توازن الرعب الفيروسي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
برزت الصين في السنوات الأخيرة قوةً عالميةً صاعدةً وتعدَّت مرحلة الانفتاح الاقتصادي وغزو العالم بالمنتجات الصينية إلى حالة حرجة؛ فدورة الإنتاج الضخمة تعتمد على أن تبقى أسواقها حول العالم مفتوحة بل تحتاج إلى أسواق جديدة؛ وهذا يقتضي منافذ تصـدير متعددة وكذلك مصادر مضمونة لكميات الطاقة والمواد الخام الهائلة التي تحتاجها. ولا شك أن تحقيق هذه المتطلبات يعني دخول الصين في مشاريع عابرة للحدود لتأمين منافذ تصدير جديدة قريبة من الأسواق المستهدفة؛ وهذا تم من خلال مشروع طريق الحرير الذي يتكون من ستة ممرات برية إضافة إلى طريق الحرير البحري. ولأهمية معرفة البُعد الإستراتيجي نعرض هنا هذه الممرات، وهي:
الجسر البري الأوراسي الجديد الذي يمتد من غربي الصين إلى روسيا الغربية.
ممر (الصين - مونغوليا - روسيا) الذي يمتد من شمالي الصين إلى الشرق الروسي.
ممر (الصين - آسيا الوسطى - آسيا الغربية) الذي يمتد من غربي الصين إلى تركيا.
ممر (الصين - شبه جزيرة الهند الصينية) الذي يمتد من جنوبي الصين إلى سنغافورة.
ممر (الصين - باكستان) الذي يمتد من جنوب غربي الصين إلى باكستان.
ممر (بنغلادش - الصين - الهند - ميانمار) الذي يمتد من جنوبي الصين إلى الهند.
إن طـريق الحـرير البحري الذي يمتد من الساحل الصيني عبر سنغافورة والهند باتجاه البحر المتوسط وهذه المشاريع المطروحة؛ تقتضي عقد تحالفات وتقـوية العلاقات مع دول المرور، وكذلك أمـن الممرات البحرية المؤدية إلى الأسواق في آسيا وإفريقيا يحتم تقـوية البحرية الصينية ووجود قواعد صينية خارجية، وبصورة أخرى ستدخل الصين بشكل إجباري في خيار بناء قوة عسكرية منافسة عالمياً للحفاظ على مصالحها؛ وهي بذلك تتحول إلى قطب عالمي جديد سيدخل - حتماً - في تنافس وصراع مع القوة المسيطرة حالياً، وسنشهد قريباً تشكيلاً جديداً للتحالفات العالمية، وسنلاحظ حرصاً أمريكياً على التحرش بالصين وإضعافها؛ بل قد يصل الأمر إلى الدخول معها في صدام عسكري استباقي، وهو ما تحاول الصين تأجيله قدر الإمكان. ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى ثلاث ظواهر تحتاج إلى مزيد من الاهتمام، وهي: تكرار ظهور أوبئة فيروسية في الصين خلال السنوات الأخيرة.
واشتداد الحرب الاقتصادية الأمريكية وظهورها بالعلن على شكل عقوبات وضرائب حماية جمركية في محاولة لإعادة توطين الصناعة الأمريكية وإغلاق الأسواق الأمريكية تدريجياً أمام البضائع الصينية.
والظاهرة الثالثة هي بدايات توتر عسكري بين الصين وأمريكا مع تزايد الاحتكاكات في بحر الصين الجنوبي وبروز قضية جزيرة فرموزا (تايوان) من جـديد مع استعراضٍ صيني للقـوة بمناسبة الذكرى السبعين للثورة الشيوعية. ولم تخفِ أمريكا قلقها وتخوُّفها من النمو السريع للقوة العسكرية الصينية بشكلها الجديد القائم على تقنيات صينية متقدمة؛ ففي مؤتمر ميونخ للأمن الذي اختتم في 16 فبراير/ شباط الحالي وبعد تصرحات وزير الخارجية بومبيو ضد الصين؛ دعا وزير الدفاع الأمريكي المجتمع الدولي إلى الشعور بالقلق العميق من تطوير الصين للذكاء الصناعي، وأضاف أن التحدي الأمني الرئيسي للولايات المتحـدة قد تغير ولم يعد روسيا وإنما أصبح الصين، ثم عاد وصرح بأن الصين تحاول استكمال تحوُّلها العسكري للهيمنة على آسيا وفرض نفسها قوة، وأضاف أن الولايات المتحدة لا تسعى للنزاع مع الصين بل تسعى للعمل المشترك. وكان الرد الصيني أن صرح وزير خارجيتها بأن الاتهـامات الأمريكية للصـين مجرد أكاذيب وأن بلاده تريد بنـاء علاقات ودِّية مع الولايات المتحدة تقوم على الاحترام المتبادل.
إنها نُذُر صراع قادم بين صين تتمدد ودولة مسيطرة تريد الحد من طموحها ومحاولة إحكام طوق الحصار حولها. وهنا لا بد من التركيز على ما يجري حالياً من سباق محموم بين الصين التي تحاول جاهدة للملمة جراحها وتجاوز تأثير فيروس كورونا الاقتصادي عليها وبين أمريكا التي تحاول التهـويل من الأمر وانتهازه فرصةً لحصار الصين والضغط عليها بقوة؛ ولذا فمن المهم دراسة هذه الحادثة ضمن إطارها الطبيعي العام من حيث ملابساتُ حدوثها وكيفية استثمارها. ومن الملفت للنظر أنه في العقـدين الأخيـرين، أصبحت الصين نقطة البداية لأوبئة خطيرة، مثل أنفلوانزا الطيور، ووباء سارس الخطير، وفيروس كورونا الجديد؛ فهل من المعقول أن نعتقد فقط أنه أمر طبيعي، أم من الأولى أن نطرح احتمالات أخرى؟ فمثلاً قد تكون متسربة خطأً أو مسربة عمداً من أحد المعامل المتخصصة؛ وإذا كان الأمر كذلك فهل هو معمل يتبع لدولة مَّا لتجـربة آثاره الحقيقية أم أنه مجرد تصرف أرعن من شركة مَّا في مجال اللقاحات وتبحث عن الربح المجرد... وبما أنها كلها احتمالات فمن المهم إلقاء الضوء على الاحتمال الأخطر حتى وإن كان مستبعَداً. الاحتمال الأخطر أن يكون مصدره دولة لديها برنامج بيولوجي للأغراض العسكرية؛ ولذا فمن الضروري معرفة أهم الدول التي لديها برامج متطورة في الحرب البيولوجية؛ وهي (أمريكا، وروسيا، والصين، واليابان، وكوريا الشمالية، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإسرائيل)، وقد تكون هناك دول أخرى تملك برامج سرية... المهم هنا أنه يصعب تصور اعتراف أي دولة بأنها استخدمت هذه الأسلحة المحرَّمة دولياً لأن آثارها لا يمكن التحكم بها ومن ثَمَّ خطورة تحمُّل نتائجها.
إن الممارسات على مر التاريخ تؤكد على أنه سلاح استعمل قديماً؛ فمثلاً تلويث مصادر المياه بالسموم أو بالجثث المتعفنة أو الحاملة لأمراض خطيرة كان معروفاً، وكان المانع من استعماله - غالباً - يدور حول عدم إمكانية التحكم فيه؛ فلذلك عنـدما اقتنع الإنجليز في أمريكا عام 1767م بأن انتشار الجدري بينهم كان فرصة ذهبية للتخلص من الهنود الحمر لأنه لا يوجد لديهم مناعة ضده قاموا بحملة إغاثة قام فيها القسس والعاملون في الكنيسة بتوزيع أغطية ملـوثة بالجدري على قبائل الهنود الحمر المساكين الذين خُدعـوا بالمظهر الإغاثي وقُتِل الألوف منهم في جريمة بشعة تكررت عندما أُمنت العاقبة. وقد قام الألمان عندما كانوا يحتلون ناميبيا في إفريقيا بإبادة قطعان الأبقار العائدة للقبـائل المحلية بنشر الأمراض بينها بصورة مقصودة من أجل تجويعهم ومن ثَمَّ تطويعهم لخدمة المستعمر، واستعمل الألمان خلال الحرب العالمية الأولى الحرب البيولوجية ضد الإيطاليين والروس بنشر الكوليرا بينهم. ولا شك أن الدول في ذلك الوقت لديها برامج ولذا تم عقد اتفاقية دولية لتجريم الأسلحة الكيميائية والبيولوجية عام 1925م، وقـد وقَّع عليها - مثلاً - الاتحاد السوفييتي ولم يلتزم بها، ولكـن الولايات المتحـدة لم توقِّع ولم تتقيد بها، وكان المانع الوحيد من استعمالها على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية هو توازن الرعب وخوف الرد بمثلها. ومن البرامج التي كُشِف عنها هو البرنامج الياباني الذي كان نشطاً ومتطوراً وقامت أمريكا بنقل العلماء اليابانيين البارزين إلى أمـريكا والاستفادة منهم، وقد اضطرت أمريكا أثناء حرب فيتنام لاستخدام السلاح البيولوجي من أجل تدمير الغطاء النباتي في مناطق العمليات، وهو ما نبه الخصوم لتطور البرنامج وما سيؤدي إليه منطقياً من سباق تسلح بيولوجي، وهو ما اضطر الغرب إلى الدعوة لتدمير الأسلحة الكيميائية والبيولوجية في السبعينيات من القرن الماضي. ومن الطبيعي أن تستجيب الدول الكبرى لهذه الدعوة وتقوم علناً بتدمير مخزونات ضخمة من هذه الأسلحة. ولكن الأغبياء فقط كانوا يصدقون أنه تم التخلـص من المخزونات المهمة! بل الأدهى والأمَرُّ أن ما تم تدميره هي بعض الأسلحة العمياء، ومن المحزن أن البرامج بدأت في توجيه الأبحاث البيولوجية لتكون انتقائية؛ فمثلاً تكون مؤثرة بشدة فقط على الجنس الأصفر أو العرب أو الروس حسب الخريطة الجينية؛ ولذا فإن الإقدام على استخدامها يكون بحرِّية أكبر، وهو ما يعيد إلى الذاكرة ما فعله الإنجليز بالهنود الحمر.
بالنسبة لفايروس كورونا الجديد فقد كثر الحديث حول مصدره، ولكن الملفت أن الصين تكافح المرض بصورة علنية ولكنها تبحث بسرية عن مصدره الحقيقي وليس هناك أي تصريح رسمي، وكل المتاح هو كلام صحافة لا يخلو من التوجيه؛ فالصحافة الروسية تتجه إلى اتهامٍ صريح للولايات المتحدة بنشر المرض ضمن حرب بيولوجية ضد الصين وروسيا؛ فقد نشر موقع زيفسدا الروسي، الذي تموله وزارة الدفاع، مقالاً في أواخر الشهر الماضي، تحت عنوان «فيروس كورونا: الحرب البيولوجية الأمريكية ضد روسيا والصين». بدأ المقال بعرض بعض الخسائر التي تعرَّض لها الاقتصاد الصيني بسبب فايروس (كورونا)؛ ليدعم أدلته بشأن (المؤامرة الأمريكية)، مضيفاً: «ذلك يهدف إلى إضعاف بكين في الجولة المقبلة من المفاوضات التجارية مع واشنطن». وصرح السياسي إيغور نيكولين لعدد من المنابر الإعلامية بقوله: «إن اختيار مدينة ووهان لنشر فيروس (كورونا) كان بسبب احتضانها معهد ووهان لعلم الفيروسات، الذي يقدم للبنتاغون والمخابرات الأمريكية غطاء مريحاً لإجراء تجاربهم البيولوجية»، ومن جهة أخرى يتراوح الطرح الإعلامي الأمريكي بين الحديث أنه طبيعـي إذ نقلت فورين بوليسي عن ديفيد فيسمان، أستاذ علم الأوبئة في كلية (دالا لانا) للصحة العامة في جامعة تورنتو قوله: «فيروس كورونا الجديد، بالتأكيد هو غامض ويتحرك بسرعة ويمكن أن يسبب الذعر، لذلك تلجأ الناس إلى نظريات المؤامرة، وخاصة أنه يتحور بسرعة في البشر، لكنهم لا يدركون أننا نعيش حالياً عصراً جديداً مما يمكن أن يطلق عليه عصر الأمراض المعدية الناشئة». وبين التأكيد على أنه مخلَّق من قبل مختبرات صينية. ومع عدم وجود تصريحات رسمية من أي جهة في العالم فإن الموقف الصيني المتحفظ يشير إلى احتمالين: فإما أنه متسرب من معمل صيني يقتضي احتياطات وإجراءات سرية، وإما تم نشره من قبل دولة أجنبية يقتضي بالطبع رداً سرياً غير معلن. وكلاهما يكشف خطورة الوضع ولن تتبين حقيقة ما جرى إلا بعد مدة من الزمن من خلال تتابع الأحداث وطبيعة العلاقات الصينية في المرحلة القادمة؛ وخاصة أن الاحتمالين كليهما يفتحا أعيننا على مرحلة جديدة يمـر بها العالم؛ وكيف أن النظام الدولي شديد الهشاشة، وأن ما نعيشه من تقدم علمي وسهولة فائقة في المواصلات وحرية التنقـل والتبادل التجاري يخفي خلفه خطورة الانزلاق إلى حروب سيطرة شاملة، أو أن يعود العالم إلى وضع توازن الرعب المتبادل ونضيف إلى ما نعيشة من الرعب النووي ما يمكن تسميته بالرعب الفيروسي ويبقى العالم خائفاً ليس من مجنون يضغط زراً نووياً بل من عالِم مهووس لا يحب البشر!
ونختم هنا بالتوجيه النبوي في حال حدوث وباء عام نسأل الله لنا ولجميع المسلمين السلامة؛ ففي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأثناء توجهه إلى الشام بلغه أن الطاعون قد وقع فيها فقرر الرجوع بعد مشاورة المهاجرين والأنصار ووجهاء قريش، فلامه أبو عبيـدة بن الجراح رضي الله عنه بقوله: «أنَفِر من قدر الله؟» فرد عليه بقوله: «نفر من قدر الله إلى قدر الله» وقد شاء الله أن يظهر موافقة عمر رضي الله عنه للهدي النبوي، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان متغيِّباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا عِلْمًا، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتُم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه»، فحمد اللهَ عمرُ بن الخطاب رضي الله، ثم انصرف.