• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أندلس المسلمين: نموذج أمثل للتعايش

أندلس المسلمين: نموذج أمثل للتعايش

 

 إن الفتح الإسلامي للأندلس سنة 92هـ، يعتبر بداية أروع وأكبر وأعمق تطور حضاري يشهده هذا القطر الأوروبي الواسع والعظيم، عبر التاريخ. وقد خطَّ المسلمون الفاتحون، على ظهر هذه الجزيرة، صفحة جديدة مختلفة، عن كل الصفحات، التي خطها الغزاة، على ظهرها، في العهود السابقة، من إيبيريين، وافارقة، ورومان، ووندال، وقوط، وغيرهم. وقد كان ذلك التطور، مرتبطا، بطبيعة الحال، بمزيج من العوامل والبواعث، من ضمنها مبدأ حرية العقيدة، هذا المبدأ القرآني الرائع، والذي كان غالبًا على حكام المسلمين في الأندلس، بعد الفتح، وجسدوه على أرض الواقع، أيما تجسيد. فقد سمح الحكام المسلمون، طوال مدة عزهم ومجدهم، للنصارى، بالاحتفاظ بحريتهم الدينية، وتركوا لهم أغلب كنائسهم وأديرتهم، كما تركوا لهم، حرية الاحتكام إلى شريعتهم وقوانينهم، والاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم، وإقامة علاقاتهم الاجتماعية، بحسب أعرافهم القديمة، بل واحتفظ الذين يملكون منهم، أراضٍ تزرع، بملكية أرضهم، مقابل مقدار معين من الخراج، بحسب طيب الأرض وغلتها؛ وذلك طبقًا لشروط معينة منها: دفع الجزية، والالتزام بأحكام أهل الذمة، وعدم الوقوف في وجه أي نصراني يريد الدخول في الإسلام. ولذلك، فقد اطمأن السكان الأصليون لحكامهم الجدد، وانكسر حاجز الخوف من نفوسهم، منذ وقتٍ مبكرِ، وتحديدا منذ ولاية عبد العزيز بن موسى بن نصير (95-97هـ) أول ولاة الأندلس، بعد رحيل الفاتحين الكبيرين موسى بن نصير وطارق بن زياد، إلى دمشق. وقد سار العديد من الولاة، الذين جاءوا بعد عبد العزيز، على نفس سياسته المتسامحة، إزاء النصارى، وكان هذا أيضًا هو نهج ملوك بني أمية في الأندلس (138-399هـ)، بشكل عام.

والمهم، أنه بسبب هذه السياسة، التي انتهجها الحكام المسلمون في الأندلس، ولاةً، وأمراء وخلفاء، والقائمة على القبول بالآخر، والتعايش معه، وتمتيعه بحقوقه التي منحه الإسلام إياها، إلى جانب محاسن الإسلام نفسه، سنجد أن أكثرية سكان الأندلس، من النصارى والوثنيين، قد أقبلوا منذ سنوات الفتح الأولى، ودون أن تحكمهم عقد الخوف، على تقبل عقيدة الإسلام، والتحول إليها. فانتشار الإسلام، كما يقول المفكر الفرنسي المسلم، روجيه جارودي في كتابه (الإسلام في الغرب)، في القرن الأول الهجري، كان خاطف السرعة وسلميا على وجه العموم، في كل مكان كانت فيه العقيدة السائدة، إما يهودية وإما مسيحية "مهرطقة"، كما يُدعى، حينئذ، المسيحيون، الذين اختاروا رفض معتقد نيقية بالـ"هرطقة"، ولم تكن حالة أسبانيا استثنائية. 
وقد حدث ذلك التحول إلى الإسلام، عن قناعةٍ، وإيمانِ، ودون أي ضغط، أو إكراه، تطبيقًا لقوله عز وجل: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وقد جاء ذلك الإقبال على الإسلام، بعد أن أدركوا محاسن الإسلام، وعظمته، وفطرته، وبعد أن شاهدوا بأم أعينهم سماحة الفاتحين المسلمين، وسمو أخلاقهم، وتحطيمهم للنظام الطبقي، غير العادل، الذي فرضه القوط الغربيون عليهم، ونشرهم لمبدأ المساواة بين الناس، وعدم التمييز بين مسلم، وآخر، إلا بالتقوى، وبعد أن تنسموا على أيديهم نسيم الحرية، التي اكتملت بها إنسانيتهم، وأبدعت في ظلالها عقولهم، وجادت أنفسهم بالخير، والبذل، والعطاء. وقد كان ذلك التحول المدهش إلى الإسلام، من قبل السكان الأصليين في الأندلس، بداية التخالط السكاني، والتمازج الثقافي، اللذين لم يعرف لهما التاريخ مثيلا، من قبل. ولم يبقَ على عقيدته، سوى قلةٍ من الكاثوليك، وذلك إلى جانب قلةٍ من اليهود، ولكن حتى هؤلاء، وأولئك، لم يلبثوا أن استعربوا ثقافة، ولسانًا، وأسلوب حياة، واختلطت أنسابهم بأنساب العرب، وذلك بعد حقبة من الزمن لا تتعدى القرنين، ولذلك صار يطلق عليهم، فيما بعد، اسم "المستعربين".
 
 أما اليهود، فقد عاشوا عصرهم الذهبي في الأندلس، في ظل الحكم الإسلامي، بعد أن عانوا ما عانوا من الاضطهاد والتنكيل والقهر، في ظل حكم الرومان ثم حكم القوط.
 
ولذلك، ولما كان النصارى بعد الفتح، يشكلون أقليات كبيرة ضمن المجتمع الإسلامي، في القواعد الأندلسية الكبرى، مثل قرطبة، وإشبيلية، وطليطلة، وسرقسطة، وبلنسية، فقد أنشأت الحكومة الأندلسية، منذ الفتح منصب «القومس»(comes) ليكون هذا القومس، مرجعهم الرئيس، في شؤونهم الروحية، وللإشراف على النظام والسكينة، ولجمع ما هو مقرر عليهم من جزية وخراج، وكانت الحكومة الإسلامية، تترك لهم في معظم الأحوال المجال لاختيار هؤلاء القوامس. وكان القومس يمارس سلطات مأمور الشرطة على طائفته، وكان يناط به جباية الضرائب، ويعاونه قاضٍ خاص اسمي «قاضي العجم»، أو الرقيب عليهم، وكان يفض المنازعات التي تنشب بين النصارى. وكان القومس، في كل مدينة من المدن، من الشخصيات ذات النفوذ، ومن أهل الحنكة والدهاء والمداراة والمعرفة بالجباية، وكان له في معظم الأحيان مكانة خاصة لدى الأمير أو الخليفة في قرطبة، إذ كان مستشاره في كل ما يتعلق بشؤون النصارى وأحوالهم، كما فعل أرطباس بن غيطشة، عندما أشار على أبي الخطار الحسام بن ضرار الكلبي، أمير الأندلس، بتفريق الشاميين الذين دخلوا الأندلس سنة 123هـ، عن دار الإمارة قرطبة، وإنزالهم في الكور
 
ونتيجة لهذا السياسة، فقد سعد الجميع، وتحسنت أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، وأبدعوا في مختلف مناحي الحياة، وساد الاستقرار والأمن والرفاه، ربوع البلاد كلها، وكثرت فيها الدساكر والقرى، كما كثر سكان المدن الكبرى، وبلغت هذه المدن أقصى توسعها وتطورها وخصوصا قرطبة عاصمة الأندلس وقلبه النابض، والتي اعتبرت درة مدن أوروبا في العصور الوسطى. 

والأمثلة التي تدل على أن ولاة الأندلس، وملوك بني أمية، قد أحسنوا إلى النصارى، ومتعوهم بحقوقهم، ولم يسيئوا إليهم، كثيرة معلومة، وقد تحدثت عنها، وعن مظاهر التطور الحضاري الكبير والرائع، الذي عرفته الأندلس في ظل الحكم الإسلامي لها، كتب التاريخ باستفاضة، وأشاد بكل ذلك أيضا، المؤرخون الأوربيون، أنفسهم.

 ولم تبدأ الاحتكاكات بين المسلمين والنصارى في الأندلس، إلا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وذلك بسبب انبعاث الحركة الصليبية المتعصبة، من وسط فرنسا. فقد أخذ النفوذ الفرنسي، بشتى صوره وأشكاله السياسية، والثقافية، والدينية، منذ ذلك الحين، يتغلغل في شمال أسبانيا، باعثا فيها روحا صليبية جديدة، ضد المسلمين.. على أيدي أسقف طليطلة ..
 وبعض القساوسة، والرهبان الفرنسيين، أتباع دير كلوني Cluny، الشهير في وسط فرنسا، والذين استقروا في طليطلة بعد سقوطها في أيدي القشتاليين، سنة (478هـ/ 1085م). وكان ذلك ضربة قاصمة للتعايش بين المسلمين والنصارى، والذي استمر لعدة قرون، وتدشينا لمرحلة طويلة من الحروب المدمرة بينهم، في المشرق والمغرب، والتي انتهت في الأندلس باستئصال شجرة الإسلام منها، وكل ما يرمز له وللعرب بصلة.
ومع كل ذلك، فإن الحقيقة تبقى، وهي أن التعايش بين الملل والأديان والمذاهب، في القطر الواحد، أو البلد الواحد، أمر ممكن، في ظل سيادة النظام الإسلامي، شريطة انتفاء التدخلات الخارجية، في شئون أصحاب تلك الأديان والمذاهب، فالأصابع الخارجية، هي التي أثارت ولا تزال، الطوائف الدينية والعرقية ضد المسلمين، في كل بلد إسلامي فيه أقليات، وهذا ما يقوم به الصهاينة، في الوقت الحاضر، في بلدان المشرق الإسلامي، وخصوصا الشام، وذلك لتحويلها من بلد إسلامي فيه أقليات، إلى بلد أقليات، حتى يبرروا وجود دولتهم اللقيطة في هذا المحيط

أعلى