أتمنى لو كنت أستطيع
الوصول إلى تحديد تاريخ نشوء هذا المصطلح واستعماله في الفكر الإسلامي، لكنه -
قطعاً - نشأ متأخراً ولم يكن معروفاً في التراث الفقهي القديم، وهو كبقية
المصطلحات المحدَثَة لا يتعامل الإنسان معه بحساسية لمجرد كونه مصطلحاً جديداً؛
فلا مشاحة في الاصطلاح ولا إشكال فيها بحد ذاتها ما دامت محتفظة بخصلتين: أن لا
تحتوي على مخالفة شرعية، وأن يتم توضيح المقصود بها بما يزيل الإشكال.
وحين نستعرض تفسيرات
المعاصرين للثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية نجدها ترجع لثلاثة تفسيرات
رئيسية: تفسير الثوابت بالقطعيات والمتغيرات بالظنيات، أو تفسير الثوابت بالمجمَع
عليه والمتغيرات بالمختلف فيه، أو تفسير الثوابت بالأصول والمتغيرات بالفروع.
وحقيقة هذه التفسيرات
ترجع لمعنى واحد؛ فالثوابت هي الأصول الكلية القطعية المتفَق عليها، والظنيات هي
ما كان دون ذلك من الظنيات والفروع.
ويبقى تفسير المصطلح ليس
فيه أي إشكال؛ فلا غضاضة في أن يتم تفسير الثوابت والمتغيرات بأي معنـى يتم
الاتفاق عليه.
إذن أين الإشكال؟
الإشكال هو في الأحكام
التي تترتب على هذا التقسيم، وفي التصورات التي تُبنَى على هذه التفسيرات؛ فسؤال:
أين الثوابت والمتغيرات؟ ليس مشكلاً كسؤال: ما الذي سيترتب على تفسير الثوابت
والمتغيرات؟
فتسمية بعض أحكام الشريعة
بالثوابت، وتسمية غيرها بالمتغيرات ليس فيه إشكال كبير ما دام أنه محصور في
التسمية والاصطلاح؛ إنما الإشكال في ما يترتب على هذا التقسيم. وهنا يحصل الاختلاف
ويعظم الإشكال.
فبعض الناس يفسِّر
المقصود بشكل صحيح ويقيم الفروق بين الثوابت والمتغيرات برؤية شرعية صحيحة، وآخرون
يبنون على هذا التقسيم كثيراً من الأحكام الباطلة.
فبعضهم يرتِّب على هذا
التقسيم تصوراً يقوم على أن الثوابت هي الأحكام الشرعية التي يجب الخضوع لها، وأما
المتغيرات فهي خارج الشريعة وهي مجرد اجتهادات يمكن أن يأخذ الشخص منها ما يشاء؛
فالعبرة بمقاطع الإجماع، وأما ما حصل فيه الاختلاف فالإنسان منه في سعة؛ يأخذ منه
ويذر بحسب ظروف المرحلة وما يحقق المصلحة وما يتلاءم مع تطور المجتمع.
وهذا تفسير مختلٌّ؛ لأنه
يلغي دائرتين واسعتين من الشريعة، هما الأوسع من أحكام الإسلام: دائرة المختلف
فيه، ودائرة الظنيات.
فدائرة الظنيات: هي أحكام
شرعية ثابتة وملزِمة ويجب اتباعها. وكونها تسمى (ظنية) فهو مجرد اصطلاح، ولا يعني
أنها خارج الشريعة أو غير ملزِمة؛ فالظن واليقين هو في مرتبة الجزم بالحكم وليس في
مرتبة الإيمان بالحكم، فأنت توقن بالحكم بشكل يقيني قطعي أو يغلب على ظنك بما يوجب
العمل به، لا أن تثبت الحكم أو تنفيه؛ فبعض الأحكام الشرعية قطعي جاءت الدلائل
اليقينية عليه: كوجوب الصلاة والزكاة، وتحريم الخمـر والربا والزنا. وبعـض
الأحكـام جـاءت فيـه دلائل أقلَّ من ذلك؛ لكن هذا لا يعني أنه ليس حكماً شرعياً،
ولا أن أمر الإيمان به يرجع للإنسان إن شاء عمل به وإن شاء ترك؛ بل هو ملزِم
وواجب. لكنَّ مراتب الإيمان تختلف فدرجة الإيمان بحرمة الزنا ليست كدرجة الإيمان
بحرمة النظر المحرَّم، ودرجة الإيمان بالسنة المتواترة ليس كدرجة الإيمان بالسنة
الآحاد، تماماً، كما أن من الشريعة ما هو فرض لا يدخل الإنسانُ الإيمانَ إلا به
كالشهادتين، ومنها ما هو فرض يخرج من الإيمان بتركه كالصلاة ومنها ما هو فرض يضعف
الإيمان ولا يزيله كترك الحج ومنها ما هو دون ذلك لكنها جميعاً داخلة في أحكام
الإسلام وإن تفاوتت في قوَّتها.
فالغلط في هذا التفسير
أنه جعل دائرة (الظنيات) من المتغيرات غير الملزِمة، فنفى جملة واسعة من أحكام
الشريعة لتوهُّمٍ فاسد؛ ظنَّ أن كلمة (الظن) تعادل في لغتنا العامية التوقُّع
والتوهُّم والشك، وهي ليست كذلك؛ بل أحكام ثابتة وصحيحة.
الدائرة الثانية: دائرة
المختلف فيه: فيجعلون كلَّ حكم اختلف الناس فيه ووقع فيه اختلاف بين العلماء حكماً
متغيراً غير ملزم، وهذا النظر يتصوَّر أن أحكام الشريعة لا بد أن تكون مجمَعاً
عليها حتى تكون ملزِمة، فهو يقلب معادلة الشريعة؛ لأن الله - تعالى - يقول: {فَإن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}
[النساء: 59]، وهو يريد ردَّ كلام الله و كلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلى كلام
الناس؛ فكأن الشريعة لا اعتبار لها إلا إذا أجمع عليها العلماء؛ وكأن الأحكام لا
تكون ملزِمة للمسلم إلا إذا أجمع عليها العلماء وهذا معنى ساقطٌ متفَق على فساده[1].
واشتراط الإجماع لجعل
الأحكام الشرعية ملزِمة كلام سجالي يأتي به بعضهم للجدال لا غير؛ وإلا فلا أحد
يطرد هذا الكلام فيقول على الحقيقة: إنه لا يعتقد بشيء إلا بعد الإجماع. ولهذا كان
ابن حزم دقيقاً حين قال عنه: إنه (مذهب لم يخلق له معتقد قط، وهو ألا يقول القائل
بنصِّ حتى يوافقه الإجماع)[2].
وهذا الذي يقتصر على
الإجماع دون المختلف فيه، لا بدَّ أن يرجع فيفسد حتى القضايا القطعية؛ فإنه (لا بد
أن يخالف الكتاب والسنة - حتماً - في كثير من القضايا، هذا في المخالفة القطعية،
فأما الظنية فحدِّث عن كثرتها ولا حرج)[3].
الخلاصة إذن: أن أمامنا طريقين للتعامل مع هذا المصطلح:
الطريق الأول: تفسير الثوابت بأنها هي
القطعيات، والمتغيرات هي الظنيات، فيجب على من يسلك هذا الطريق أن يكون منهجه
قائماً على عدم ترتيب أحكام على هذا الاصطلاح؛ وإنما يقال: إن هذا ثابت وهذا متغير
لبيان درجة الحكم وليس لجعل أحدهما ملزِماً والآخر غير ملزم.
الطريق الثاني:
في حال ترتيب الأحكام على هذا الاصطلاح، فيجب أن يتم تفسير الثابت والمتغير بشكل
دقيق وصحيح لا يتضمن تجاوزاً على الحكم الشرعي، وهذا التفسير سيكون بجعل الثابت:
ما ثبت بدليل شرعي؛ سواء كان قطعياً أو ظنياً أُجمِع عليه أو اختُلف فيه، فهذه
مساحة ثابتة مرتبطة بالدليل الشرعي.
والمتغير: هو الحكم
الاجتهادي الذي كان مرتبطاً بعرف أو مصلحة معيَّنة وتتغير بتغير الزمان والمكان.
فهذا هو التفسير الصحيح
لهذا المصطلح؛ فالأحكام الظنية ليست متغيرة، والأحكام الخلافية ليست متغيرة، بل هي
ثابتة، ووقوع الخلاف لا يجعلها متغيرة؛ لأنهم يختلفون بناءً على رؤيتهم في الأدلة؛
فهم يدورون حول محور ثابت، فيجب أن يتم الاختيار والترجيح بناء على هذا المحور،
وليس متغيراً بحسب الزمان والمكان.
وهذا المنهج هو الأسلم
والأصوب في تفسير (الثوابت) و (المتغيرات)؛ لأنه يفسر المتغير بما يناسب لفظه؛
فالمتغير في الأحكام هو ما كان معلقاً على وصفٍ متغيِّر: كعرف سابق أو مصلحة
مرتبطـة بظرف معيَّن؛ فحين يتغير الوصف الـذي كان سبب الفتوى تتغير الفتوى تبعاً
لذلك، وأما جعل الأحكام الشرعية الظنية أو الأحكام المختلف فيها في دائرة
المتغيرات فهو خطأ؛ لأنها ليست متغيرة، ووقوع الخلاف فيها لا يحيلها متغيرة،
والاختلاف الذي وقع فيها ليس تغيراً، بل هو اجتهاد راجع لفهم الدليل الشرعي
الثابت، فهو راجع لاختلافٍ في الفهم، وليس تغيراً مرتبطاً بالزمان والمكان.
وهذا المنهج هو الأصح
أيضاً نظراً لأن هذه المصطلحات قد عم استعمالها لدى كثير من الناس على اختلاف
توجهاتها ومقاصدها، وهو ما يحتم مزيد عناية في ضبط المصطلحات والتأكيد على دقة
معانيها؛ حتى لا تكون ذريعة لتمرير بعض التصورات المنحرفة من خلال المفاهيم
المقبولة.
إن مشكلة مثل هذه
المصطلحات المحدَثَة أنها تحوي حقاً وباطلاً، وفيها تفسيرات صحيحة وأخرى فاسدة،
لكن الفرق الذي يميز المعنى الصحيح من المعنى الباطل لا يبدو جلياً دائماً،
وكثيراً ما يبقى مشكلاً وملتبساً، ويرجع فيه لاجتهاد كل أحد، فتجد كثيراً من الناس
يتفقون على تكرار هذه العبارة وبينهم في تفسيرها ما بين المشرقين؛ فالمعيار في
التمييز معيار ذاتي لا موضوعي؛ فهو يرجع لفهم كل شخص وعلمه ودينه، وهو مزلق خطر
يقود لانحرافات عدة.
وهذه إشكالية حاضرة بوضوح
في مشهدنا الثقافي المعاصر؛ فبعض الأطروحات الإسلامية تقوم بدور سلبي على بعض
الأحكام الشرعية ليس من جهة ما تقرره من معانٍ فاسدة، بل من جهة ما تسكت عنه من
بيان المعاني الباطلة التي تختلط ببعض المعاني الصحيحة، وقد كان هذا من جملة
الانتقادات التي وجهها المؤرخ (ألبرت حوراني) للشيخ محمد عبده، وذلك حين قال عنه:
(كانت مؤلفاته تضبطها معرفته العميقة بالعلوم الإسلامية التقليدية، وما هو أهم من
ذلك شعورهُ الحادُّ بالمسؤولية تجاه الإسلام؛ إلا أنه كان من شأن الخطة التي
اتبعها أن توقع في التجربة أولئك المفكرين من ذوي النزعة الجدلية الذين حرصوا على
الدفاع عن سمعة الإسلام أكثر مما حرصوا على اكتشاف حقيقته وتوضيحها، أعني بها
تجربة الادِّعاء بأن الإسلام هو كلُّ ما يوافق عليـه العـالم الحـديث، وبأنه
ينطـوي ضمناً علـى كـل ما يظنُّ العالم الحديث أنه من اكتشافه)[4].
وهذه الإشكالية سبب
لانحرافات ظاهرة في مشهدنا المعاصر؛ حيث تجد بعض الفضلاء يرفع شعارات مجملة يتوافق
فيها مع عدد من المنحرفين والمحادِّين للشريعة، الذين يفرحون كثيراً بها لأن هؤلاء
الفضلاء يدفعون بتصوراتهم إلى الجمهور الذي لا يمكنهم الوصول إليه، ويبقى الفروق
بين الطرحين ذاتي لا موضوعي؛ فكلُّهم يتكلم بعبارات واحدة وكل شخص يفسرها بحسب ما
يريد؛ بينما كان المفترض على الغيور على شريعة الله أن يحرص على تمييز الحق من
الباطل فلا يكفي أن يقول ما يقصد به الحق، بل لا بد من تجلية الحق ورفع الالتباس
عنه.
ولهذا تجد بعض المفاهيم
كالحريات وحقوق المرأة والمساواة والدولة المدنية ونحوها تتردد من أقصى التيارات
العَلمانية تطرفاً ويردِّدها كثير من الفضلاء من دون تمييز موضوعي يكشف الحق من
الباطل، وليس المقصود أن يشرح الإنسان الكلمة في كل سياق؛ وإنما أن يكون منهجه
الكلي واضحاً في تحديد المقصود من هذه المفاهيم، وفصل المعاني الباطلة عنه بوضوح
تام بما يجعل الحق ساطعاً تشيح عنه وجوه الانحراف والعلمنة.
[1]
انظر عدداً من أقوال أهل العلم في فساد هذه العبارة في مقالة (الانقياد المشروط)
لكاتب المقالة، عدد 271 من مجلة البيان.
[2] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 3/481.
[3] الأنوار الكاشفة، ص33.
[4] الفكر العربي في عصر النهضة، لألبرت حوراني، ص170.