المدركة الزلقة

رحم الله الإمام ابن القيم فقد أجاد في وصف معركة الفرد من أجل النجاة وانتهى الى تسلُّط جند الشيطان على العبد؛ وهي معركة شديدة التأثير على الفرد المستضعَف


الحمد للَّه ربِّ العالمين، والصلَّاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعدُ:

لقد كتب الله على بني آدم أن يكونَ طريقُهم إلى الجنة محفوفاً بالأخطار مليئاً بالعقبات... وكلُّ ما نشهده في هذا العالم من تردٍّ وانحرافٍ وهرج ومرج؛ هو من آثار تكبُّر إبليس وعصيانه أمرَ الله سبحانه وتعالى له بالسجود لآدم. وتفاصيل هذا الحدث العظيم مبثوثة في كتاب الله تعالى ومعروضة بصور مختلفة يجمعها كِبْر إبليس وحسده آدم؛ ومِن ثَمَّ حقده وعداوته له، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ 11 قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ 12 قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 11 - 13].

وكانت أُولى جولات الصراع حين أَكَل آدم وحواء من الشجرة بوسوسة وتحريضٍ من إبليس، ثم كان النزول إلى الأرض حيث بدا الصراع متطاولاً أبدياً بين بني آدم وبين إبليس وجنوده وذريته من شياطين الجن وعتاة الإنس، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْـجَنَّةِ} [الأعراف: 27]، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْـجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].

ولهذه المعركة شقَّان فرديٌّ وآخر جماعيٌّ: أما الفردي فأن يخوضها كلُّ فرد وحدَه؛ ومن ثَمَّ تحدِّد نتيجتُها مكانه في المعركة الجماعية الكبرى بين أتباع الأنبياء وأتباع الشيطان، ولذا فإنه من المهم تصوُّر طبيعة المعركتين. 

إن معركة الفرد قد لخَّص معالمها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيِّم (مدارج السالكين) إذ ذكر رحمه الله سبع عقبات متتاليات تعترض سير الإنسان إلى ربه:

العقبة الأولى: هي الكفر بالله وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه؛ فإنه إن ظَفِر الشيطان بالعبد في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح، أمَّا إن اقتحم العبد هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية، وسَلِم معه نور الإيمان، طلبه على:

العقبة الثانية: وهي عقبة البدعة، فإن قطع هذه العقبة، وخلص منها بنور السُّنة، واعتصم منها بحقيقة المتابعة وما مضى عليه السلف الأخيار، من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ، طلبه على:

العقبة الثالثة: وهي عقبة الكبائر، فإن قطع هذه العقبة بعصمةٍ من الله، أو بتوبةٍ نصوحٍ تنجيه منها، طلبه على:

العقبة الرابعة: وهي عقبة الصغائر، فكال له منها بالقفزان، ولا يزال يهوِّن عليه أمرها حتى يُصرَّ عليها.

العقبة الخامسة: وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغَلَه بها عن الاستكثار من الطاعات؛ فإن نجا من هذه العقبة طلبه العدو على:

العقبة السادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له. فإن نجا منها بفقهٍ في الأعمال ومراتبها عند الله، لم تبقَ هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدةٍ لا بد منها، ولو نجا منها أحدٌ لنجا منها رُسُل الله وأنبياؤه، وأكرم الخلق عليهم الصلاة والسلام؛ وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير، وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها؛ فإنه كلما جدَّ في الاستقامة والدعوة إلى الله، والقيام له بأمره، جدَّ العدو في إغراء السفهاء به؛ فهو في هذه العقبة قد لبس لَأْمَة الحرب، وأخذ في محاربة العدوِّ لله وبالله.

رحم الله الإمام ابن القيم فقد أجاد في وصف معركة الفرد من أجل النجاة وانتهى الى تسلُّط جند الشيطان على العبد؛ وهي معركة شديدة التأثير على الفرد المستضعَف. ولذا فمن البديهي أن يبحثَ العبد عن نصيرٍ ومحامٍ إذ هي مرحلة خطيرة تشبه حالة الغريق الذي يتشبث بكل ما يعتقد أنه ينجيه؛ وفي سبيل ذلك يغفل ويقلُّ حذره، وقد يسلم نفسه لعدوِّه طلباً للنجاة وما علم المسكين أن الشيطان وأولياءَه يترصد له فيأتيه بصورة الناصح الأمين كهيئته يوم جاء إلى أبيه آدم وأمه حواء من قبلُ: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْـخَالِدِينَ 20 وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَـمِنَ النَّاصِحِينَ 21 فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 - 22]. وهو أمر يتكرر كثيراً؛ فكم من المؤمنين الصالحين مَن أسلم أنفسه للشيطان يقتاده كمثل قَتَلَةِ عثمان رضي الله عنه، وكذلك مَن قتل عليّاً رضي الله عنه كان يُضرَب المثل بعبادته، وأيضاً مَن تبعوا المختار الثقفي لأصل دعوى صحيحة... كل أولئك وغيرهم كثير كان الشيطان يأتيهم بثوب الناصح الواعظ ليُرديهم هلكى!

ومن صور الصراع الأزلي بين بني آدم والشيطان؛ أن شعارات ورايات الحق قد يرفعها المخلصون وكثيراً ما يرفعها الطامحون، وكذلك قد يبادر برفعها الخونة المندسون، ومن يستعرض التاريخ البشري يجد شواهد لا تعدُّ ولا تحصى على حالة سلامة الشعار وفساد الطريقة وأحياناً فساد المقصد أساساً. فالسامري صنع العجل ودعا بني إسرائيل لعبادته وهم في شوق لعبادةٍ خاصة بهم فانخدعوا بظاهر صلاحه وانساقوا لرغبة الخضوع ولم يدققوا في صفات الإله الصحيحة وأصروا على العكوف عليه حتى عودة موسى عليه السلام. وهو ما يدل على أن قناعتهم ليست قوية بما هم عليه وينتظرون مَن يأتيهم بالبديل وقد نبههم الله إلى أهمية العودة للأصول والوقوف عندها بثبات، قال سبحانه: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ 88 أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه: 88 - 89].

وكم من مريدِ خيرٍ أُرهِقَ بالأوراد وانتُهي به إلى الانتقاص من العلم واتباع من يُسقِطون التكاليف الشرعية عن أنفسهم. ومنهم من تاقت نفسه لخدمة الأمة والدفاع عنها ضد تغوُّل وطغيان الباطنية والصليبية فيضعون له في الطريق شعارات عظيمة كجهاد الكفار بل ينصِّبون له خليفةً والأخطر أنهم ينصبون لهم شباك العُجْب فينتهي به الحال إلى تكفير المسلمين والانشعال بقتلهم، ثم يصبح أداة لمن يدعمه وينقله حسب الحاجة.

ولعل حال طالبان مع الغزاة المندحرين أكبر وأحدث دليل على ذلك الكيد؛ فأمريكا انسحبت من أفغانستان على أمل نشوب صراع طويل بين الحكومة وطالبان... إلا أن حصول الانهيار الكبير للحكومة العميلة أجبر بايدن على أن يرميَ آخر سهم في جعبته فتذكَّر مَن زرعوهم في أفغانستان قبل سنوات قليلة في محاولة لاستنساخ نجاحهم الكبير في تدمير المقاومة العراقية.

ولم ينتهِ الكيد عند هذا الحدِّ؛ بل هناك محاولات لتكرار تجربة الإنجليز في الهند حيث أسسوا ودعموا طائفة تعمل بين المسلمين تدعو للخضوع للإنجليز؛ (باعتبارهم حكاماً شرعيين) حتى وإن كانوا كفاراً، وتسمَّت الطائفة بـ (الأحمدية والقاديانية) وباضت طائفة الشر تلك وفرخت في بلاد الهند، ولكنها وإن بقيت شكلاً فقد انتهت مضموناً وتأثيراً فهي لا تُعدُّ حالياً من طوائف المسلمين، ومثلها البهائية التي استنبتتها المخابرات الروسية في إيران.

وثمة ما ينبغي للمسلم أن يعيَه في كل ذلك: أن يكون على حذر في تلمُّس الطريق، وألَّا ينسى كمائن الشيطان وشَرَكه التي ينصبها من البداية إلى النهاية... ولا ننسى كذلك ما يحصل من تخاصم بين أهل النار يوم المنقلب والحساب كما في قوله تعالى: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ 166 وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166 - 167].

وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ 67 رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67 - 68].

وقوله تعالى واصفاً حال إبليس وموقفه وهو قائد المعركة ومتبوع الملايين: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَـمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْـحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِـمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: ٢٢]. ومن تأمل ذلك وجد مزيد تبصُّرٍ وهداية.

 


أعلى