اليسار الراديكالي ينتحر
أري شبيط/ "هآرتس"
كان من الممتع ذات مرة، الشجار مع اليسار. عندما كان اليسار قوياً وجِدياً، كان من الصواب طرح أسئلة قوَّضت بعض الأمثلة التي قدسها. عندما سيطر اليسار على الحكومة، وسائل الإعلام، القضاء، الأكاديمية والجيش، كان من المهم طرح الحقائق التي تهرَّب منها على بابه، والأدلة التي تنكر لها. ولكن الآن عندما أصبح اليسار صغيراً جداً، أصبح مثيراً للشفقة. حين أصبح اليسار ملاحَقاً ومطارداً، لا فائدة من ذر الملح على جراحه.
رجال اليسار هم إخوتي وأخواتي، أنا أشاركهم القيم وأتألم لسقوطهم. ولذلك حتى عندما يوجِّهون إلي اتهامات حمقاء، أميل إلى تجاوزها، والعض على الشفتين والمضي قدماً. ولكن أحياناً، لا مفر، وتجب العودة لشرح ما الذي تشوش، متى وكيف انتحر اليسار؟
لقد انتحر اليسار الراديكالي عندما انقطع عن الواقع. رَفْضُه الاعتراف بفشل اتفاقيات أوسلو ومؤتمر كامب ديفيد وعملية أنابوليس، جعله يُعتبَر غيرَ موثوق في "إسرائيل". رفضه الاعتراف بأن الانسحاب (المبرر) من قطاع غزة جلب الصواريخ إلى أشكلون وأشدود وتل أبيب، جعله يعتبَر مهووساً في "إسرائيل". رفضه مجابهة حقيقة أن الشرق الأوسط متوحش وأن الجسم السياسي الفلسطيني لا يعمل، جعل اليسار يعتبَر في "إسرائيل" محلقاً. الانقطاع عن الواقع يجعل غالبية "الإسرائيليين" لا يصغون إلى الأمور الصحيحة التي يقولها اليسار عن الاحتلال والاستيطان والتهديد التي يتربص بالديمقراطية "الإسرائيلية".
غالبية "الإسرائيليين" يفاخرون بدولتهم. صحيح أن الأوضاع صعبة هنا وباهظة التكلفة ومكتظة ويوجد صراع، إلا أنه، على الرغم من ذلك، قامت هنا أمة يحبها "الإسرائيليون". ولذلك عندما يقول لهم اليسار بأنهم قبيحون ومنفِّرون وكريهو الرائحة – فإنهم لا يتحمسون لهذه الرسالة، وعندما يقول بأن كل شيء سيء هنا – لا يشتري "الإسرائيليون" هذه البضاعة. إنهم يغضبون على العابسين الذين لا يسمحون لا لأنفسهم ولا للآخرين بالاحتفال بإسرائيل إنجازاتها.
لقد انتحر اليسار الراديكالي عندما ألغى نفسه أمام الفلسطينيين. صحيح أنه لا يوجد تناسق بين الشعب المحتل والشعب الخاضع للاحتلال، أن "إسرائيل" تتحمل المسؤولية الأساسية عن الاحتلال. ولكن ماذا بالنسبة للقيادة الفلسطينية؟ كان من الممكن في عام 1937 وأيضاً في عام 1947 إقامةُ دولة فلسطينية ومنع النكبة، لكن الفلسطينيين قالوا: "لا". وفي عام 2000، وعام 2008 أيضاً، كان يمكن إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال. لكن الفلسطينيين قالوا: "لا". لقد اختاروا مرة تلو أخرى تخليد الاحتلال.
هل هاجمهم اليسار الراديكالي بمثل الغضب الذي هاجموا من خلاله حكومات "إسرائيل"؟ هل ذهب إلى رام الله وخبط على الطاولة وقال لمحمود عباس أموراً تشبه ما يكتبه عن نتنياهو؟ لا. عدم القدرة على النظر إلى جيراننا على مستوى العينين جعل "الإسرائيليين" والفلسطينيين لا يتعاملون مع اليسار الراديكالي بجدية واحترام.
الانفصال عن الواقع والضعف أمام الفلسطينيين يجعل اليسار الراديكالي يهاجم الآن حتى مصطلح الدولة اليهودية الديمقراطية.
باراك أوباما وهيلاري كلينتون، أيضاً، يفهمان أنه لا يمكن تقديس الدولة القومية للشعب الفلسطيني وإهانة الدولة القومية للشعب اليهودي. لكن رجال اليسار الراديكالي ليسوا كذلك. بالنسبة لهم، بدأ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني مع الاحتلال ويتوقف عليه فقط. بالنسبة لهم مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بوجود شعب يهودي هنا يعتبر سادية. وحسب طريقتهم فإن الحقوق القومية المعلنة في البلاد يملكها غير اليهود فقط.
بمثل هذا التوجه الأحادي الجانب، المتجذر في التاريخ والمنقطع جداً عن الواقع لا يمكن تحقيق التغيير السياسي في "إسرائيل". كما لا يمكن إنهاء الاحتلال أو تجربة السلام. اليسار الراديكالي بعد الانتحار، يساعد اليمين الآن على قتلنا جميعاً.