وإذا كان (جنرالات فرنسا) الآباء ما زالوا يمسكون ببعض حبال السلطة المدنية في الجزائر؛ فإن تلاميذ هؤلاء المجهولين لوسائل الإعلام - قطعاً - يمسكون ببقيتها!
الجنرالات خلف الستائر السميكة، والمدنيون في الواجهة، جبهة التحرير الوطني تفوز،
ومعارضة بلا أظافر تقوم بدورها في تكميل المشهد الديمقراطي الهش، جماهير منقسمة،
ليس على تأييد كتل حزبية؛ وإنما على قبولها أو رفضها بالكلية، وتأييد الحراك
الجماهيري أو رفضه، قاسمها المشترك هو رفض الصيغة الحالية بكل قسماتها، والتعبير
إما في إقبال ضعيف في الانتخابات أو حَراك تراجع أو ضل طريقه.
هذا ربما ما يتبدى للعيان على ظاهره، أما الأكمة فوراءها ما وراءها.
أسئلة مُلِحَّة تتزاحم في عقول الجزائريين حول واقع بلادهم ومستقبلها، وعلاقاتها
بالدول الخارجية، واصطفافها بأي جهة كانت، أو استقلالها النسبي عن تلك الجهات.
أيُّ موقع لـ (جنرالات فرنسا) في حاضر الجزائريين ومستقبلهم؟ لعله السؤال الأبرز من
بين أسئلة الانتخابات والحَراك والدستور والانفصال والعلاقات الخارجية... إلخ؛ فلا
زاوية للنظر أوضح سوى تلك المتعلقة بالجيش الجزائري وعلاقاته وعقيدته وإستراتيجيته.
ولا مفتاح لفهم السياستين الداخلية والخارجية للجزائر من دون رؤية اللون الذي يصطبغ
به هذا الجيش العتيد.
(جنرالات فرنسا) الأبرز، أمثال إيدير وشابو ومحمد التواتي (المخ) ووزير الدفاع
الأسبق خالد نزار وقائد الأركان الأسبق محمد العماري ووزير الداخلية الأسبق العربي
بالخير وبن شريف وقنازية وغيرهم، ظلوا معروفين كضباط أوعزت فرنسا قبيل ما سمي
بالاستقلال الجزائري إليهم أو إلى معظمهم بالانضمام للثورة الجزائرية لسرقتها بعد
أن أيقنت باستحالة إجهاضها، وارتقوا في مناصب القوات الجزائرية حتى تسيدوا الجيش
والاستخبارات والشرطة عقوداً. هؤلاء الذين توفي بعضهم، وتنوع غيابهم ما بين الإقالة
والهرب والخضوع لمحاكمات شكلية، لم يعودوا يمثلون الخطر الأكبر نظراً لكبر سنهم
وعدم قدرتهم على مواصلة ما بدؤوه من جهود لحرف الثورة الجزائرية عن مسارها، ومناهضة
هويتها الدينية واللغوية وانتمائها للأمة الإسلامية، وكذلك لتشكل أجنحة قد أطاحت
معظمهم عن الواجهة، وعلى خلاف المسار الذي بدأ منذ عام 2004م مع إقالة محمد العماري
رئيس الأركان الأسبق، ثم وفاة العربي بلخير، ومحاكمة آخرين، كجناح الرئيس السابق
عبد العزيز بوتفليقة، الذي أطاح بجنرالات كبار؛ فقد بدا أن هؤلاء قد يلعبون دوراً
الآن في حكم الرئيس تبون. الجنرالات الذين تورطوا في انقلاب 11 يناير 1992م ووأد
التجربة الديمقراطية في الجزائر، ثم انزلاقهم إلى ارتكاب أكبر مجازر شهدتها الجزائر
منذ رحيل القوات الفرنسية، وهي مجازر التسعينيات من القرن الماضي التي راح ضحيتها
نحو ربع مليون جزائري في واحدة من أبشع مجازر التاريخ الحديث على أيدي تلك الطغمة
التي شكلت ميليشيات دموية لتبرير حصول انقلاب عام 1992م، أولئك كانوا العقبة
الكأداء في وجه أي إصلاح سياسي في البلاد، وبإطاحتهم استبشر الجزائريون خيراً لأول
وهلة، إلا أن مرحلة ما بعد بوتفليقة قد أظهرت أن الإطاحة بهؤلاء، إبعاداً وسجناً
عبر محاكمات هزلية أو بدونها لم يكن سوى صراع أجنحة لم تتمرد جميعها بالضرورة على
النفوذ الفرنسي الكبير في الجزائر.
مفتاح فهم ما يحصل في الجزائر - كما تقدم - هو في الإجابة عن هذا السؤال المهم حول
نفوذ (جنرالات فرنسا)، وإجابته تتكشف رويداً مع عودة الجنرال المتقاعد عراب انقلاب
عام 1992م، خالد نزار إلى الجزائر هذا العام بعد هروبه إلى إسبانيا ثم موطنه
(فرنسا) تمهيداً لإسقاط الأحكام القضائية ضده بالسجن لعشرين عاماً، وذلك مع الأحكام
القضائية الأخيرة التي برَّأت رئيس جهاز المخابرات الأسبق الفريق محمد مدين ومنسق
الأجهزة الأمنية السابق الجنرال المتقاعد بشير طرطاق والسعيد بوتفليقة شقيق ومستشار
الرئيس السابق من تهمة
«التآمر
على سلطتي الدولة والجيش».
من تبقى على قيد الحياة من جنرالات الموت، عادوا إلى المشهد، ويبدو أنه حتى نزار
الذي تقاعد منذ عام 1993م بوسعه أن يجد موطئ قدم له في حكم الجزائر، بما يعكس هذا
النفوذ الهائل الذي لم يزل يتمتع به الرجل الأول في الجزائر في أوائل عقد
التسعينيات من القرن الماضي حتى بعد أن أُقيل من منصبه وزيراً للدفاع قبل ما يقارب
ثلاثين عاماً! وإذا كان (جنرالات فرنسا) الآباء ما زالوا يمسكون ببعض حبال السلطة
المدنية في الجزائر؛ فإن تلاميذ هؤلاء المجهولين لوسائل الإعلام - قطعاً - يمسكون
ببقيتها!
ما يرشح عن هذه المؤسسة العسكرية الغامضة شحيح، لكنه على قلَّته يرسم صورة تقود إلى
يقين بأن ما حصل في الجزائر خلال العقدين الماضيين كان بعيداً كل البعد عن الرغبة
في الإطاحة بـ (العصابة) كما يسميها تبون أو (جنرالات الموت) كما هو متعارف عليه عن
قادة فترة التسعينيات من القرن الماضي؛ فقد ظلت عمليات التغيير محصورةً بصراع
الأجنحة والاختلاف على تقاسم السلطة، ولم تبرح تلك المساحة إلى فضاء التغيير الشامل
المؤسَّس على الإرادة الشعبية.
يتفرع عن هذه الإجابة وتلك التوطئة العديد من الاستنتاجات حول ماهية العديد من
القضايا والاستحقاقات، منها: الدستور الجزائري المعدَّل، وحديثه عن الحَراك
الجماهيري مع إفراغه من محتواه، والانفصالية (الأمازيغية) والتمهيد لها،
والانتخابات الرئاسية والتشريعية ومدى نزاهتهما، والعلاقات مع تركيا، العلاقات
الباهتة نسبياً مع فرنسا، والتدخل الجزائري في مالي والنيجر تحت مظلة الفرنسيين،
والعلاقات الجزائرية مع دول الجوار، لا سيما قضية الصحراء... إلخ.
الدستور
إن الدستور الجزائري المعدل، الذي لم يحظَ استفتاؤه بحضور شعبي معقول يضفي عليه
مسحة من الشرعية؛ كرس شكلية التعددية الديمقراطية وتداول السلطة المفترض، و (جامل)
الحراك بالاعتراف به جنباً إلى جنب مع ثورة نوفمبر، وحدد مدة رئاسة الرئيس (المدني)
بفترتين لا أكثر، ورفع لافتة فصل المال عن السياسة، وسمح للمرة الأولى بإسناد رئاسة
الحكومة للأغلبية البرلمانية، بَيْدَ أن الأهم من هذا كله أنه:
- أطلق يد القوات المسلحة الجزائرية في العمل خارج حدود البلاد إذا ما حظيت بموافقة
من السلطة (الواجهة) التنفيذية.
- سمح للانفصاليين الأمازيغ بالتقدم خطوة عبر إدراج اللغة الأمازيغية ضمن الأحكام
التي لا تخضع للتعديل الدستوري للمرة الأولى في تاريخ الجزائر.
- حاكى الأسلوب الاستبدادي العلماني التقليدي في بعض البلدان العربية والشمولية
الأخرى بإنشاء محكمة دستورية (غير منتخبة بطبيعة الحال) تراقب قرارات السلطات
الثلاث (المنتخب معظمها) والمعاهدات الدولية التي تصادق عليها الحكومة، وهو ما يتيح
لهذه المحكمة لاحقاً التحرك للقيام بإجهاض الإرادة الشعبية إذا لزم الأمر.
التدخل العسكري في المحيط الإقليمي
والمقصود به تحديداً في دول الصحراء الكبرى؛ لا سيما مالي التي غزتها فرنسا من جديد
بعد احتلالها لها لعقود طويلة من قبلُ في 11 يناير 2013م بدعوى الحرب على الإرهاب،
وقد سمح حينها قائد الجيش الجزائري الراحل أحمد قايد صالح (والمؤسسات الرسمية كذلك)
للطائرات الفرنسية بعبور الأجواء الجزائرية بلا قيد أو شرط لقصف الجماعات المسلحة
في أزواد وغيرها، ولم يقتصر الأمر على مجرد السماح للطائرات العسكرية؛ فقد اعترف
وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة حينها لقناة فرانس 24 بأن الجزائر سمحت بأكثر
من هذا بكثير؛ فقال:
«لقد
قدمت الجزائر لفرنسا كلَّ ما تحتاجه لنجاح حربها على الإرهاب في مالي عدا إرسال
عسكريين باللباس العسكري».
غير أن ما ترنو إليه فرنسا هو أكبر من مجرد عبور أجواء، وحتى هذه التسهيلات
الهائلة، ولهذا تعددت مطالبها وزيارات مسؤوليها العسكريين للجزائر بهدف انخراط
القوات الجزائرية في معارك الفرنسيين الهادفة لاستمرار هيمنتها على ما تُسمى بدول
الساحل الإفريقي، وجاء التعديل الدستوري ليمهد الطريق أمام هذا التورط الذي يمكن أن
يعيد الصورة كاملة إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهي العمل تحت قيادة الفرنسيين
ضمن قوات
G5
Sahel
المشكَّلة من قوات عسكرية من مالي وتشاد والنيجر وموريتانيا وبوركينافاسو والتي
تقودها فرنسا في المنطقة بعد أن عجزت عن إخماد نشاط الحركات المسلحة في مالي
والنيجر.
المطلب الفرنسي الملِحُّ هذا، تحفزه ضغوط فرنسية داخلية تدفع تجاه عدم التورط أكثر
في الساحل بجنود وعتاد فرنسي، ومتطلبات ميدانية دعت إليها تطورات الأوضاع العسكرية
في المنطقة لا سيما مع انقلابات مالي وتشاد، وسيولة الوضع السياسي في دول الصحراء
بالغة الأهمية لباريس، حيث الذهب واليورانيوم والمصالح الإستراتيجية العديدة
الأخرى؛ خاصة بعد زيادة النفوذ الروسي في الفضاء الفرنسي (الاستعماري) التقليدي في
تلك الدول؛ إذ بدا أن روسيا قد تمكنت من نسج شبكتها الخاصة في أعلى مستويات جيوش
الساحل مثل مالي والنيجر، بالإضافة لليبيا التي توغلت فيها روسيا في مناطق الوسط
والجنوب المحسوبة على الفرنسيين.
هذا بدوره، ألجأ (جنرالات فرنسا) الحاليين والعائدين مؤخراً إلى الضوء لاتخاذ
إجراءات، منها:
تعديل الدستور بما يسمح بالتدخل خارج حدود الدولة، وقد حصل ذلك بالفعل.
تغيير عقيدة الجيش الجزائري التي لم تكن تسمح بالتدخل الخارجي إلا في فلسطين في
الحروب العربية/ (الإسرائيلية)، والتي استقرت عقيدتها على مناهضة الاحتلال الفرنسي،
والحفاظ على الهوية الجزائرية، إلى عقيدة تتبُّع (الإرهاب) حيث كان، سواء في مالي
أم النيجر أم ليبيا، بعد أن تغيرت تلك العقيدة (جزئياً) و (استثنائياً) خلال
العشرية السوداء (تسعينيات القرن الماضي) باسم مكافحة الإرهاب المحلي.
تهيئة الشعب الجزائري لقبول العودة إلى حقبة الحروب العالمية التي جندت فيها سلطة
الاحتلال الفرنسي قسراً قِطاعات من الشعب الجزائري للقتال ضمن صفوفها ولمصلحة
الدولة الفرنسية في الحربين العالميتين، ومن ثَمَّ قبول قتال الجيش الجزائري في دول
الصحراء تحت إمرة فرنسا.
الحراك والتطورات الداخلية
استغل النظام الجزائري الظروف الاستثنائية الناجمة عن تفشي وباء (كوفيد - 19)
وضرورة الالتزام بالتباعد الاجتماعي لِلَجمِ (الحراك الجماهيري) الذي تفجر بسبب
رغبة الجنرالات قبل عامين في التمديد الخامس للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة
الذي كان عاجزاً عن أداء مهامه لأسباب صحية معروفة، هذا الرئيس الذي قال الدبلوماسي
الجزائري السابق في لندن، محمد العربي: إن ديغول قد قال عنه ذات مرة لمساعديه، في
عام 1963م عقب استقباله:
«هذا
الشاب يحب لنا الخير».
وحاول النظام التجديد لبوتفليقة، لكن موجة الاحتجاجات كانت أعلى؛ فتقرر تبديله،
والاستجابة لبعض مطالب الحَراك.
أما الحراك ذاته؛ فلم يكن على طيف واحد، وغلب عليه ما غلب على التغييرات في البلدان
العربية، من جمعه بين مطالب ديمقراطية حقيقية، ومطالب بتداول السلطة وفصل السلطات
وإطلاق الحريات السياسية، وأخرى ليبرالية علمانية متطرفة، وكذلك نزعات انفصالية،
كتلك التي يطالب فيها الأمازيغ بالاستقلال أو انتزاع حكم ذاتي في مناطق القبائل،
وقد خبا الحراك لعدة أسباب، أهمها انتشار (كوفيد - 19) كما تقدم، واستغلال الحكومة
الجزائرية له في عرقلة عمل الحراك، والاعتقالات التي نالت ما يزيد عن مائتي وجه
بارز في الحراك، ومنها طول مدة الحراك التي زادت عن عام وهو ما أشعر الجماهير
بالسأم والإحباط، ومنها قناعة قطاع محدود من الجماهير بجدوى الإجراءات التي قام بها
النظام لتصحيح الأوضاع، كالاستجابة لمطلب عدم التجديد لبوتفليقة، وقَصْر مدة
الرئاسة على فترتين، وتقليص صلاحيات الرئيس لحساب رئيس حكومة منتخب، ومنها الخطوات
التي قامت بها الحكومة لمحاربة الفساد (ولو ظاهرياً) ومحاكمة كبار الجنرالات
السابقين (ولو في محاكمات هزلية)، ومنها إحباط قطاعات من الجماهير المؤيدة للحراك
من إخفاق الحراك وانسداد الأفق، وهو ما انعكس على جملة من الاستحقاقات التالية له.
استحقاقات الصناديق، سواء منها ما يتعلق بانتخاب الرئيس تبون أو إجراء التعديل على
الدستور أو الانتخابات التشريعية، وجميعها قد جرت خلال أقل من ثلاث سنوات، قد شهدت
عزوفاً جماهيرياً جعلها لدى البعض منقوصة الشرعية خصوصاً مع اتهامات التزوير التي
دائماً ما تُتَّهم السلطات بارتكابها بغية الإبقاء على التركيبة الحالية للحكم:
الجنرالات في الكواليس، والأحزاب والقوى تتقاسم برلماناً مدجَّناً، يحظى فيه الحزب
الحاكم (جبهة التحرير) بأغلبية ضئيلة وقطعة مكافئة من الكعكة البرلمانية للأحزاب
الإسلامية (مجتمعة) وهي التي انخرطت في العملية السياسية بعد انقلاب عام 1992م
كبديل مقبول للسلطة عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي لم تزل محظورة منذ أن أطيح
بها في انتخابات عام 1991م التي فازت فيها بنحو 82% من الأصوات في الجولة الأولى
للانتخابات حينها.
العلاقات الخارجية للجزائر
برغم بقاء العديد من (جنرالات فرنسا) في السلطة أو قريبين منها، إلا أن المزاج
الرسمي في الجزائر لم يعد كما سبق فيما يخص العلاقة مع فرنسا؛ فنبرة الجماهير
الراغبة في الحد من النفوذ الفرنسي في الجزائر في ارتفاع مستمر، وحساباتُ النظام
حول هذا النفوذ تخضع لمراجعة موازية، ورغم متانة علاقة الفرنسيين بالجيش الجزائري
إلا أن ثمة مسافة آخذة في الزيادة لا يمكن إنكارها بين السياستين الفرنسية
والجزائرية، تبدو ملامحها فيما يلي:
•
خيبة أمل الشعب الجزائري، ومن ثَمَّ الإعلام الجزائري في رفض باريس الاعتذار عن
جرائمها في الجزائر إبان حقبة (الاستعمار)؛ إذ أعلن مكتب (الإليزيه) في يناير
الماضي أن ماكرون
«لا
ينوي تقديم الاعتذار»
عن الماضي الاستعماري لبلاده في الجزائر من عام 1830 إلى عام 1962م، الذي خلَّف نحو
12 مليون شهيد بحسب دراسات تاريخية في البلدين. وقدمت وثيقة فرنسية مقدمة إلى مكتب
الإليزيه اعترافاً - لا اعتذاراً - عمَّا أسمته
«أخطاء
الحقبة الاستعمارية والواقع الاستعماري القاسي».
لكنها تعهدت في المقابل بفتح الأرشيف الذي نهبته غداة نيل الجزائر استقلالها عام
1962م بـ (الإفراج عن وثائق في خانة السرية)، بعد أن هددت الجزائر في الخريف الماضي
باللجوء إلى التحكيم الدولي لاسترجاع أرشيفها المنهوب خلال فترة الاحتلال الفرنسي
الذي دام 132 سنة بسبب ما وصفته بـ
«التباطؤ
الفرنسي في تلبية مطلبها».
•
خيبة أمل سلطة الجزائر في الاتفاقات الاقتصادية مع فرنسا، التي حملت عنوان (رابح -
رابح) إلا أن الجزائر لم تستفد منها شيئاً، وهو ما دفعها إلى التحول إلى القيام
بمشروعات مشتركة مع دول أخرى منافسة، وكانت الصين - كالعادة - جاهزة للحلول بقوة
مكان فرنسا المتعثرة؛ فانخرطت الجزائر في مشروع خط الحرير الذي سيعطي الجزائر فرصة
الاندماج في الاقتصاد العالمي، علاوة على العديد من المشروعات الصينية الكبيرة.
•
الابتعاد الجزئي لعدد من (جنرالات فرنسا) القدامى الأكثر تبعية لفرنسا عن سدة الحكم
وحلول خلفاء لهم يقرأ بعضهم المشهد بصورة مغايرة، فيرى في روسيا القادمة بقوة في
البحر المتوسط حليفاً أقوى من الفرنسيين، وآخرون يتحمسون لشراكة مع الأتراك، وقد
نجم عن ذلك تطور العلاقات مع أنقرة، التي يتحمس لها الرئيس الجزائري عبد المجيد
تبون الذي وصف في حواره مع مجلة لوبوان الفرنسية العلاقات بين البلدين بـالممتازة
وقال:
«إن
تركيا استثمرت قرابة 5 مليارات دولار دون أي مطالب سياسية مقابل ذلك»،
معرِّضاً بذلك بالسياسة الفرنسية التي ترهن الشراكات الاقتصادية مع الجزائر
بالسياسة. وقد انعكس ذلك على تصديق الجزائر على اتفاقيةٍ بحرية قديمة مع أنقرة تعود
إلى عام 1998م، قبل شهور، وتقضي الاتفاقية البحرية بين البلدين بـ
«تشجيع
مشاركة سفن الجزائر وتركيا في نقل الركاب والبضائع بين البلدين وعدم عرقلة السفن
الحاملة راية الطرف الآخر عن القيام بنقل البضائع بين موانئ بلدَي الطرفين وبين
موانئ بلدان أخرى»،
وكذا
«التعاون
على إزالة جميع العوائق التي تحول دون تطور تنمية التبادلات البحرية بين البلدين»،
إلى جانب
«إعفاء
شركتيهما البحريتين من دفع كل ضريبة (و/ أو) رسم يتعلق بالنقل البحري وكذا
بالنشاطات المرتبطة به والتي تمارسها شركة بحرية على إقليم الطرف المتعاقد الآخر»،
وَفْقاً لما جاء في الجريدة الرسمية الجزائرية. وتعد الجزائر ثاني أكبر شريك إفريقي
لتركيا بعد مصر، وتنشط بها نحو 1000 شركة تركية في مختلف القِطاعات.
•
تراجع قدرة باريس على التأثير في العالم عما كان قبل، وانكفاؤها على مشاكل داخلية
عديدة، منها اضطرابات أصحاب الستر الصفراء، وازدياد تدخل الجنرالات في السياسة
الفرنسية الداخلية، للحدِّ الذي جعل بعضهم يوقعون عريضة تحمل تهديداً بانقلاب إن لم
تتغير الأمور، وهذا لا يخطئ النظام الجزائري في رصده وتقديره، ومن ثمَّ وجود هامش
أوسع قليلاً للتحرك لدى الحكومة الجزائرية خارج الفلك التقليدي.
•
اختلاف رؤية البلدين في عدد من القضايا المهمة للجزائر في المنطقة، مثل الموقف من
القضية الليبية وميل الجزائر لسلطة الغرب الليبي دون شرقه، بخلاف الفرنسيين،
واختلافهما حول انخراط الجيش الجزائري في حروب بالوكالة عن فرنسا في المنطقة.
وأحد أبرز نقاط الخلاف الشائكة تتمحور حول قضية الصحراء الغربية، حيث تدعم الجزائر
جبهة البوليساريو التي تسعى للانفصال عن المغرب، بينما بدأت باريس تميل أكثر
لاسترضاء المغرب في تلك القضية؛ لا سيما بعد اعتراف الأمريكيين بسلطة المغرب على
الصحراء، وقد شكل حزب الرئيس الفرنسي في أبريل الماضي لجنة دعم في مدينة الداخلة
الواقعة في الصحراء الغربية التي يقع قسمها الأكبر تحت سيطرة المغرب، بينما ترفض
الجزائر ذلك بشدة، كذا أعربت الخارجية الفرنسية عن دعم فرنسا لخطة الحكم الذاتي
المغربية التي ترفضها الجزائر بشدة
«كأساس
جاد وذي مصداقية لتسوية النزاع».
ومن الجدير ذكره أن رئيس الأركان الجزائري الحالي سعيد شرنقيحة هو من أكبر مؤيدي
البوليساريو، ودعم علانية
«حق
جبهة البوليساريو في تأسيس دولة مستقلة على أرض الصحراء»،
متهماً المغرب بالسعي وراء إجهاض المحاولات التي يقوم بها الصحراويون من أجل ذلك.
والأخطر في تلك العلاقة المتراجعة هو تزايد دعم باريس للانفصاليين الأمازيغ.
المسألة الأمازيغية
بدأت النزعة الانفصالية عند قِطاع من الأقلية الأمازيغية (البربر) في الجزائر بعد
الاحتلال الفرنسي الذي غذَّى تلك النزعة بقوة منذ أن بدأت باريس مساعيها لفصل
الأمازيغ قومياً عن الغالبية العربية وكان ذلك أول شق في الجدار السكاني الإسلامي
الجزائري.
«وعلى
الرغم من أن جميع الجزائريين تقريباً هم من أصل (أمازيغي) (وليس عربياً)، فإن أقلية
فقط هي التي تعرف نفسها بشكل أساسي (أمازيغي)، أي حوالي 15% من إجمالي السكان؛ يعيش
معظم هؤلاء الأشخاص في منطقة القبائل الجبلية شرقي الجزائر العاصمة وعدة مجتمعات
أخرى، و
«بحسب
تقدير كتاب حقائق العالم، ووَفْقاً لمقاربات ميدانية؛ فإن الناطقين بالأمازيغية دون
العربية لا يتجاوزون 15% من تعداد سكان الجزائر»[1].
ويلاحظ في هذا الصدد أن الأمازيغ، وإن كانوا كتلة كبيرة في المغرب العربي، إلا أن
كثيراً منهم تعلموا العربية لأسباب عديدة، منها الديني، ومنها ما يتعلق باعتبارها
اللغة الرسمية في بلادهم، ومنها عدم توحد اللهجات الأمازيغية، بما يمثل حالة قريبة
مما عانته اللغات المحلية والقبلية الإفريقية التي اعتمدت العربية لغة تفاهم مشتركة
لكثرة اللغات المحلية ذات الانتشار المحدود، ويؤكد ذلك ما ذكره معهد العالم
للدراسات في دراسته بعنوان في الهويات الأمازيغية؛ إذ ورد فيه:
«من
صعوبات هذه المجانسة أن شعوب البربر (الأمازيغ) في المنطقة غير قادرة على التواصل
بينها بلغة موحدة، ذلك أن التمازيغت المحكية في الأطلس تختلف جذرياً عن التاشلحيت
المحكية في جبال الريف. وتختلف الشاوية المحكية في جبال الأوراس جذرياً عن التريفيت
التي، وإن كانت تتداخل في نقـاط الاحتكاك مع التاشلحيت إلاَّ أنها تختلف عنها، ولا
يقدرُ أهلها أن يفهموا اللغات الأمازيغية في جبل نفوسة أو منطقة القبائل، دع عنك
المزابية أو التماشق المحكية في منطقة (كِلْ آدرار) (جبال الإيفوغاس) شمال مالي أو
الغدامسية المحكية في ليبيا»[2]
[3].
وهو ما يعني أن فكرة (استقلال) القومية الأمازيغية في وضعها الحالي من الناحية
النظرية البحتة بحاجة إلى إعادة نظر بالأصل فضلاً عن أن تكون بحاجة لتطوير هذه
الفكرة في شكل (استقلال) وانفصال عن الجزائر، ومناطق (مستقلة) وعلم ودستور إلى غير
ذلك، فقد ظل الأمازيغ (البربر) وحدة واحدة مع إخوانهم من العرب لنحو 12 قرناً من
التاريخ الإسلامي قبل أن تدق فرنسا إسفين الانفصال والتمايز، وتنتهج أدواتها من
بعدُ سياسة تمييزية بغية تسهيل الأمر على المحتل الحاضر بعد (الاستقلال) كما قبل،
في الوقت الذي سهلت فيه توسيع الهوة فعلياً بين العرب والأمازيغ البربر، فمارست
سياسة رخوة سمحت باختراق نخبة صنعتها فرنسا التي أسست الأكاديمية البربرية في باريس
عام 1967م، فعادت النخبة من أساتذة الجامعات المتخصصين في هذه اللهجة التي كانت
محكية فحسب حينئذٍ، لتعمل على تجريف الأمازيغية من كل ما يمتُّ للإسلام والعروبة
بِصِلة، ثم واصلت عملها الناجح للحد الذي جعل العَلَم الأمازيغي المصطنع (بديل
الهلال الإسلامي في علم الجزائر) يغزو مظاهرات الحراك، ويغدو الانفصال مطلباً
متصاعداً وحلماً لدى كثير من الشباب الأمازيغي الذي عزف تماماً عن المشاركة في كل
الاستحقاقات الانتخابية بما يعني أن الانفصال قد اختمر في عقول كثير من الأمازيغ
الذين يحلمون بغدٍ أفضل محال أن ينالوه سواء أَبَقَوا تحت سلطة عسكرية أم نجحوا
بالانفصال عن الوطن الأم.
الجزائر إذن في منعطف خطير، تجسده هشاشة الوضع الداخلي، والوضع الاقتصادي البائس في
بلد نفطي كبير ذي إمكانات بشرية هائلة واقتصادية كبيرة، لم يرسم بعد طريقه نحو
الاستقلال الحقيقي والتصالح مع هويته، ولم يبنِ مؤسساته الرسمية بطريقة صحيحة، كما
لم يحدد بوصلة سياسته الخارجية.
[1] كتاب حقائق العالم الصادر عن الاستخبارات الأمريكية.
https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/ag.html
[2] في الهويات الأمازيغية: من الجبال إلى ما بعد السهول - دراسة صادرة عن معهد
العالم للدراسات - ديسمبر 2017م
[3] واقع الحالة اللغوية للمسلمين- أمير سعيد - تحت الطبع ص 34-35