المفتي موقِّع عن الله
تعالى ، وقائمٌ مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معنيٌ بضبط قواعد الحلال
والحرام، وفي هذه الأيام عرضت للأمة قضايا لم يخطر ببال أحد وقوعها، وفي ظل الثورة
الإعلامية التي يعيشها عالم اليوم، وأن ما يحدث في جانب من الكرة الأرضية يعلمه
سكان الجانب الآخر في نفس اللحظة، أصبحت الحاجة ملحة إلى "ضبط
الفتوى" في مواجهة الفوضى والتضارب الناشئ عن فتاوى الفضائيات، فهل هذا التوجه
تقييد للاجتهاد، أم أنه حد من انتشار الرؤوس الجهال ؟؟
هذا التحقيقُ يلقي
الضوءَ على هذه القضية من أجل محاولةِ الوصولِ بالقارئِ إلى رؤيةٍ واضحةٍ للرأيين
المختلفين فيها.
فالرأي الأول يؤيد
قيام مجامعَ فقهيةٍ تتولى أمرَ الإفتاءِ؛ ولا يكون لسواها حق إصدار الفتاوى
الرسمية، والرأي الثاني يقول بأن العالمَ المشهودَ له بالعلمِ لا ينبغي أن يُمنع
من الفتيا؛ وإلا فهذا يعد تقييدًا للاجتهادِ .
وتأتي أهمية هذا الأمر
بعد صدور أمر ملكي بإنشاء ثلاثة عشر فرعًا لرئاسة الإفتاء بالمملكة العربية
السعودية باعتماد ماليٍّ بلغ 200 مليون ريال، وتكون تلك الفروع مخولة دون سواها بإصدار
الفتاوى، وإنشاء مجمع فقهي في إطار السعي لضبط الفتوى وإبعادها عن الشطط.
وكذلك الحال في مصر
حيث يبحث الأزهر الشريف سبل ضبط الفتوى بعد أن أصبح عشراتُ "المفتين" يظهرون على شاشاتِ
الفضائياتِ ويجيبون على مكالماتِ الجماهيرِ؛ ويفتونهم على الهواءِ مباشرة، وظهرت
من ذلك فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان لا سيما في أمور الطلاق.
وفي المملكة العربية
السعودية رحب الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، المفتي العام ورئيس هيئة كبار العلماء بإنشاء
فروع لرئاسة الإفتاء وإنشاء مجمع فقهي سعودي، معتبراً ذلك خطوةً من شأنها ضبط
الفتوى.
ونص الأمر الملكي بإنشاء
المجمع الفقهي على أن "يكون ملتقى علميًا تُناقَشُ فيه القضايا والمسائل
الفقهية، تحت إشراف هيئة كبار العلماء، بحيث يتم من خلاله استقطابُ الكثير من
الكفاءات الشرعية المؤهلة، وإتاحة الفرصة لهم لتقديم أطروحاتهم العلمية ومناقشتها،
وإبداءُ الرأي حيالها، بقراراتٍ علميةٍ رصينةٍ، تراعي الثوابت الشرعية، في أفقِ
المبادئِ العلميةِ، والأسس المنهجية لهيئة كبار العلماء، بما يتيح مستقبلاً اختيارُ
المبرزينَ من بينهم لمناصبَ علميةٍ أعلى، ويخفف العبء على أعمال هيئة كبار العلماء
لتتفرغ لمهامها بالتصدي للمسائل والقضايا الكبار، وكذا تخفيف العبء على أعمال
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لتتفرغ لمهامها بالنظر في الفروع الفقهية
المتعلقة بأسئلة المستفتين."
وقال المفتي في رده
على سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول الرسالة التي يوجهها للإعلام بعد القرار الملكي
«القضية ألاّ يمسَّ أحدٌ بسوءٍ، النقاش والملاحظة، كل منا يخطئُ والخطأ مردودٌ مِن
قائلِه ولكنْ يجبُ البعدُ عن التجريحِِ الزائدِ ومحاولة الحطِ من شأن العلم والحط
من قدرِ أهله، فالقرار فيه حمايةٌ للعلم وللشرع من عبث العابثين».
وأضاف الشيخ عبد
العزيز آل الشيخ: إن إنشاءَ فروعٍ لرئاسة الإفتاء سيعمل على ضبط الفتوى، بحيث تكون
الفتوى منضبطة، وتكون الفروع مرتبطة بالرئاسة، سائرة على منهجٍ واحدٍ لنضمن البعد
عن الشطط في الفتوى.
ويحذر الدكتور محمد
يسري إبراهيم - الأمين العام للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح- من فوضى الإفتاء فوضى الإفتاء وضعف المفتي في التصوير
والتكييف الفقهي للنازلة، والغفلة عن تطور النازلة وواقعها.
وأضاف: إن عصرنا بما
فيه من انفتاح إعلامي وتقدم حضاري ومادية طاغية يموج بأفكار وأحزاب ومناهج مختلفة
مع جهل عظيم بالشرع واتباع للهوى وفساد في الأخلاق وصراعات سياسية محتدمة، وكل ذلك
يؤثر بشكل أو بآخر على الفتيا المعاصرة، ومن هنا تكثر المزالق والمحاذير في الفتيا
المعاصرة في النوازل ولا شك أن استيفاء ضوابط الفتيا أعظم العواصم من تلك القواصم.(1)
وحاورت مجلة البيان بالدكتور عبد الرحمن
فودة الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، فشارك بقوله: قد يكونُ توحيدُ مصدرِ
الفتوى مفيدًا في حالات، لا سيما في النوازل وفي الأمور التي تنزلُ بالأمة وليس
فيها فتوى سابقة يستطيعُ أن يفتي فيها طالبُ العلمِ أو الداعيةُ أو العالمُ على
مثالٍ سابقٍ، لأن فتاوى الطلاقِ وفتاوى الاقتصادِ هي فتاوى متكررة في الغالب، أما إذا
كانت الفتوى محل الكلامِ فتوى حديثة موضوعها جديد وفيه نزاعٌ حديثٌ فالأولى طبعًا
أن تتصدر لها الهيئات الشرعية الكبرى، مثل هيئة كبار العلماء في السعودية أو مجامع
الفقه أو مجمع البحوث الإسلامية في مصر والهيئات الشرعية المعترف بها في العالم.
وأضاف: لكن إذا كان
المفتي الذي يصدرُ الفتوى عالمًا مشهودًا له بالعلم وتوفرت له أدوات الفتيا وشهدَ
له بذلك أهلُ العلم الثقاةُ؛ فما الذي يمنعه من أنْ يفتي؟.
وفي حوارٍ خاص له مع البيان قال الشيخ مولاي عمر
بن حماد -نائب حركة التوحيد والإصلاح- بالمغرب: "ليس من سبيل غير المبادرة
إلى الإصلاح، وترشيدُ الفتوى لا يمكن إلا أن يكونَ قوةً للفتوى، وإذا قبلنا الحديثَ
عن ترشيد العمل الإسلامي؛ فترشيدُ الفتوى فرعٌ من أصلٍ، والمتتبعُ لشؤون الفتوى
يدركُ بلا شكٍ الحاجةََ الماسةََ للترشيدِ.
ومن المطالب الملحةِ معالجةُ مظاهرِ التسيب
في الفتوى، خاصةً في القضايا العامة التي
قد لا تحسمها الفتاوى الفردية مهما كانت قوة صاحبها، إن تفعيل آلية الاجتهاد
الجماعي يعد أحد المطالبِ الملحةِ والعاجلةِ"
(1)
من كتاب: الفتوى.. أهميتها ضوابطها آثارها، لمؤلفه الدكتور محمد يسري إبراهيم