عنيت الأمة الإسلامية من لدن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، بحفظ الروايات والتثبــت من صحتها وجمعها وتدوينها في كتــب الأحـاديث والسنن، من الصحــاح والسنن، والمسانيد والمعاجم، والجوامع، والمشيخات، والأجزاء، ونحوها
إن أمتنا اليوم فـي أمسِّ الحاجة إلـى لـــمِّ شملها وتوحيد صفها وهي تواجه من
العوائق والتحديات ما الله به بصير وخبير، وإن من أَوْلـى ما ينبغي الالتفات إليه
للَمِّ الشمل وتوحيد الصف: أن تعرف الأمة كيف تدبر اختلافها، ليكون اختلافَ تنوع
يسهم فـي البناء والإصلاح، وهنا وجب استحضار جملة من القواعد الـمُعِينَة فـي تدبير
الاختلاف، وقد آثرتُ فـي هذا المقال الحديث عن واحـدة من تلك القواعد الذهبية التي
عبَّر بها علماء الشريعة الإسلامية عن تعاضد النقل مع العقل، وقد صاغوا هذه القاعدة
فـي جُمَلٍ مختصرة مفيدة، كقولهم:
«إن
العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح»،
أو قولهم:
«موافقة
العقل لما جاء به الشرع».
وتعبِّر تلك الجمل كلها عن أمر واحد هو
«أن
الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح
المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس
منه»[1].
ومجـال القاعدة واسع، وهي فـي باب العقيدة أكثـر من غيـره، لعدم قدرة العقل البشري
على تعليل أحكام العقائد، بخلاف أحكام الفقه مثلاً.
وبناء عليه فلا يمكن تصور التعارض بيـن العقل والنقل فـي مسائل الغيب، لأنه لا مدخل
للعقل البشري فيها.
وقــد عمل الصحابة رضوان الله عليهم بهـذه القاعــدة العظيمة، وتلقَّى عنهم
التابعــون ذلك، وتواترت عبارات أهل العلم بذكرها والإشادة بأهميتها.
يقول الإمام مالك رحـمه الله:
«أَوَكلما
جاء رجل أجدل من الآخر، رد ما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم
»[2].
ويقول الإمام الشافعي رحـمه الله:
«كل
شيء خالف أمـر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن
الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس لأحد معه أمر ولا
نهي غير ما أمر به»[3].
وتكلم الإمام ابن تيمية رحـمه الله عن هذه القاعدة وفصَّل القول فيها، وخاصة في
كتابه (درء تعارض العقل والنقل)، ولا يتسع المقام لإيراد بعض كلامه عنها من كتابه،
وإنما أكتفي هنا بعبارات أوردها فـي كتابه (مجموع الفتاوى) حيث يقول:
«فكان
من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يُقبل من أحد قط
أن يعارض القرآن برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم
بالبـراهين القطعيات، والآيات البينـات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن
يهدي للتي هي أقوم»[4].
وكل ما زُعم فيه التعارض بين النقل والعقل في باب العقائد أو في غيـرها، فإنه عائد
إلى أحد أمرين لا ثالث لهما: إمـا أن النقل لم يثبت، وهـــذا يُتصور في الحديث
النبوي دون القرآن الكريم؛ إذ القرآن كله منقول بالتواتر، وإما أن العقل غيـر صريح.
أما ما عدا ذلك فلا يمكن تصور تعارض حقيقي بين النقل والعقل، لأن العقل الصريح لا
يمكن إلا أن يشهد بصحة النقل، والنقل الصحيح لا يتعارض مع ما تقرر فـــي العقل
الصريح السليم.
وإذا وقع وحصل تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح في الظاهر، فإن النقل الصحيح يُقدَّم
على العقل، لأن العصمة للنقل الصحيـح؛
«إذ
العلـم إما نقـــل مصــدق، وإمـا استــدلال محقـق، والمنقول إما عن المعصوم، وإما
عـــن غيــر المعصـــوم»[5].
وقد عنيت الأمة الإسلامية من لدن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، بحفظ الروايات
والتثبــت من صحتها وجمعها وتدوينها في كتــب الأحـاديث والسنن، من الصحــاح
والسنن، والمسانيد والمعاجم، والجوامع، والمشيخات، والأجزاء، ونحوها.
وكذلك عنيت بالرواة والمرويات من حيث القبولُ والـردُّ، ووضَعَ علماء الحديث في ذلك
أدق وأحكم قواعد النقد العلمي الصحيح، التي لم يسبقهم إليها أحد، ولم يلحقهم فيها
أحد،
«فكانت
قواعدهم التي ساروا عليها أصحَّ القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها وأدقها، وإن أعرض
عنها - فـي هذه العصور المتأخرة - كثيـر من الناس وتحاموها بغيـر علم منهم ولا بينة»[6].
وكانت تلك العناية ممثلة في علماء الحديث وجهابذته، وأئمته النقاد الذين قضوا
حياتهم في الارتحال والأسفار، وجانبوا الراحة والاستقرار في سبيل لقاء الرواة،
والبحث عنهم، ووزنهم بميزان دقيق، لا تحيف فيه على أحد منهم ولا غبـن له، ولا نقص
لحقه، وعنوا أيضاً بضبط متون الأحاديث ضبطاً محكماً متقناً، وتحقيق الروايات
وتحريرها، ويبدو ذلك جليّاً في النسخة المحققة من صحيح الإمام البخاري، وتركوا لنا
في علم تاريخ الرجال ثروة نادرة لا توجد في أية أمة من الأمم الأخرى، وفـي علم
الجرح والتعديل ما لم يعرف عند أمة أخرى[7].
فأثمرت هذه الجهود كلها علماً قائماً بذاته له أصوله وقواعده، وهو علم مصطلح الحديث
الذي يضمن للأمة سلامة النقل وتمييز الغث من السمين.
ويظهر أثر قاعدة
«درء
التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل»
فـي تدبير الاختلاف الذي قد يحصل بين المختلفين من خلال استحضار أربعة أسس، هي:
الأول:
عدم العناية بالنقول المؤسِّسة لفكر كل فريق منهم:
هذا الأساس من أهم أسباب الاختلاف بين المتنازعين، ولتجاوز هذا السبب وتقليل الخلاف
لا بد من تصحيح الأقـوال المنسوبة إلـى قائليها، وتنقيح الأدلة المستَدَل بها
تنقيحاً علمياً دقيقاً، والكشف عن الأصول التاريخية لنشأة بعض المسائل الخلافية
وأسباب الخلاف؛ إذ كثيـراً ما كان سبب الخلاف بين فريقين راجعاً إلـى رواية من
الروايات، يظن أحد الفريقين أنها رواية صحيحة، ويؤسس عليها أفكاراً أو معتقدات،
وعند البحث الدقيق فــي تلك الرواية يُكتشَف أنها رواية واهيـة لا سند لـها ولا أصل
تبنـى عليه، وإنما هي مزاعم وتخرصات، لا تصمد أمام النقد العلمي، وهذا يوجد بكثـرة
فاحشة في الروايات التي يستنـد إليها بعض أهــل الكتاب، سواء فـي روايات العهد
القديم أو العهد الجديد.
ويوجد منه أيضاً شيء كثيـر في أسباب الخلاف بين السنة والشيعة؛ إذ يلحظ الباحث
المنصف أن أغلب ما يتمسك به الشيعة من الروايات في حق الصحابة الأجلاء رضوان الله
عليهم أجمعين، هي روايات لا سند لـها[8].
ووعياً من العلماء المحققين بأهمية هذا الأمر فقد قرروا قواعد مهمة، حتى صارت
مشهورة على الألسنة، ومن ذلك قولهم:
«إذا
كنت مدعياً فالدليل، وإذا كنت ناقلاً فالصحة»،
وقول عبد الله بن المبارك رحـمه الله:
«الإسناد
عندي من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»[9].
الثاني:
محاربة الإشاعات التي لا تستند إلى دليل ولا برهان:
وقد طغت الإشاعات فـي عصرنا الحاضر، حتى حلت محلَّ الحقائق عند كثير من الناس،
ولوسائل الإعلام المتنوعة أثر كبير فـي نشرها والترويج لها لمآرب عند أصحابها.
الثالث:
إن العقل الرشيد الصريح ابن شرعي للوحي الصحيح:
ومن أبرز مهام الوحي تسديد وترشيد العقل
«بعيداً
عن التقليد والتعصب والجزئية والعمى والجمود واستلاب الغرائز والضلال، وتحكم الهوى
والأثرة والعنصرية والتحيز والجهل... وغيرها من صور الضغط والتوجيه التي تمنع العقل
أن يرى الصورة كلها، وأن يضع الأمور فـي نصابها، وأن ينتهي إلـى الحكمة الراشدة
والرأي الدقيق المحيط السديد»[10].
الرابع:
تحرير العقل من الأوهام والخرافات مقدمة ضرورية لإزالة التعارض المزعوم بين النقل
والعقل:
لذلك نجد أن الإسلام قد رسم للعقل المنهج الصحيح للعمل والتفكر، ورفع عنه كل
العوائق والموانع التي تعطله وتمنعه من إدراك وحدانية الله عن طريق التفكر والتدبر
في ملكوت الله، ونهانا عن اتباع الظن والأوهام والخرافات، والخضوع لسيطرة العادات
والتقاليد، أو تقليد الآباء، وكل ذلك حتى يتحـرر العقل حرية حقيقية كاملة، تقوده
إلـى الاعتقاد الصحيح الذي يوافق ما دل عليه العقل السليم، ومن النصوص القرآنية
التي دعت إلى تحرير العقل من الأوهام والخرافات قوله تعالــى: {إنَّمَا
يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ
169وَإذَا
قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا
وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:
169
-
170].
ومما تقدم تتلخص لنا قيمة قاعدة
«درء
التعارض بين صحيح النقل وصريـح العقل»،
وأنها مدخل مهم من مداخل تدبير الاختلافات التي تنشأ فـي الأمة، فوجب إذن الالتفات
إلـى القاعدة واستحضار ما ترمي إليه من مقاصد وغايات ما أحوجنا إليها؛ وخاصة فـي
عصرنا الذي أصبح فيه كثير من الاختلاف يهدم ولا يبني، ويفرق ولا يجمع.
[1] درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية: 1/ 231 - 232.
[2] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/ 144، تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان.
[3] كتاب الأم للشافعي: 2/ 193.
[4] مجموع الفتاوى لابن تيمية: 13/ 28.
[5] مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، ص: 48.
[6] الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، للحافظ ابن كثير، تأليف الشيخ أحمد محمد
شاكر، ص: 6.
[7] ينظر ما كتبه الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة في مقدمة كتابه (الوسيط في علوم
ومصطلح الحديث)، ص: 5 - 6.
[8] ينظر كتاب (أصول الرواية عند الشـيعة الإمامية عرض ونقد) للدكتور عمر محمد عبد
المنعم الفرماوي.
[9] هذا الأثر أخرجه الإمام مسلم فـي مقدمة صحيحه، باب أن الإسناد من الدين
والرواية لا تكون إلا عـن الثقات، 1/ 15.
[10] ثوابت ضرورية فـي فقه الصحوة الإسلامية للدكتور عبد الحليم عويس، ص: 12.