حوار مع الشيخ الدكتور "حارث الضاري"

حوار مع الشيخ الدكتور "حارث الضاري"


أجرى الحوار: حارث الأزدي


 أكد الشيخ الدكتور (حارث سليمان الضاري) أن المقاومة العراقية هي البدر المنير في سماء العراق المظلمة على مدى 9 سنين، مشيداً بدور المقاومة التي صنعت هذا النصر العظيم؛ فهي التي رفعت رأس العراقيين عالياً وجعلتهم يشمخون بما حققه أبناؤهم المقاومون.

وأوضح الشيخ في حوار خص به مجلة البيان أن الاحتلال الأمريكي لم يترك العراق كلياً؛ فلديهم 3000 آلاف عسكري تم تدريبهم في الولايات المتحدة كقوات خاصة وأعادتهم إلى العراق؛ ليقوموا بمهمات خاصة وهم يمتلكون الأسلحة اللازمة للقيام بالواجبات الموكلة إليهم في مساندة القوات الأمنية الحكومية، مبيناً أن الانسحاب الأمريكي من العراق هو انسحاب جزئي وليس تامّاً كما أعلن رئيسهم، فالأمريكان لم يتركوا العراق تماماً؛ حيث إن لهم عدداً يمكن وصفه بالكافي لحراسة مصالحهم وحلفائهم في العراق.

ووصف الشيخ الضاري دعاة الفدرالية بأنهم القابضون أثمان خياناتهم وأن مشروع الفدرالية الذي جاء به بايدن (نائب الرئيس الأمريكي) هو خسارة لكل العراقيين لما سيؤدي إليه من إمارات دكتاتورية عائلية تريد أن تبني لأنفسها مجداً، ولو على بؤس وشقاء أبناء العراق.

وفي ما يلي نص الحوار:

البيان: ما هي رؤيتكم في هيئة علماء المسلمين لإعلان الانسحاب الأمريكي من العراق؟

الانسحاب الأمريكي من العراق هو انسحاب جزئي وليس تامّاً كما أعلن رئيسهم؛ فالأمريكان لم يتركوا العراق تماماً؛ إذ لهم عدد يمكن وصفه بالكافي لحراسة مصالحهم وحلفائهم في العراق؛ فلديهم 3000 آلاف عسكري تم تدريبهم في الولايات المتحدة كقوات خاصة وأعادتهم إلى العراق؛ ليقوموا بمهمات خاصة وهم يمتلكون الأسلحة اللازمة للقيام بالواجبات الموكلة إليهم في مساندة القوات الأمنية الحكومية. كما أن هناك قرابة 3500 عسكري ستُعهَد إليهم مهمة حماية الأجواء العراقية، فضلاً عن 16000 ألف أمريكي منهم رجال المخابرات ومنهم من القوات الخاصة، لحراسة السفارة الأمريكية والقنصليات في المحافظات. وأيضاً ليقوموا بمهام التدريب والمساندة والمساعدة والاستشارة وما إلى ذلك. ومن هنا نقول: إن الانسحاب ليس تاماً كما يدَّعون! نعم، انسحبت أغلب قواتهم والحمد لله، وهذا بفضل الله ثم بفضل المقاومة، ويعد إنجازاً كبيراً للشعب العراقي ومقاومته الباسلة.

البيان: بماذا تفسرون إعلان الرئيس الأمريكي الانسحاب من العراق، وهل مردُّ هذا إلى الجهل أم الخداع؟

 

هو يتجاهل أو يريد أن يتجاهل؛ ليغطي جرائم الأميركيين في العراق، وليبرر انسحاب قواته من العراق أمام خصومه ومعارضيه؛ وإلا فهو أعرف بما يجري في العراق؛ فله عيون كثيرة؛ له عسكره، ومخابراته وعملاؤه، وله أيضاً زُمَر من أصحاب العملية السياسية الذين يتعامل معهم أو تتعامل معهم سفارته ومخابراته ومخابرات الدول الأخرى. وهو مطَّلع بلا شك على ما تكتبه وما تنشره وسائل الإعلام نقلاً عن لجان حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية ومنظمة «هيومن رايتس» المعنية بحقوق الإنسان وغيرها مما يجري في العراق من انتهاك واسع ومنظم لحقوق الإنسان العراقي على يد قواته وعلى يد الأجهزة الأمنية للحكومة التي يقوم بدعمها؛ فالرئيس الأمريكي متجاهل وليس بجاهل؛ وبذلك يُعَد كاذباً ومزيفاً وغير صادق مع شعبه ولا مع العالم، ومن ثَمَّ فهو كسلفه (بوش) في الخداع وتزييف الحقائق.

البيان: ما أهمية خطوة الانسحاب بالنسبة للسياسة الأمريكية في هذه المرحلة؟

في تقديري لم تكن ورقة مهمة؛ فقد استخدمها أوباما سابقاً في الانتخابات، حينما قال سأسحب القوات الأمريكية سحباً مباشراً بعد تعييني رئيساً، وها هو الآن وبعد نحو عامين من تعيينه رئيساً للولايات المتحدة يعلن الانسحاب، ومع هذا فالانسحاب لم يكن كلياً وإنما هو جزئي ولم يخرج الاحتلال كاملاً من العراق كما سبق أن ذكرت في الإجابة عن السؤال الأول؛ فلذلك لا يُعَد هذا الانسحاب في تقديري ورقة ناجحة كما كانت يوم استخدمها عند ترشيحه لانتخابات الرئاسة.

البيان: ما حقيقة الدعوة إلى الفيدرالية في العراق، ومن يقف وراءها؟

ليست الدعوة إلى الفدرالية جديدة؛ فهي تعود إلى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولكن تجددت الدعوة إليها بعد احتلال أمريكا للعراق من شركاء العملية السياسية الذين اتفقوا على (فدرلة) العراق وتقسيمه في مؤتمراتهم سنة 2001م ، وسنة 2002م في صلاح الدين، ثم بعد ذلك في مؤتمر لندن عام 2002م؛ حيث اتفقوا جميعاً على (فدرلة) العراق سعياً من بعض الأطراف إلى تقسيمه في النهاية، والأمريكيون هم وراء التقسيم؛ فالكل سمع بمشروع بايدن الذي ما يزال صاحبه يتابعه بجد ونشاط، وإن أظهر في بعض المراحل تراجعه أو تأجيله أو تجميده. فأمريكا مهتمة بالتقسيم؛ لأن التقسيم مطلب بريطاني ومطلب صهيوني ومطلب لبعض الأمريكيين من رجال الإدارة السابقة وغيرهم في الحزب الجمهوري، وكذلك الحزب الديمقراطي، وهو أيضاً مطلب لإيران ولبعض الدول المجاورة الأخرى ومطلب داخلي للقيادات السياسية الكردية والقيادات السياسية الشيعية، لكن من المؤسف أن يطالب به أناس رفضوه في البداية، أو رفضوا الدستور الذي يشرعه ثم أقروا به بعد ذلك، ومن المؤسف أيضاً أن يطالب بالفدرالية أناس ما كنا نظن أن يجرؤوا أن يقولوا هذا مع علمهم أن التقسيم هو مشروع لأعداء العراق.

بعد ذلك نقول: هل التقسيم علاج لما في العراق؟ التقسيم ليس علاجاً؛ وإنما هو هروب وإنشاء لإمارات يرأسها الفاشلون الذين كانوا ولا يزالون أدوات وخدماً للمالكي ولمن قبله (الجعفري)، وثمة آخرون خدم للخدم، لخدم أمريكا وإيران، هؤلاء البائسون عندما علموا أن المالكي يتجه إلى تركهم وإلى إقصائهم وإلى الاعتماد ربما على غيرهم طالبوا بالفدرالية بحجة إقصاء (أهل السنة) أو إيذاء (أهل السنة) أو حماية (أهل السنة) الذين همشهم المالكي ولم يعلموا أن العراقيين جميعهم مهمشون (سنة، وشيعة، وحتى الأكراد) واليوم كثير من الأكراد في الشمال ليسوا أقل بؤساً من بؤس إخوانهم العراقيين في الوسط وفي الجنوب، أما علمت أن هذه الفدراليات اجتمع هؤلاء الدعاة لها وقسموها في ما بينهم؛ فهم لم يقسِّموا العراق وإنما قسَّموا (أهل السنة) علماً أن الفدرالية إجمالاً هي خسارة لكل العراقيين؛ خسارة للسنة وخسارة للشيعة وخسارة حتى للأكراد؛ لأنها ترمز إلى إمارات دكتاتورية عائلية تريد أن تبني لأنفسها مجداً، وكما يقول العراقيون: (حلوة الإمارة ولو على الحجارة)، بل ولو على بؤس وشقاء أبناء العراق سنة وشيعة.

أقولها بصراحة: هؤلاء قبضوا أثمان تقسيم العراق، وموته ودفنه وإلغائه من عدة جهات؛ قبضوها نقداً وعدّاً، بعد أن رتبوا أحوالهم في الخارج و(أمََّنوا مستقبلهم) كما يقول بعضهم في الخارج؛ لذلك هم لا يسألون عمن في الداخل، ولم يسألوا عن العراق وولا عن شعبه وإن تباكى بعضهم على العراقيين وعلى الأهل كما يقول بعضهم: (أهلنا، وأهلنا)؛ فهل يعترف هؤلاء بأهلهم الذين عاشوا على رقابهم وباسمهم نحو تسع سنين ولم يقدموا لهم شيئاً إلا الخيبة والفشل والدمار.    

البيان: المتابع للشأن العراقي يلاحظ باستغراب رفض المالكي للفدرالية! لماذا يرفض المالكي الفيدرالية برأيكم؟       

المالكي كاذب في ادعائه الحرص على وحدة العراق وعدم تقسيمه، والدليل على ذلك: أن حزبه حزب الدعوة كان ممن اشتركوا في المؤتمرات التي ذكرتُها سابقاً وممن اتفقوا على الفيدرالية وتعهدوا بها لجهات أجنبية خارجية، ثم لما جاء الاحتلال وشارك حزب الدعوة كان المالكي هو من المتصدرين من رجال حزب الدعوة وكان يرأس الائتلاف الرسمي الحكومي في مؤتمر الوفاق العراق في سنتي (2005 - 2006م) في القاهرة، وكان هو المتكلم باسم الجميع، وكان يدافع عن العملية السياسية ويدافع عن الدستور، وهو من أشد المدافعين عن الدستور والمتمسكين به؛ لأن الدستور خدمه وأعطاه كثيراً من الصلاحيات، فهو متمسك بهذا الدستور الذي نص على الفدراليات والتقسيم. وهو يدَّعي الوطنية ويدَّعي الإخلاص وعدم الطائفية والحرص على العراق وهو من كل هذا بريء؛ لأنه يأتمر بأمر أمريكا وبأمر إيران ولم يعمل للعراق شيئاً ولا للعراقيين؛ فهو يخشى من الأقاليم لأسباب عديدة، منها: مخافة أن تتفلت محافظات في الجنوب أيضاً وتنشأ أقاليم ومن ثَمَّ تتبدد سلطته وتضيع قبضته على العراق كله، هذا العراق الذي أسلمته مقاليد حكمه أمريكا وأكدتها له إيران.

البيان: بكلمات موجزة شيخنا الفاضل! ما الذي يجري اليوم في العراق؟

ما يجري في العراق اليوم هو امتداد لما جرى في السنوات السابقة، وكان البعض يتوقع أن الأوضاع ربما تتحسن بعض الشيء أو أن السياسيين (أو ممن يسمَّون بالسياسيين العراقيين من أرباب العملية السياسية) يتعقلون أكثر فأكثر ليكونوا مقبولين أو لينظر إليهم الشعب العراقي نظرة تختلف عن النظرة السابقة، وإذا بهم - وهذا ما كنا نتوقعه - ينتقلون بالأوضاع من سيئ إلى أسوأ ومن شر إلى شرٍّ منه، ومن بؤس إلى بؤس؛ إذ رأينا المالكي بعد إعلان أوباما الانسحاب وقبل أن يعلنوا إتمام انسحابهم يقوم بحملة من الاعتقالات والاغتيالات والمطاردات لكثير من أبناء العراق على مختلف توجهاتهم رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، من البصرة إلى الموصل ومن القائم إلى العمارة شرقاً، نراه يقوم بهذه الحملة المسعورة ولم يتوقف إلى اليوم، واعتقل حتى المرضى والأطفال. قتلت قواته الأمنية كثيراً من العراقيين، من عسكريين ومدنيين من جميع الجهات والفئات العراقية التي يُعتقَد أنها ليست له أو أنها معارضة له أو حتى المشاركة له في الحكم، وإذا به يوالي تصريحاته التي يعبِّر فيها عن إصراره على إقصاء الغير وعلى تقليص حجم الخصوم وعلى الإزباد والإرعاد والوعيد والتهـديد لكـل من يخالفـه أو لا يسير في نهجه منذ ذلك الإعلان وإلى يومنا هذا. وقد أعاد اليوم أيضاً نغمة التكفير والإرهاب بعد التفجيرات الأخيرة الدامية التي حدثت في بغداد وفي مدن عراقية أخرى في كثيـر من المحافظـات. ولا يختلـف اثنان - إلا من كان له مصلحة مع هذا النظام أو يؤيدهُ - أن ما جرى ولا يزال يجري من افتعالات أمنية ومن تفجيرات واغتيالات وما إلى ذلك؛ ما هي إلا بتدبير المالكي وسلطاته الأمنية وأجهزته التي تخدمه وتخدم حزبه وتخدم المشروع الذي أوكل إليه المحافظة عليه (مشروع الاحتلال) وكذلك المصالح الإيرانية.

البيان: هل تخشون من التشظي الطائفي والعرقي في عراق اليوم، بين أهل السنة والشيعة من جهة وبين العرب والأكراد من جهة ثانية؟

أنا بكل تأكيد أقول: لا يوجد انقسام طائفي الآن بالذات على المستوى الشعبي؛ نعم ربما كان هناك من روَّج لهذا في بداية الاحتلال ووجد شيئاً من القبول لترويجه بحكم ظروف تلك المرحلة؛ لكن الآن وبعد أن عرف أبناء شعبنا من الشمال إلى الجنوب، شيعة وسنة، وعرباً وأكراداً وتركماناً وغيرهم أن أعداءهم هم أمريكا وإيران والقوى المتحالفة معهما في الداخل المتمثلة بأرباب العملية السياسية الذين يساهمون - علموا بذلك أم لم يعلموا - في صناعة المشروع الأمريكي لتدمير العراق وتقسيمه واستعباده وإلغائه من خريطة منطقة الشرق الأوسط، فإنه لا يوجد انقسام طائفي كما يشاع؛ فالسنة والشيعة والأكراد يعرفون أعداءهم الآن ويعرفون مصلحتهم، وهي تكمن في وحدة العراق وفي الاتفاق الشعبي في التسامح والتلاقي والوحدة من أجل تحرير العراق وعودته إلى أهله. والانقسام الطائفي الحقيقي الآن هو بين  أصحاب العملية السياسية، فهؤلاء الذين استخدموا الطائفة غطاءً لأعمالهم ولمصالحهم، فلا يوجد انقسام طائفي شعبي حقيقي؛ وإنما يوجد انقسام سياسي بين أطراف أو بين دمى العملية السياسية؛ فهم عندما يختلفون على قضية من القضايا أو إذا أراد أحدهم أن يقصي الآخرين أو أقصي من قِبَل الآخرين فإنما يلجأ إلى إثارة هذا الموضوع، فالسنة والشيعة كلهم بِرَاء من أرباب العملية السياسية الذين رهنوا العراق للأجنبي وخدموا الأجنبي على حساب بلدهم وأبناء شعبهم.

وسيستمر هؤلاء على هذا النهج من إثارة الشحن الطائفي، وسيبتكرون الوسائل الكثيرة لإبقاء الجو العراقي مشحوناً بكل الاحتمالات وبكل الأحداث ظناً منهم أن هذا سيعطيهم وقتاً، وسيعطيهم أملاً فـي الاستمرار أكثر حتى يصلوا إلى نهاية هذه المرحلة الانتخابية،  ويشاركوا في المرحلة الانتخابية القادمة؛ فآمالهم بالبقاء كبيرة على الرغم من سوء أفعالهم، وعلى الرغم من كره الشعب العراقي لهم وإظهاره العداوة لهم فهم سيبتكرون كثيراً من الوسائل التي تبقي الجو في العراق مضطرباً ومشحوناً بكل الاحتمالات.

البيان: ما دور المقاومة العراقية في ظل هذه الأوضاع الصعبة والمتداخلة؟

المقاومة هي البدر المنير في سماء العراق المظلمة على مدى 9 سنين، المقاومة هي التي صنعت هذا النصر العظيم وهي التي رفعت رأس العراقيين عالياً وجعلتهم يشمخون عالياً بما حققه أبناؤهم المقاومون الذين واجهوا أعتى قوة عالمية وأرغموها ومرغوا أنفها في التراب وألحقوا فيها ما ألحقوا من الخسائر التي ذكرها الأعداء قبل الأصدقاء، المقاومة هي عز العراقيين وهي شرفهم، وهي التي ذادت عنهم وعن العراق؛ ولذلك هؤلاء الذين يدعون إلى التقسيم يريدون أن يهربوا من استحقاقات تحرير العراق؛ لأن من استحقاقات تحرير العراق على يد المقاومة محاسبةُ المقصرين والعملاء والمتعاملين مع الاحتلال الذين وصلوا بالعراق إلى هذا الوضع المأساوي الذي يشهده العراق، والذي أصبح فيه في مؤخرة الدول البائسة والفقيرة وغير المستقرة في العالم.

سيبقى دور المقاومة كما كان في السنيين التسع الماضية حتى يتحرر العراق من بقايا الاحتلال، وحتى يتحرر من التدخلات الخارجية من شؤونه، وحتى تنتهي مشاريع الاحتلال وفي مقدمتها الدستور والعملية السياسية البائسة ونتائجها التي أبادت شعب العراق ووصلت به إلى هذه المستويات المعروفة لنا ولكم وللمراقبين من البؤس والشقاء والدمار.

البيان: هل هناك علاقة تأثر وتأثير بين الشعب العراقي وبقية الشعوب العربية في الثورات ضد الدكتاتوريات؟

بالتأكيد تأثر الشعب العراقي فعلاً، لولا بطش المالكي وشركاؤه في العملية السياسية، الذين هبُّوا كلهم لإخماد هذا الحَراك الشعبي الذي بدأ يوم 25 شباط من العام الماضي، وإنهاء الثورة الشبابية والانتفاضة الشعبية التي عمَّت 16 محافظة من محافظات العراق؛ واستشهد في اليوم الأول من هؤلاء الثائرين المنتفضين 25 شهيداً، كما جرح المئات واعتقل المئات ولا زالوا يطارَدون. ومع الأيام استطاع المالكي بأجهزته الأمنية وإغراءاته المالية لضعفاء النفوس من بعض رؤساء القبائل والسياسيين تهدئة الشوارع. وساعده في ذلك دعاة الأقاليم؛ حيث انتشروا في كثير من المحافظات وطلبوا من الوجهاء ومن رؤساء القبائل ومن علماء الدين (أو من يسمَّون بعلماء الدين)، طلبوا منهم بذل الوسع في تهدئة الشارع الثائر ما أمكن؛ لأن المظاهرات قد لا تكون في صالح العملية السياسية وإنما قد يستغلها بعضهم لكذا وكذا كما قالوا. لذلك أقول: دعاة الإقليم أو الإقليمية لو كانوا صادقين في أن الدافع الأساسي لهم هو مصلحة أهلهم أو ناخبيهم أو شوارعهم كما يزعمون، لتركوا هذه الشوارع تتظاهر وتعتصم وتثور حتى تصل في النهاية مع غيرها من المحافظات الأخرى إلى تحقيق التغيير. ومن هنا أقول: تأثر العراقيون بالحَراك الشعبي العربي أو بما يسمى بالربيع العربي، كما أن الربيع العربي تأثر من قبل بفعل المقاومة العراقية الجبار الذي أعطى الشعوب العربية قناعة بأن الشعوب إذا صمدت تستطيع أن تفعل كل ما تريد.

البيان: كيف يمكننا المقارنة بين الواقع العراقي الحالي، وبين ما تعانيه شعوب المنطقة التي ثارت ضد الظلم؟

إذا كانت الأسباب لبعض الشعوب العربية والدافع لها على الثورة هو ظلم بعض الحكام لها؛ فإن ما يعانيه العراقيون من ظلم هو أكثر بكثير مما فعله  كل الحكام العرب الذين ثارت عليهم شعوبهم، وما جرى في العراق يعدل في تقديري 80 ٪ مما جرى من ظلم ومظالم وإقصاء من قِبَل هؤلاء الحكام، كما أن العراقيين ليسوا أقل حاجة إلى الحرية وإلى الكرامة وإلى امتلاك الإرادة وحكم بلدهم بأنفسهم بلا وصاية وبلا احتلال وبلا استعباد.

البيان: نشهد ارتباكاً وخوفاً واضحاً يعتري المنخرطين في العملية السياسية في ظل الاحتلال في العراق، تُرَى ما السبب؟

 لهم أن يخافوا ولهم أن يرتبكوا؛ لأنهم قتلة وسرَّاق ودلالون للأجنبي وللغريب على بلدهم وعلى أبناء جلدتهم؛ فقد ارتكبوا من الجرائم ما لا يحصى وما لا يُعَد وارتكبوا من الآثام شيئاً كثيراً، أكلوا وشربوا ونهبوا وكذَّبوا وتمالؤوا على العراق وأبنائه وعلى مقاومته؛ لذلك لهم أن يخافوا لأن الشعب أحصى عليهم كل هذا ولأن الشعب يريد أن يثور عليهم وسيثور عليهم في الوقت المناسب بعون الله تعالى، وسيُطِيح بهم كما أطاحت الشعوب الأخرى بغيرهم من الظلمة.

 البيان: فضيلة الشيخ! كلمة أخيرة عن العراق، هل تراه سيعود قوياً مؤثراً في المنطقة بعد زوال الاحتلال بشكل كامل؟

هذا هو العراق في كل تاريخه قبل الإسلام وبعد الإسلام؛ كلما غُزي من قِبَل أعدائه الخارجيين يبقى صامداً بعد كل ما يجري فيه من خراب ودمار وقتل وتشريد وتهجير، ولعلك تلاحظ أن أغلب المشاهد الحالية في العراق قد جرت على العراق والعراقيين قبل الإسلام وبعد الإسلام. ويهمنا هنا الحديث عما جرى بعد الإسلام؛ فقد تعرَّض العراق لأربعة احتلالات كبيرة عدا التدخُّلات والاحتلالات الجزئية.

الاحتلال الأول كان من قِبَل البويهيين الذين احتلوا العراق وحكموه فترة ثم نهض العراقيون وغيرهم من أبناء الأمة الذين انتصروا لهم واستجابوا لدعواتهم وشاركوهم في تحرير العراق، فعاد العراق موحداً. إلا أن أهله كانوا لا يفكرون في التقسيم والتمزيق؛ لأن التقسيم والتمزيق يعد خيانة عظمى وإثماً شرعياً.

وحينما ذهب البويهيون بعد ذلك بفترة جاء التتار بقيادة هولاكو فدخل بغداد وفعل ما فعل مما حكاه التاريخ مما يُدمي القلوب، ثم بعد ذلك تنادى المسلمون من عراقيين وغيرهم من سوريين ومصريين وفلسطينيين وغيرهم؛ لمواجهة هذا الخطر الداهم فمزقوا التتار شرَّ ممزق حتى انتهت موجتهم الكبيرة في دار الإسلام والمسلمين بين العراق والشام، وانتهى التتار إلى اليوم؛ فمنهم من أسلم ومنهم من قُتِل ومنهم من أقام في كثير من الدول في منطقة الشرق الأوسط وفي غيرها.

ثم جاء غيرهم وغيرهم حتى جاء البريطانيون عام 1914م؛ حيث أرادوا أن يحتلوا العراق وصُدوا منذ سنة 1914م حتى سنة 1916م وقُتِل كثير من قواتهم وحوصروا الحصار المعروف في الكوت (محافظة واسط)؛ حيث حوصر (15000) ألف عسكري بريطاني ومات كثير منهم جوعاً واستسلم الباقون، ثم أعادوا قوَّتهم وعدَدَهم وعُددهم في سنة 1916م واستمروا حتى احتلوا بغداد عام 1917م وبقوا في العراق إلى سنة 1920م، وهم يَعِدُون العراقيين بأنهم جاؤوا محررين لا فاتحين؛ ولكنهم فعلوا الفعل عينَه الذي فعله الأمريكيون حين قالوا: جئنا نحرركم من صدام أو من النظام السابق، وبئس هذا التحرير وبئس ما ادَّعوا. وبعد مضي ثلاث سنين طالبهم العراقيون بالرحيل فأبَوا وثاروا عليهم من الشمال، من زاخو والعمادية ودهوك والموصل وحتى الجنوب مروراً بالوسط والشرق والغرب، في ديالى وكربلاء والنجف والناصرية والبصرة وبغداد والأنبار، كل هذه المناطق ثارت على الاحتلال البريطاني وأرغمته على تحقيق بعض المطالب لهم.

 لن يطالب العراقيون لا سُنة ولا شيعة ولا عرباً ولا أكراداً بعد رحيل الاحتلال بتقسيم العراق، علماً أن الشعب العراقي كان لا يتجاوز عدده 3.000.000 أو حتى 3.500.000 نسمة، واليوم عندما وصل الشعب العراقي إلى 30.000.000 - وأكثرهم مثقفون وأغلبهم من أصحاب الغيرة، وكلهم عرب ومسلمون - نجد بعض من جاء مع الاحتلال أو من شارك في مشروعه بعد مجيئه من الداخل؛ يطالبون بتقسيم العراق وما دروا، أو لعلهم يدرون، بل هم يدرون أن التقسيم هو أحد أهداف أمريكا بعد احتلال العراق وتسريح جيشه وتدميره، فهو المطلب المهم بعد انسحاب الاحتلال الأمريكي وحلفائه في العراق. فتباً لهؤلاء الدعاة، وهؤلاء لا يمثلون السنة، كما أن دعاة الأقاليم في الجنوب لا يمثلون الشيعة؛ ولذلك أقول: الشعب العراقي بأجمعه بسنته وشيعته بعربه وأكراده وتركمانه ومسلميه ومسيحييه بِرَاء من هؤلاء؛ لأنه لا يثق بهم ولأنهم لم يعملوا شيئاً يُذكرون عليه بخير لبلدهم وشعبهم.

 

 

أعلى