• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الموريسكيون الأندلسيون ومأساتهم المفجعة

الموريسكيون الأندلسيون ومأساتهم المفجعة


في يناير1492/897هـ، سقطت غرناطة، بأيدي الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا، وكان ذلك، بموجب معاهدة تسليم، وقعها فرناندو مع أبي عبد الله الصغير، آخر سلاطين هذه المملكة الصغيرة، مكونة من 60 بندا، قضت بتأمين المسلمين في أنفسهم، وأموالهم، واحترام دينهم، وشعائرهم، ومساجدهم، ولغتهم، وجميع حقوقهم، وضمن البابا ذلك كله، ومهر تلك المعاهدة بخاتمة، وذلك بموجب طلب أبي عبد الله الصغير وأعيان غرناطة.

التنصير القسري ومحاكم التفتيش

وأطلق الأسبان على تلك الطائفة المسلمة، التي آثرت البقاء، ولم تهاجر فرارا بدينها كما فعل الكثيرون، منذ هذا التاريخ، اسم "الموريسكيين"، ويعني المسلمين القادمين من المغرب والساكنين في أسبانيا، وذلك لتمييزهم عن بقية الشعب الإسباني النصراني، وتمهيدا لسحقهم، والخلاص منهم. ولم تمض سوى عدة سنوات حتى كشف النصارى الأسبان عن سوء طويتهم، وبدؤوا مسلسل الغدر المبيت، بهؤلاء المسلمين المعاهدَين، الذين صاروا أقلية مهمشة، ومستضعفة، ومغلوبة على أمرها، وليس لها أي تمثيل سياسي. ففي عام 1501، ونتيجة لهوس الحكام ورجال الدين بتوحيد أسبانيا قوميا ودينيا، أصدر الملك الغادر فرناندو، وزوجته الملكة المتعصبة إيزابيلا، مرسوما ملكيا يقضي بضرورة تنصير المسلمين، أو طردهم، فحاول بعض مسلمي غرناطة المقاومة والاحتجاج بمعاهدة التسليم، فسُحق المعارضون بشدة تحت سنابك الخيول، ولم تعد تلك المعاهدة تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، ولم ينفعهم البابا ولا الماما، وجمعت كتب المسلمين، ومصاحفهم، وأحرقت في الساحة العامة، وفُرض التنصير على من تبقي من المسلمين فرضا، وبالحديد والنار، وحولت مساجدهم إلى كنائس، وأجبروا على تغيير أسمائهم العربية إلى أسماء نصرانية، وحظروا عليهم التخاطب والكتابة بالعربية، والتسمية بأسماء عربية، وارتداء ثياب عربية، وحظروا التحجب على نسائهم، وأجبروهن على السفور، وحظروا عليهم حمل السلاح وحيازته، وحظروا عليهم الاغتسال من الجنابة، وحظروا عليهم إقامة الحفلات على الطريقة الإسلامية، وأن تجرى الحفلات طبقا لعرف النصارى، وحظروا عليهم إغلاق المنازل أثناء الاحتفال، وفي أيام الجمع والأعياد، وألزموهم بإبقائها مفتوحة ليستطيع القساوسة، أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر المحرمة (أي الإسلامية) ، ثم سلطوا عليهم محاكم التفتيش الكنسية، بوحشيتها وفظاعتها وقسوتها، فأخضعتهم لرقابتها الدائمة، وأقامت لهم المحارق الجماعية، وملأت منهم سجونها المظلمة والعفنة، وتفننت في أساليب تعذيبهم، وامتهان آدميتهم، وإرهاقهم، جسديا، ومعنويا، وماليا، وذلك لأدنى علاقة تربطهم بالإسلام، أو حتى لمجرد الشبهة، وضاعفت من مأساتهم، وأسبغت عليها صبغتها الأليمة المفجعة.

معركة الحياة والموت

وطوال ثمانين عاما من العذب والقهر والمعاناة، ورغم النكبات التي أوقعتها بهم محاكم التفتيش، ورغم تنصرهم الظاهري، فقد ظل كثير من الموريسكيين، قابضين على دينهم، في السر، كالقابض على الجمر، حتى أتي الملك فيليب الثاني (1555-1598)، فكان عهده بحق كابوسا مرعبا للموريسكيين، فقد أظهر هذا الملك إصرارا منقطع النظير على وضع كل القوانين المجحفة التي صدرت في عهد أسلافه ضد الموريسكيين، موضع التنفيذ، دفعة واحدة، وتم إشعار الموريسكيين بذلك، في أول يناير1567، وهو اليوم الذي سقطت فيه غرناطة، واتخذته أسبانيا عيدا قوميا لها تحتفل به كل عام، فبلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، ولم يعد بمقدورهم تحمل كل هذه الضغوط الرهيبة. لذلك، فقد تداعوا إلى الثورة، وبعد عدة أشهر من الاستعداد، لم تلبث الثورة أن نشبت في غرناطة، في ليلة عيد الميلاد، ديسمبر1568، واضطرمت في أنحاء منطقة البشرات، ووثبت جموع الموريسكيين المسلحة على الحاميات الأسبانية، ففتكوا بها، وصبوا جام غضبهم على القساوسة لكونهم سبب بلائهم ومصائبهم، وما لبث أن عم لهيب الثورة معظم أنحاء الأندلس، واختار الموريسكيون فتى من أهل حي البيازين، في غرناطة، يدعى الدون فرناندو، أميرا لهم، وكان هذا الفتى من أحفاد ملوك بني أمية، واحتفلوا بتتويجه في 29/12/1568، وتسمى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أمية صاحب الأندلس وغرناطة، واستعدوا بجانبه، لخوض معركة الحياة والموت. وتسامع المسلمون وراء العدوة، بهذه الثورة، فهرعت لنصرتهم جموع جريئة، من شمال أفريقيا، ومعها فرقة من المجاهدين الترك، وبعض الأسلحة، وبمقدم هؤلاء تفاقمت الثورة، فجرد الأسبان الحملة تلو الحملة للقضاء عليها، وفتكوا بالنساء، والأطفال، فتكا ذريعا، لإجبار الثوار على إلقاء السلاح. بيد أن حملاتهم الطائشة تلك فشلت في تحقيق أهدافها، وسادت أجواء الذعر في مدريد لهاجس عودة أسبانيا إلى حكم الإسلام مرة أخرى، الذي سيطر عليهم. هذا وأسبانيا يومئذ تسيطر على معظم غرب أوروبا.

القمع الوحشي وسياسة الفرز

وعندئذ أرسلت مدريد أفضل وحدات الجيش الإسباني، بقيادة دون خوان النمساوي، أبن عم الملك، فقام هذا السفاح بدك مدن وقرى الموريسكيين دكا، بقصفها بالمدافع الضخمة، واكتساحها طولا وعرضا، وهدمها فوق رءوس أهلها، وحولها إلى أطلال، ومدن أشباح، واتخذ من النساء والأطفال دروعا بشرية، في مواجهاته مع الثوار. وبرغم ذلك، فقد رأت السلطات الأسبانية، أن الحل العسكري غير ناجع بمفرده، للقضاء على الثورة، فلجأت بجانبه، إلى الدهاء والحيلة، فقسمت المجتمع الموريسكي إلى قسمين: فئة الموريسكيين المحاربين: وهم الذين حملوا السلاح، وقاموا بالثورة، وفئة الموريسكيين المسالمين: وهم الذين لم يحملوا السلاح، ولم يشتركوا في الثورة، ودفعوا بزعماء ممن سموهم "المسالمين"، إلى الذهاب إلى الثوار ليناشدوهم إلقاء السلاح، والتفاهم مع الحكومة، فبعث هؤلاء المسالمون إلى محمد بن أمية، يتهمونه بمجانبة العقل، وتعريض أمته للهلاك!!. وكان تدخل هؤلاء، بهذا الشكل، مقدمة لسوء التفاهم بين هذا الأمير والمتطوعين الترك والمغاربة، لميل الأول للقبول بالتفاهم لإداركه باستحالة الحصول على تقرير المصير، نظرا لاختلال التوازن في موازين القوى، ولرفض أولئك المتطوعين، وكثير من الموريسكيين للتفاهم مع الحكومة، فظل أولئك الزعماء "المسالمون"، يضغطون على محمد بن أمية، ويحذرونه في السر من مغبة الانسياق، وراء أولئك الدخلاء الوافدين، ويحرضونه على طردهم، حتى يتحقق التفاهم مع الحكومة، ويفوز بشروطٍ أفضل، فأخذ سوء التفاهم يتضخم شيئا فشيئا، حتى وصل الأمر إلى تخلص زعماء الثوار من محمد بن أمية، وإقامة ابن عمه مكانه، فتسمى هذا بمولاي عبد الله، وكان أكثر فطنة، فحمل الجميع على احترامه، وألتف حوله جيش مدرب قوامه زهاء عشرة آلاف مقاتل. ولكن ومع حرب الأسبان الشعواء، على الثورة، واستمرارهم في دك مدن وقرى الموريسكيين، فقد ظلوا، في الوقت ذاته، يضغطون على أولئك الزعماء "المسالمين"، لكي يحاولوا استدراج الثوار إلى المفاوضات، ويوظفوهم كأبواق للتشويش على الثوار ولتخذيلهم، وإشاعة اليأس والهزيمة في أنفسهم.

نهاية الثورة والطرد الجماعي

ولما كان جانب الثوار، لا يخلو من الطامحين، وممن هم على استعداد للتضحية بالمبادئ، مقابل تحقيق مصالحهم الشخصية، فقد أسفرت جهود أولئك الزعماء المسالمين عن استمالة أحد كبار قادة الثورة الميدانيين، ويدعى (الحبقي)، مقابل بعض الإغراءات، فأنشق عن الثوار، بمن كان معه، وأعلن الاستسلام للسلطات الأسبانية، بعد مفاوضات سرية مع وفدها، ورغم أن الثوار استدرجوه فقتلوه، إلا أن هذا الحادث كان له تأثير خطير على معنويات الثوار. وفي ظل المصاعب الجسام التي كانت تواجهها الثورة، وافتقادها للدعم الخارجي، وما كان فيه الثوار وذووهم، من متاعب وآلام، ومجاعة، وحياة بائسة في الكهوف والمغارات، فقد استجاب لدعوة أولئك الزعماء" المسالمين" الآلاف تلو الآلاف، فكان الثوار ينقصون ولا يزيدون، حتى صار الثوار أقلية، يحاصرهم الجيش الأسباني في الجبال، وتلاحقهم سراياه أينما ذهبوا، ويتتبع آثارهم جيش من الجواسيس والخونة، وصاروا وجبة دسمة للوشاة والعيون، ممن كانوا بالأمس أعوانهم وأنصارهم. وفي النهاية، انتهت الثورة، وتم التخلص من أبي عبد الله آخر الأمراء الأندلسيين، وكان ذلك بعد حوالي عامين من اندلاعها، وعاد الموريسيكون إلى الحظيرة الأسبانية، ولكنهم ظلوا في نظر الأسبان حكومة وكنيسة وشعبا، أقلية منبوذة ومحتقرة، وليس لها أي حقوق، بل ظلوا تحت الرقابة الدائمة، لما يشكلونه من خطر على أمن الدولة، وعلى نقاء المجتمع الأسباني الدينية والقومية، حسب اعتقاد السلطات الإسبانية، ولذلك قامت هذه السلطات سنة 1609، وبتحريض الكنيسة الكاثوليكية، باقتلاع البقية الباقية منهم، وكانوا مئات الآلاف، وقذفت بهم إلى خارج البلاد، لكي ترتاح منهم إلى الأبد، ولم تكن مأساة طرد هؤلاء الموريسكيين المنكوبين، والتي استمرت ست سنوات، تقل بشاعة وهولا ورعبا، عن ما سبقها من مآسي. وهكذا انتهى أمر الإسلام من أسبانيا تماما، ولم يتبق في البلاد كلها مسجد واحد، ولا مسلم واحد، يوحد الله.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيسٌ ولم يسمــــــــرْ بمكــــــةَ ســــــامــرُ

***

 

 

أعلى