من المؤلم أن ترى مصاباً في حرب ولم تستطع حمايته من كيد الرصاص المتطاير في كل
الاتجاهات، لترى أنه يموت ببطء، ويحمل بين أضلعه شرف النصر كآخر أمنية له ولوطنه،
كذلك بلدي الجزائر الذي حمل مليون ونصف المليون شهيد، الذين ترحم عليهم الدكتور
رابح بلعيد، في قوله: "رحمة الله على الشهداء الأوائل" لأنه كان يعلم بأن هناك
شهداء حاربوا بكل ما يملكون لتحرير الجزائر من قبضة المستعمر، ورحمة الله على الشيخ
"أبي القاسم سعد الله"، المؤرخ الذي لم تدنس شرفه السياسة رغم الإغراءات التي تم
عرضه عليها، من مناصب وزارية، إلا أن كرامته وشرفه لم يسمحا له بذلك، لأنه كان
دائماً يحب أن يشعر بأنه مواطن لم يُجرد من وطنيته كعامة الشعب، ومات هؤلاء
المحاربون في المعركة ولم يستطيعوا إنقاذ الجزائر، وفي هذا الموضوع سنحاول تكملة
مسيرة هؤلاء الأبرار، لمحاولة تنظيف أرضنا وتطهيرها من فضلات السياسة القذرة.
لنعود مجدداً ونكرر ما قلناه سابقاً بصيغة جديدة تقتفي أثر الواقع، ودون غموض هذه
المرة، من صميم السياسة والإعلام وألاعيبهما، ومن داخل القطر الجزائري، تتناقل لنا
الأخبار عن عودة وزير الطاقة والمناجم " شكيب خليل" الذي سرق من الجزائر أموالاً
تقدر قيمتها بـ "3100" مليار، وتم إصدار قرار/ مذكرة حكم بالقبض عليه.
انطلاقا من هذه النقطة نبدأ، ونستقي من مقال لي نشرته سابقاً بعنوان " كيف تقضي
القوى المضادة على الأفكار الثورية؟"، وأنقل بالحرف ما قلته: "البحث عن الأسباب
التي تقضي عن الأفكار لا تعد ولا تحصى، ولكن مقصدنا هنا هو كيفية القضاء على الفكرة
الثورية وحجبها، أو تغييرها عن مسارها، وذلك عن طريق وسائل ملائمة"؛ فما هي تلك
الوسائل؟ وكيف يتم تحريف الفكرة؟
تعتبر استراتيجية الألعاب الإسبانية خير دليل نظري على توضيح مقصدنا؛ حيث يتم
التلويح بقطعة قماش حمراء أمام ثور هائج في حلبة الصراع، فيزداد هيجانه بذلك،
وبدلاً من أن يهجم على المصارع يستمر في الهجوم على المنديل الأحمر الذي يلوح به
حتى تنهك قواه.
ولم نستغرق شهراً فقط حتى أتت الأدلة والبراهين التي تثبت صحة هذه الإستراتيجية
المنتهَجَة، ولعل من يتابع الأخبار الجزائرية سيلحظ بعض الانتقادات من قيادات أحزاب
سياسية للترحيب بمن "يشتهر بالفساد" في وطن نزيه. وما يزيد الأمر حيرة، هو ما نقلته
الأخبار اليوم (19/03/2016) أن قضية السرقة لم تكن من طرف "شكيب خليل" بل هي من طرف
"الفريق الجنرال توفيق"، والأغرب لمدة 20 سنة! لتتبادر إلى ذهني عدة أسئلة: أين كان
هذا الخبر متخفٍ طيلة هذه المدة؟ ومن يدلي بشهادته للإعلام ضد زميل عمل؟ فإذا كانت
السرقة من طرف الجنرال توفيق أو من طرف شكيب خليل؛ فلماذا لم تفصل التحقيقات في هذه
القضية إلى الآن؟ بأي حق يغادر "شكيب خليل" الجزائر وقد تم إصدار مذكرة إلقاء القبض
عليه؟ ولماذا يغادر الجزائر إذا كانت التهمة ملفقة؟ وبأي حق يدخلها بهذه العزة
والكرامة بعد التحقق من الأدلة الكافية لاتهامه؟ لماذا لا يحاسَب؟ ومَن وراء هذه
العملية؟
كل ذلك وأكثر من الأسئلة، لولا أن مقصودنا بعيداً عن هذه الثرثرة، ففي البداية
رأينا تصريحاً من "عمار سعداني" الذي يقول: "شكيب خليل رجل نزيه"، ومن هو سعداني
حتى يلقي بظلال النزاهة على مثل هؤلاء الشخصيات؟
هي في العموم سلسلة ولو استزدنا لتوقفت الشرطة ببابي اليوم، ولكن الحقيقة هي بابي
الواسع للحديث، لهذا نجدد ما لدينا بصيغة أخرى، من أجل إحصاء كلامنا مكتوباً من أجل
تبرئة أنفسنا أمام الله.
إذاً قضيتنا الأساسية هنا "شكيب خليل"، ولكن سرعان ما اختفت الكلمات من فم الإعلام
ليتم تلفيق هذه التهمة للـ "الجنرال توفيق"، الذي أقاله الرئيس، وقد تم هنا تحريف
مقصد انشغال المثقفين بهذه القضية، من... إلى! ويتخطى وزير الطاقة والمناجم كلَّ
المذكرات التي أصدرت في حقه للقبض عليه، تحت سيناريو لا يفقهه أصحاب القلم
المزيفون، فأصبحت الجرائد اليوم بدلاً من انتقاد مثل هذه الأفعال المشينة في حق
الشعب، نجدهم يمجدون أربابهم بالتكريم، وينسبون وسام النزاهة لهم؛ فما أروع هؤلاء
المثقفين! هم ليسوا ببعيدين عن أتباع كلا الطرفين: التابع والمعارض.
لهذا تم امتصاص كل الغضب الكامن في يوم أمس على الساحة النقاشية، وتغيير لُبّ
الموضوع، من قضية اختلاس أموال الشعب إلى قضية أخرى مختلفة تماماً لا تسمن ولا تغني
من جوع، تتمثل في تنزيه شخصية "شكيب خليل" لتعود كرامته التي أُستُلبت من قبل بعض
المتمردين، ويتحقق سيناريو الجميع، النظام والمعارضة، بعد استحمار الشعوب!
لم تبقَ أمال نعلقها على رقبة أحدهم، ولم يبقَ بصيص نور ننتظر منه أن يضيء بقية
الطريق ويطرد ظلمة هذه الظاهرة التي تفشت عقب موت الرئيس السابق "هواري بومدين"؛
فالدخول في عالم السياسة هو قبلة الحالمين بسرقة أموال الشعب، ووصيتي لا تؤمنوا بأي
منهم، ولا تصدقوا ما يقوله الإعلام، لأنه ببساطة هو خادم النظام، وطبع العبد أن
يشتاق لعبوديته حتى ولو تم تحريره.
متى يستيقظ الشعب ليفهم كل هذه الألاعيب المنتهَجة بوسائل خبيثة تقضي على وعيهم
وتحرف مسار القضايا الأساسية التي يجب عليه الانطلاق منها؟ وحسب اعتقادي أن الجزائر
تحتاج لإعادة الصياغة من جديد، والبحث عن المسؤولية الغائبة وهي من يحاسب كل مسؤول
عن فعله، ويقاضى كل ذي عمل أجره، فإن كان صلاحاً، تم تكريمه، وإن كان فساداً تم
القبض عليه، وإنهاء مهامه. هكذا نبني جزائرنا، لا أن نكرِّم أصحاب الفساد، وننتهك
شخصية المصلحين، ولا بد لمن يفهم هذا أن يبدأ بالعمل؛ فالعواصف تقترب ببطء دون أن
ندركها، ولو أدركتنا فسيكون مصيرنا كمصير السفينة التي لها طابقين، كلما تم خرق
الجزء الأسفل أدت بهلاك الجميع.