عددٍ ممكنٍ من الجدران
ليقاتلوكم مِن خَلفها. بينما لفظ (جدران) الذي هو على وزن (فعلان) تُستعمل للقلَّة
النسبيَّة، وهي لا تناسب سياق الخوف والجُبن. لذا؛ يقول
«سيبويه»:
إذا أردتَ أكثر العدد بنيتَه على (فُعُل)، كما في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُّسْتَنفِرَة﴾ [المدثر: 50].
= وقد يكون العدول عن لفظ لآخَر؛ لعدم الملاءمة مِن حيث المؤدَّى الأدبي، كقوله
سبحانه: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]. مع أنَّ صحة المقابلة في هذا النظْم،
تقتضي أن يقال:
«ليجزيَ
الذين أساءوا بالإساءة»
حتى تصح مقابلته بقوله: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}،
لكن عدل عن ذلك؛ توقيرًا لمقام الألوهية العليا، فحاشا لله -سبحانه- مِن أن يُسنَد
إليه فعل الإساءة!!
= وقد يكون العدول عن لفظ لآخَر: لأنه أدقّ في الوصف وأبلغ في التعبير من غيره[1]،
كما في لفظتيْ (زوج، وامرأة)، فلفْظ (زوج) تجده يأتي حيث يكون الموقف: لحِكمةٍ وآية
أوْ تشريع وحُكم، كما في قوله سبحانه: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ [البقرة: 35]. وقوله عزَّ وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [الروم:21]. وقوله تباركت أسماؤه:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ﴾ [الأحزاب: 28].
فإذا تعطّلت آيتها من السكَن والمودّة والرحمة بخيانة أو تبايُن في العقيدة؛ يطلق
عليها لفظ
«امرأة»
وليس لفظ
«زوج»،
إذْ فقدت صفة
«زوج»
هنا، كقوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ
نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ
فَخَانَتَاهُمَا..﴾ [التحريم: 10]. فبالرغم من أنهنَّ زوجات، لكن عَدَلَ إلى
لفظ امرأة؛ لكُفرهما. وكذلك: في قوله تعالى: ﴿امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} [التحريم
:11]. فبالرغم من أنها زوجته، لكن عَدَلَ إلى لفظ امرأة؛ لكُفر بَعْلها
الفرعون.
وتَفقد (الأرملة) صفة
«زوج»
لموت شريك حياتها: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ﴾ [آل عمران :35].
كما تفقد (العقيم، والعاقر) صفة
«زوج»
لعدم الإنجاب، ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي
عَاقِرًا﴾ [مريم: 8]، ولكن إذا زال سبب عدم الإنجاب، يُطلق عليها لفظ
«زوج»،
كما في قوله ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء
:90].
* * *
هذا؛ وقد اختلفتْ التفسيرات لهذه الظاهرة، خصوصًا ما ارتبط بالعدول عن المطابقة في
العدد (الإفراد، والتثنية، والجمع). فالبحث في العدول عن مطابقة العدد لا يكفي
بالتعليلات اللغوية، بلْ يعتمد على سَبْر أغوار النص القرآني، والوقوف على أسراره
البلاغية. وإليكم بعض مظاهر العدول عن مطابقة العدد في النص القرآني:
العدول عن صيغة المفرد إلى صيغة المُثنَّى:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ [النساء: 135].
في هذه الآية الكريمة جاء الضمير (بهما) بصيغة المثنَّى في قوله: ﴿فَاللَّهُ
أَوْلَى بِهِمَا﴾، وكان المتوقع من السياق أن يقال: (فاللهُ أولى به)؛ لأنه
يُحيل إلى اسم (يكن) وهو المشهود عليه، يقول الإمام القرطبي:
«وفي
الكلام إضمار، وهو اسم كان، أيْ: إنْ يكن الطالب، أو المشهود عليه غنيًّا فلا
يُراعَى لغِنَاه ولا يُخاف منه، وإنْ يكن فقيرًا فلا يُراعَى إشفاقًا عليه،
﴿فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾، أيْ: فيما اختار لهما من فقرٍ وغِنًى»[2].
والمتأمل يلحظ أنَّ استعمال (أو) في الكلام يدل على رجوع الكلام بعد العطف إلى شيء
واحد بخلاف الواو.
وفي السياق ذاته، يقول صاحب الكشّاف[3]:
«فإنْ
قلت: لِمَ ثنَّى الضمير في (أولى بهما)، وكان حقه أنْ يُوحَّد، لأنَّ قوله:
﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ في معنى إنْ يكن أحد هذيْن؟ قلت: قد رجع
الضمير إلى ما دلَّ عليه قوله: (إنْ يكن غنيًّا أو فقيرًا) لا إلى المذكور،
فلذلك ثنَّى ولم يُفرِد، وهو جنس الغَنيّ وجنس الفقير، كأنه قال: فاللهُ أولى
بجنسيْ الغني والفقير، أيْ بالأغنياء والفقراء».
وهذا النمط من العدول لا يخلو من فائدة تعميم الأولوية، ودفع تَوَهُّم اختصاصها
بواحد.
العدول عن صيغة المفرد إلى صيغة الجمع:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّه..﴾ [الطلاق: 1].
ففي هذه الآية الكريمة عدولٌ في الأفعال: (طلقتم- أحصوا- اتقوا- تُخرجوهن) التي
جاءت بصيغة الجمع، على الرغم من أنَّ الخطاب في أول الآية قد تقدَّم بصيغة المفرد
في قوله: (يا أيها النبيّ) فعدلَ عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع. والسر مِن تخصيص
النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخطاب، ثمَّ العدول إلى صيغة الجمع، له عدة وجوه:
- الأول:
الاكتفاء بعِلْم المخاطَبين بأنَّ ما خُوطِبَ به النبيّ صلى الله عليه وسلم خطاب
لهم، إذْ كانوا مأمورين بالاقتداء به، فخصَّه بالذِّكْر، ثمَّ عدل بالخطاب إلى
الجماعة، إذْ كان خطابه خطابًا للجماعة.
- الثاني:
أنَّ تقديره: يا أيها النبيُّ، قل لأُمَّتكَ: إذا طلقتم النساء..
- الثالث:
مجيء العدول على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع.
فتوجيه النداء للرسول صلى الله عليه وسلم مع عموم الخطاب لأُمتهِ هو تشريف له
وإجلال لقدرِه. وهذا يكثر في مقامات التعظيم والتكريم، كما أنَّ هذا التوجيه هو
أسلوب من أساليب التشريع، كما هو الشأن في موضوع الطلاق. وقد أشار
«ابن
فارس»
في (باب مخاطبة الواحد خطاب الجمع) إذا أُريد بالخطاب هو ومَنْ معه، ففي قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} خُوطِبَ (صلواتُ اللهِ عليه) بلفظ الجميع؛ لأنه أُرِيد هو
وأمّته.
العدول عن صيغة المُثَنَّى إلى صيغة المفرد:
قال تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 16].
يقول الزِّركشي [البرهان في علوم القرآن 2/240] في قوله تعالى:
«(فمن
ربُّكما يا موسى) أَيْ: وَيَا هَارُون، وَفِيهِ وَجهَانِ:
- أَحدهُما:
أَنَّهُ أَفرَدَ مُوسَى -عليه السلام- بِالنِّدَاءِ بِمَعنَى التخصِيص؛ إذْ كَانَ
هُوَ صَاحِبَ الرِّسَالَة.
- الثَّانِي:
لَمَّا كَانَ هَارُون أَفصَحَ لِسَانًا مِنْه، ثَبَتَ عَن جَوَابِ الْخَصْمِ
الْأَلَدِّ.
ومثله: (فلا يخرجنكما من الجنَّة فتشقى) إِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالشَّقَاءِ مِنْ
حَيْثُ كَانَ الْمُخَاطَبَ. وَقِيلَ: بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الشَّقَاءَ فِي
مَعِيشَةِ الدُّنْيَا فِي حَيِّزِ الرِّجَال. وَقَوْلِهِ: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ
فقولا إنَّا رسولُ ربّ العالمين}. وَنَحْوُهُ فِي وَصْفِ الِاثْنَيْنِ
بِالْجَمْعِ قَوْلُه: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾.
وقال: (هذان خصمان اختصموا) ولم يقل: اختصما».
فموضع العدول في قوله: (إنَّا رسول) حيث وردت لفظة (رسول) مفردة، مع أن ظاهر السياق
يقتضي تثنيتها، لِمَا تقدم من خطاب الاثنيْن في قوله: (فقولا)، وسِرّ هذا العدول:
أنَّ لفظة (رسول) من الألفاظ المشتركة، فهي تأتي بمعنى (المُرسَل)، لذا أُفرِدتْ في
قوله تعالى: (إنَّا رسول)؛ لأنها رسالة واحدة. وقد وردت كلمة (رسول) في سياق آخَر
بصيغة التثنية دليلًا على الرسوليْن موسى وهارون، وذلك في قوله سبحانه:
﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي
إِسْرَائِيل﴾ [طه: 47].
ومِن العدول عن المثنى إلى المفرد قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾
[المؤمنون: 50].
وموضع العدول في قوله: (آية) حيث كان المتوقع من السياق أنْ يقال: (آيتيْن) وسبب
العدول إلى المفرد أنَّ شأن عيسى وأُمّه واحد، وكل منهما صار آيةً بالآخَر كما يقول
الإمام الألوسي:
«أيْ:
آية دالَّة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مَسّ بشر، فالآية أمر واحد مشترك
بينهما فلذا أُفرِدت. أيْ: جعل ابن مريم آية لِمَا ظهر فيه -عليه السلام- من
الخوارق؛ كتكلُّمهِ في المهد، وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك،
وجعل أُمَّه آية بأنْ وَلَدت من غير زواج»[4].
العدول عن صيغة المُثنَّى إلى صيغة الجمع:
قال تعالى: ﴿وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}
[الحجرات: 9].
وموضع العدول في الآية الكريمة، قوله عزَّ وجل: (اقْتَتلُوا) بلفظ الجمع؛ إذْ عدَلَ
عن المثنى في قوله: (طائفتان)، وكان المتوقّع من ظاهر السياق أن يقال: (اقتتلتا).
وسِر العدول في ذلك يعود إلى أنَّ لفظ (طائفة) الذي يدل على (الجمع)؛ لأنَّ
الطائفتيْن بمعنى القوم والناس. فالطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنيْن،
فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ، وهكذا فإنَّ ضمير (اقتتلوا) يعود على (طائفتان)
باعتبار المعنى؛ لأنَّ الطائفة تعني الجماعة.
العدول عن صيغة الجمع إلى صيغة الإفراد:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾
[الفرقان: 74].
يبدو من ظاهر الآية غياب المطابقة بين اللّفظيْن (اجعلنا) و(إماما)، وكان
المتوقع بحسب السياق أن يأتي اللفظ الثاني بصيغة الجمع: (أئمة) ليتناسب مع ضمير
الجمع في قوله (واجعلنا). ويُعلِّل الزمخشري هذا العدول بقوله:
«أراد:
أئمة، فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ أوْ أرادوا اجعل كل واحد مِنَّا إمامًا.
ومن الآيات الأخرى التي تنتفي فيها المطابقة:
قوله: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ
تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: 4].
فكلمة (ظهير) بمعنى أعوان، والعدول عن الجمع إلى المفرد يُوحي بالتوحُّد، وشدة
التناصر، أيْ: أنَّ الملائكة على عددهم، وامتلاء السماوات من جموعهم، بعد نصرة الله
وناموسه وصالحي المؤمنين؛ كلهم يد واحدة على مَن يعاديه.
العدول عن صيغة الجمع إلى صيغة المُثنَّى:
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: 30].
نجد في هذه الآية عدولًا، وذلك في قوله (كانتا) بلفظ التثنية، وكان المتوقع من
السياق أن تكون بلفظ الجمع، فيقال: (كنَّ) لِمَا تقدم من ذِكْر الجمع، ولكنه عدل
إلى لفظ التثنية مؤثرًا إياه على الجمع، وذلك لأنَّ الضمير يعود على الجنسيْن، أيْ:
جنس (السماوات) وجنس (الأرضين).
وإلى هذا قال العلماء:
«إن
السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما. أو كانت السماوات متلاصقات، وكذلك
الأرضون لا فرج بينها ففتقها اللهُ وفرّج بينها. وقيل: ففتقناها بالمطر والنبات بعد
ما كانت مصمتة، وإنما قيل: كانتا دون كنّ، لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض».
ثم عدل إلى إفراد الخبر (رتقًا) ولمْ يُثنِّه؛ حيث كان القياس أن يُثنى ليطابق
الاسم فيقال مرتوقتيْن، وإنما أفرد، لأنه مصدر قصد به المبالغة.
مِن هنا نعلم: أنَّ
«العدول»
أحد أسرار لغة القرآن، ومَظهر من مظاهر الطاقة الإبداعية للغة العربية، وهي ظاهرة
تدعو المتلقّي لإمعان النظر، وتُفسح له المجال للتأمل والتفكير، واستلهام ما في
النص القرآني من دُرَرٍ مخبوءة ومعانٍ لطيفة، وتُحفِّزه على البحث عن أسرار ذلك
العدول ودلالاته البلاغية. كما يكشف عن جانب من جوانب الإعجاز اللغوي في نَظْم
القرآن الكريم الذي يوضع فيه الواحد موضع الجمع والعكس، والواحد موضع المثنَّى
والعكس، والمثنّى موضع الجمع والعكس، دون أن يحس القارئ باضطراب التركيب واختلال
المعنى في هذا النص المُعجِز!
[1] البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/233-241.
[2] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، مكتبة الحلبي، 1974م.
[3] تفسير الكشاف، للزمخشري، مكتبة الحلبي، 1978م.
[4] روح المعاني في تفسير القرآن، للألوسي.