• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الشَّحن والإفراغ وأثرهُما السلبي على البحث العلمي

الشَّحن والإفراغ وأثرهُما السلبي على البحث العلمي


 للبحث العلمي ضوابط ومناهج على كل باحث أن يتقيد بها في بحثه، حتى يمكن أن يُعدَّ منتوجه بحثا علميا، وكم من البحوث العلمية اليوم تحمل هذا الاسم وليس لها من نصيبه شيء، ومن تصفح ما ينتجه بعض الباحثين على اختلاف درجاتهم العلمية يلاحظ أن هناك أمرا تواطأ الباحثون على التكثير منه، ويعدونه أمارة دقة ودلالة ضبط؛ ذلك الأمر هو كثرة النقول من المصادر والمراجع، وإيرادها في مقامات لا تقتضي قواعد البحث إيرادها فيه.

ونقل النصوص وإيرادها للاستدلال والاستشهاد بها، لا أحد يقول بقبولها أو ردها إطلاقا؛ بل لابد من التزام ضوابط النقل وقواعده؛ ليلا يصبح البحث نسخة مستخرجة من مجموعة كتب فقط؛ فالإفراط في النقل يضر بالبحث وقيمته العلمية، ويفقده قيمته النوعية.

 وفي عدد من البحوث تجد مباحث بكاملها ليس فيها من كلام صاحب البحث إلا أسطرا، وما إن ينتهي الباحث من إيراد قول لزيد أو عمرو من الناس إلا وينتقل لإيراد قول آخر لغيره مشابه، ثم يورد قولا ثالثا على سبيل التأكيد لما أتى به، وقد يورد نقلا رابعا لتأكيد ما أكد به، وهكذا تسود صفحات عدة بكلام الغير بشكل تسلسلي وأحيانا متقطع في كافة مباحث البحث، ويصير البحث عبارة عن أقوال الآخرين أما قول الباحث الذي سينسب البحث إليه فغائب، وعمله في البحث يكاد ينحصر في التنسيق بين الجمل والفقرات ثم وضع لائحة المصادر والمراجع وفهرس البحث.

 وسبب اللجوء إلى كثرة النقل لدى الباحثين، يرجع إلى أمرين:

الأول: يتعلق بالباحث؛ حيث تجده في غالب الأحوال عاجزا عن إضافة أي جديد أو مناقشة ما قيل، فيكتفي بإيراد أقوال الناس ونسخها من هاهنا وهاهنا، ويقول في النهاية: “ هذا بحثنا”.

 ومن تصفح عددا من الرسائل والبحوث المقدمة لنيل الدرجات العلمية -على اختلافها- يجدها طافحة بالنقول مليئة به، فقراتها نقلت نقلا مشتتا ثم أضيف بعضها إلى بعض، وهي بذلك لا تعدو أن تكون نسخا مكررة، ولا تضيف للبحث أي قيمة علمية؛ ولا يستفيد من البحث سوى الباحث الذي نال به درجة علمية معينة، وإذا كان الباحثون القدامى يجدون عناء في النقل ويكلفون أنفسهم مشقة البحث عن النصوص في المصادر والمراجع، وقراءة عدة كتب للوصول إلى نص للاستشهاد به في البحث؛ فقد كان ذلك مما يستفيدونه في عملية النقل، أما اليوم ومع ما تيسر من وسائل-على الرغم من إيجابياتها-أصبحت كتابة البحث أمرا هينا ويسيرا لدى من لا يقدر البحث العلمي قدره؛ حيث يعتمد عدد من الباحثين على النقل المباشر للنصوص والتي يصلون إليها بطريقة مباشرة، وقد لا يعرفون الكتاب الذي توجد فيه. ولا يستغرق الباحث في نقل عشرات النصوص سوى بضع دقائق، وينجز بحثا بعشرات الصفحات كان من قبل يتطلب سنوات وأصبح اليوم يتطلب أشهرا أو أياما، ولسنا ننكر بهذا الاستفادة مما تيسر من الوسائل التقنية؛ بل ذلك مطلوب لاختصار الجهد والوقت، لكن ما ننكره هو الإفراط في النقل والركون إلى الموجود، وعدد من البحوث العلمية اليوم عبارة عن مستخرجات، لو وجد من يحترم البحث العلمي لانتزع من أصحابها ما نالوا عليها من درجات منحت لهم زورا، ليس لهم فيها من عمل سوى النسخ والتنسيق والترتيب، وبعض المتجنين على البحث العلمي لا يحيلون إلى ما ينقلون ويوهمون القارئ أن ما أتوا به من قريحتهم وإبداعهم، وعند التمحيص تجد صفحات مطولة سرقت بدون إحالة أو إشارة، وقد اكتشف أمر بعضهم ممن كان يزعم ويدعي أنه من كبار الكتاب والمحققين؛ فافتضح أمره ونشر على الملإ، والسرقة بهذا الشكل عمل مشين ما كان ينبغي أن تجد لها موطئا لدى الباحثين؛ لكن الشره والوله بالمناصب والدرجات سوغ كل شيء وأمات ضمير الأمانة والدقة. 

الثاني: ما يتعلق بالجهة المشرفة على البحث من تشدد غير لائق في بعض الأمور ووقوف عند بعض الجزئيات التي أسيء فهمها من قبل المشرفين على البحث أنفسهم، من ذلك إلزامهم الباحث الذي يبحث تحت إشرافهم بالتدليل لكل ما أتى به، والاستشهاد له بالنقول والأقوال، وتجد الباحث أحيانا يتكلف ذلك تحت ضغط الجهة المشرفة على البحث، وقد يقتبس نصوصا لا علاقة بالفكرة التي يريد الاستشهاد لها، ولربما نسب قولا إلى من لم يقله، وقد يوثق ذلك ويثبته ليسلم من انتقاد المشرف الذي لا يكلف نفسه عناء الرجوع إلى تلك المصادر والتأكد مما يورده الباحث، أو تجده يطنب في كثرة النقول وأحيانا تكون متناقضة فلا تزيد القارئ إلا حيرة وضلالا، ويستشهد للمسألة الواحدة والفكرة القصيرة بأقوال عدد من الأئمة والأعلام، وقد كان يكفي إيراد استدلال واحد للمسألة، والاكتفاء بالإشارة إلى ما اطلع عليه من كلام في المجال.

وبعض المشرفين على بعض البحوث يلزمون الباحث بتعطيل فكره وعدم إبداء رأيه؛ وإذا أتى بشيء لم يدلل عليه، اتهم فيما أتى به، وكتب له في التعليق: “من أين لك هذا؟” وكأنه قد كتب عليه أن يأتي بكل شيء إلا برأيه هو! وإن أصر وزعم أن ما أتى به من رأيه واستنتاجه فقد يشكك فيه وأحيانا يكذب بدعوى أنه لا يزال في مرحلة البحث، وكأن من كان في هاته المرحلة لا يحق له إبداء الرأي ومناقشة الأقوال. وإزاء هاته المواقف التي لا تمت للبحث العلمي بصلة لا يملك الباحث سوى الاستجابة وإلا رفض بحثه، وهكذا يلزم بإخراج بحث مليء بالنقول عبارة عن شحن وإفراغ ضيع فيه الكثير من الجهد والوقت والمال.

وعوض التشدد في التكثير من إيراد النقول كان ينبغي التشدد في عدم التكثير من إيرادها وحمل الباحث على مناقشة بعض ما يورد والحرص على معرفة مصدر ما يقول وحثه على إعمال رأيه وفكره؛ ومائة صفحة من لبنات فكر الباحث وآرائه خير من ألف صفحة استخرجت من عدة بحوث ولا تحمل أي جديد، ومهما يكن الجديد الذي يأتي به الباحث فإنه ولاشك فيه فائدة أقلها تمرينه على النظر والاستنباط وإعمال الفكر وإبداء الرأي، وذلك باب التمكن والاجتهاد والاستقلال في الرأي.

وبعض الباحثين لما ينتصر لقول أو يرجحه لا ينطلق في ذلك من قناعاته الفكرية ورؤاه المبدئية؛ بل يميل إلى ما مال إليه؛ لما وجده من نقول وتوفر له من كلام لأحد من العلماء الباحثين فرجح ما رجحه اتباعا وتقليدا لا اجتهادا واقتناعا، وهذا ترجيح لا قيمة له من الناحية العلمية؛ لأنه مجرد تكرار قول قد قيل، وهو ناتج عن تقليد وليس عن جهد وإعمال فكر. وعدد من الباحثين الذين تملأ كتبهم الساحة طولا وعرضا بحوثهم منقولة من هاهنا وهاهنا ورغم شناعة ذلك لا يكفون عن تضييع الحبر والورق.


أعلى