أربعمئة بيان من البيان
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن ابتداءَ أيِّ جـديد أمرٌ بالغُ الصعوبة؛ لانتفاءِ المثال الذي يُقاس عليه، وافتقادِ عامل الخبرة، مع التعرضِ لأخطاءٍ وأخطارٍ لم تكن في الحسبان، ولا يعني هذا أن تكرار مشروع قائم خيار خالص السهولة، خالٍ من العوائق؛ إذ يكتنفه احتمال الدخول في منافسة خاسرة، أو الضياع في متاهة المقارنات، فضلاً عن أن الداخل إلى مجتمع قائم؛ يحتاج إلى انتظار ربما يطول كي يصنع لنفسه موقعاً.
وقد كان مشروع مجلة البيان جـديداً من جهة، وقديماً من جهة أخرى؛ فالمطبوعات الدورية متوافرة آنذاك وفي ازدياد، بَيْدَ أن النهج الذي اختطته البيان لنفسها جعلها أشبه بمشروعٍ حديثٍ دون نموذج سابق، وكان هذا من مكامن التحدي، ومن الفرص المتاحة أيضاً قبل أربعة عقود تقريباً.
فعندما ولدت فكرة المجلة، نظر القائمون عليها فيما خبروه أو قرؤوا عنه من مطبوعات ومجلات؛ وخلصوا إلى ما يلي:
توقف عدد من المطبوعات عن الصدور بقرار جائر، أو بإجراء ظالم.
تعثرت بعض المجلات بسبب ضمور الموارد المالية، أو فقدانها.
لم ينتظم صدور بعض المجلات، أو انتظمت بمحتوى هـزيل؛ ويعود ذلك إما لضعف التحرير، وإما عسر معايير النشر، وإما حصر نطاقها في فئة أو حيِّز أو تخصص، وربما يكون السبب غياب أهم أفرادها، أو خفوت البُعد المؤسسي فيها.
ولذا كان لا بد من ضمانات تمكن المجلة الجديدة من تجاوز هذه الإشكالات التي يُحتَمَل ورودها، ورأى القائمون على تنفيذ هذه الفكرة بعد حوار عملي أهمية اعتماد ما يلي من سياسات تحكم مسيرة المجلة:
يكون عملها مؤسسياً غير مرتبط بأفراد.
تخاطب نخب المسلمين، ويفهم خطابها عموم المثقفين.
ألَّا تنحاز لشيء، بل يكون رائدها الأول تبليغ الحق الذي تعتقده.
تصدر في مكان يتميز ببيئة قانونية واضحة المعالم.
الابتعاد عن المواجهة، وانتهاج الحكمة في البلاغ والإرشاد، وتجنُّب الباطل والمداهنة.
وضع خطة تحريرية محكمة، تضمن الصدور الدوري دون انقطاع.
اعتماد ضوابط للنشر تمنع الهزيل، وتستقطب المتين، دون تصنيف جائر، أو مواقف مسبقة، أو مجاملة.
ولتحقيق هذه الضمانات والأهداف سعت البيان إلى:
تكوين هيئة تحرير متنوعة، وتجديدها دورياً.
تكليف فريق مساند لهيئة التحـرير يتولى المتابعة، والتنسيق، والتدقيق.
التطـوير المتدرج للشكل الخارجي، وطريقة الإخراج، والألوان المستخدمة، وخطوط العناوين والمحتوى، وإضافة الأشكال التوضيحية.
التفاعل الإيجابي مع المستجدات التقنية والاتصالية.
تثبيت بعض الزوايا والكتَّاب، والتجديد الدوري فيهما، مع تحديد زوايا مرنة، بما يضمن للقارئ المتابع وجود مادة ثرية متنوعة.
التركيز على الكلمة الصغيرة والافتتاحية والورقة الأخيرة؛ لتكون معبِّرة عن وجهة نظر المجلة، ولتحمل من الأفكار والمفاهيم ما تسعى لترسيخه.
نشر ملفات عميقة حول قضايا ساخنة بين آونة وأخرى. وفي أحوال معيَّنة يصدر عدد كامل عن موضوع واحد.
كما حاولت البيان أن تضمَّ صفحاتُها وزواياها الثابتة، وملفاتُها المتجددة، غالبَ القضايا التي تهم المسلمين وبلادهم، ويتضح ذلك جليّاً بسبْر محتوياتها التي تفصح عن مجالات التركيز التالية:
نشر معتقد أهل السنة والجماعة وَفْقَ فَهْم السلف الصالح.
الاهتمام بالدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم والسُّنة النبوية الصحيحة.
العناية بالدراسات الفقهية، وتوجيه جزء منها للنوازل والأحكام الاقتصادية والسياسية.
تغذية المحاضن التربوية بزاد منهجـي علمي وعملي، لعِظم الحاجة إليه، وتناقص المواد المؤثرة فيه.
متابعة الأحداث السياسية العالمية؛ خاصة ما تعلق بالمسلمين وبلادهم.
الإطلالة على التاريخ الإسلامي والأدب الخالي من الشوائب والمكدرات.
لفت النظر إلى العلوم الاجتماعية والسلوكية، ولبعضها زوايا ثابتة في المجلة.
خدمة الأسرة المسلمة، وتخصيص ملفات ومقالات عن قضايا الطفل والمرأة.
رصد الحراك العالمي عبر المنظمات والاتفاقيات والأحـلاف، والتنبيه إلى الفرص المحتملة فيه، أو المخاطر الناجمة عنه.
استشراف المستقبل الدعوي والفكري والسياسي.
التعريف برجالات المسلمين، وبالأعمال النوعية، والكتب المتميزة.
تبنِّي الإعلان عن حملات إغاثة المسلمين، وتعليمهم، ورفع الضراء والعوز عنهم.
ولم تقف البيان عند حدود مجلتها المطبوعة، ولم تغلق الباب على نفسها دون التطورات المحيطة، لاغتنام فرص التوسع والتأثير الممكنة، وذلك من خلال ما يلي:
الالتزام بإصدارات دورية محكمة، تتطرق لأكثر الحقول العلمية والمعرفية التي تعنى بها المجلة.
إتاحة الأعداد السابقة ورقيّاً وإلكترونيّاً للقراء والباحثين.
إنشاء موقع إلكتروني يعتني بمتابعة أخبار العالم، ونشر البحوث والدراسات المتخصصة.
العناية بتطبيقـات الهواتف الذكية، ووسائط النشر والبيع الإلكتروني، فأصبحت حاضرة عبر عدة منصات، وهو ما يسَّر وصولها إلى من لا يستطع الحصول عليها مطبوعة.
كتـابة التقـرير الارتيادي (الإستراتيجي) السنوي منذ عام (1424هـ)، بغية أن يكون أداة علمية مُعِيْنة لصانعي القرار والنخب السياسية والثقافية المؤثرة.
إقامة المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش والبحث والحوار.
المشاركة الفاعلة في الإعلام الاجتماعي بما يخدم رسالتها ويوصل بيانها إلى أكبر عدد من الشرائح المستفيدة والمستهدَفة.
حضور أغلب معارض الكتاب العربية، وامتاز جناحها بكثرة الزوار. وحققت بعضُ كتبها نِسَبَ مبيعات مرتفعة.
لم تبخل البيان في مدِّ يد العون للباحثين الذين قرروا دراسة المجلة وأثرها في الجوانب العلمية والعقدية والدعوية، حتى صارت المجلة موضوعاً لعدد من الدراسات العليا في بعض الجامعات العربية.
فتح قنوات التواصل لمن شاء من القراء والمتابعين أن ينشر فيها، أو يفيدها بمقترح.
قبول الانتقاد الواضح لعمل المجلة، وطرق معالجتها للقضايا، فالحق قيمة لا يعلو فوقها شيء، ورحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا.
وضع جميع الخيارات المستقبلية للتطوير والتفاعل مع المستجدات أمام أنظار المجلة وهيئة تحريرها، الذين يدركون تحول كثير من المطبوعات الورقية إلى إلكترونية، وانصراف الناس نحو المختصر، والصور.
وبناء على ما سلف نستطيع وصف رسالة المجلة بما يلي:
أنها منبر إسلامي يتبع منهج أهل السنة والجماعة واعتقادهم، ويلتزم به وَفْقَ فهم سلف الأمة، واجتهاد علمائها المحققين.
أنها تخاطب النخبة بالدرجة الأولى؛ دون أن تغفل عن أهمية الوصول إلى شرائح متنوعة من المثقفين، والمؤثرين.
أنها ذات رسالة عالمية تنطلق من مشتركات الأمة الإسلامية.
أنها لا تزعم احتكار الصواب في الساحة الإعلامية والفكـرية؛ وإنما تجتهد لخدمة المنهج؛ وتسابق على مكان متقدم في الصفوف.
أن اختصاص البيان بموضـوعات معيَّنة، وشرائح محددة، لا ينفي أهمية غيرها، وحاجة الأمة لمن يحمل مسؤولية النهوض بها.
أنها حريصة في أعمالها وأنشطتها على تعزيز الوعي، وترسيخ الأفكار السليمة، وتصحيح طرائق التفكير والتصور، وصيرت هذا التوجه لديها ركناً ركيناً يتقدم على مجرد نشر المعلومة، أو بث المعرفة.
أنها تسعى لأن تكون عامل وئام ووفاق، وتصرف الكثير من الجهود لتحقيق التقارب الشرعي بين العاملين للإسلام، وتغليب المصلحة الشرعية على أيِّ اعتبار آخر.
أنها جعلت قسماً من موادِّها خادمة لأعمال القلوب، ورفع مستوى الإيمان وزيادته، والتأكيد على مرتبة الإحسان وفضيلة المراقبة؛ لأنها تؤمن بأن إصلاح الإنسان في خلوته مقدم على إصلاح حاله في جلوته، وهو المعتمد في التربية والتزكية.
أنها أَوْلَت مسألة الإصلاح الفكري أهمية كبرى، وجهدت لبلوغ هدفها في هذا المسلك المهم؛ وليس هذا بكثير على أمر يتصل بتوجيه الإنسان.
ولسائل أن يسأل: هل تخلو البيان من النقص ولو كان يسيراً؟ ولا يخفى أن النقص مستولٍ على جملة البشر وأعمالهم، فلا يسلم منه أحد؛ بَيْدَ أن البيان وفريقها وكتَّابها - عبر هذه العقود - يرجون أنهم قد استفرغوا الوسع، وأدوا أقصى ما يستطيعونه في هذا العالم المتلاطم المليء بالعقبات، ومع ذلك كله، فجميع الأبواب مفتـوحة لمن شاء تقـديم نصح، أو عتب، أو انتقاد، أو اقتراح، والمؤمن مرآة أخيه.
بيد أن الحقيقة التي يعترف بها البصراء من الناس؛ هي أن طَرْق كلِّ موضوع، أو مواجهة جميع المخاطر، أو انتقاد كلِّ الأخطاء، أمر يقترب من المستحيل في عالم التحولات والتغيرات المتسارعة التي ينسي بعضها بعضاً، وأن التوازن في الطرح سياسة تمليها عدة أسباب، منها أهمية الموضوع، ومناسبة طَرْقه، وتوافر المادة الملائمة عنه، وإسعاف عامل الوقت في مجلة شهرية.
كما أن ترسيخ فكرة لدى النخبة وعامة المثقفين أَوْلَى من اقتحام محظور، أو الدوران حول معلومة أو واقعة، فالوقائع تتجدد، والأفكار الكبرى والجامعة تقي مَن وعاها من المزالق والخطل، وهذا ملمح وضعته البيان في خلدها؛ كي تستمر في إيصال رسالتها؛ فما لم تستطع قوله صراحة، بثت حوله الأفكار التي يسهل فهمهما، وتنزيلها على الأحداث، ولهذا نَأَتِ المجلة عن بعض الملفات الشائكة، مكتفية بالـمُحْكَمَات والقواعد التي تقود من يلتزمها بفهمٍ إلى عين ما تراه المجلة من رأيٍ ومنهجٍ.
ومع طول عمر المجلة نسبة إلى مثيلاتها، فهذه الافتتاحية مثلاً مكتوبة بمناسبة صدور العدد الأربعمئة، إلَّا أننا ندرك أن القيمة لأيِّ عمل أو مشروع تقاس بآثاره وثماره وإصلاحه، ونبتهل لله أن نكون ممن عضَّ على الحقِّ بالنواجذ، وأن نكون مشمولين بفضيلة التبليغ ولو بآية أو حديث، ونسأله سبحانه الصدق والثبات:
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: ٨].