إن كان هناك ثمة من يبحث عن دليل عن عمق إسهام التدخل الروسي في خدمة الأمن
الصهيوني، فما عليه إلا أن يرصد مظاهر الفزع التي ألمت بتل أبيب في أعقاب قرار
الرئيس الروسي فلادمير بوتين بالانسحاب من سوريا.
فعلى عجل، أرسل الكيان الصهيوني رئيسه روفي ريفلين إلى موسكو للقاء بوتين والتباحث
معه حول القرار وتبعاته، إلى جانب تقديم استفسارات تتعلق بصورة الحل المستقبلي في
سوريا والطلب من بوتين مراعاة المصالح الصهيونية في أي هذا الحل، بحيث يراعي
متطلبات الأمن " القومي " الصهيوني.
وقد كانت تل أبيب واضحة عندما أعلنت أنها تطالب موسكو بأن يتم وضع التدابير التي
تضمن عدم استفادة كل من الحركات الجهادية السنية من جهة وإيران وحزب الله من جهة
أخرى من الفراغ الذي ستتركه موسكو.
وليس هذا فحسب، بل أن الصهاينة يطالبون بوتين بأن تراعي خطة تقسيم سوريا التي تتشبث
بها موسكو على أساس فيدرالي خارطة المصالح الصهيونية.
وعلى الرغم من أن الصهاينة لم يقدموا بشكل رسمي تفاصيل كثيرة حول خارطة التقسيم
التي يفضلونها، إلا أن النخب ووسائل الإعلام في تل أبيب قد قدمت العديد من الخرائط،
التي تراهن على دور موسكو في تمريرها.
ومما لا شك فيه أن أكثر خارطة تفضلها تل أبيب، هي تلك التي رسمها كل من وزير
الداخلية السابق الليكودي جدعون ساعر والباحث الإستراتيجي جابي سيبوني وعرضاها في
بحث نشره مؤخراً " مركز أبحاث الأمن القومي " الصهيوني.
وحسب خارطة ساعر سيبوني، فأنه يتوجب تقسيم سوريا إلى أربع دويلات: كردية في شمال
شرق سوريا، علوية في الساحل الغربي، درزية في الجولان، وسنية في الوسط.
وحسب ساعر، فأنه لا يوجد ما يدعو الروس للاعتراض على هذه الخارطة، على اعتبار أنها
تخدم مصالحهم، حيث أنهم معنيون مثل الكيان الصهيوني في وجود دويلة كردية، على
اعتبار أن الأكراد يرتبطون بتحالف مع كل من تل أبيب وموسكو.
وينوه ساعر إلى أن الروس يؤيدن الدويلة العلوية لأنها تضمن الحفاظ على مصالحهم
العسكرية، سيما القاعدة البحرية في طرطوس والمطار في اللاذقية، في حين أن الصهاينة
يبدون حماساً منقطع النظير لفكرة الدويلة الدرزية على حدودهم الشرقية، عل اعتبار أن
هناك تحالف بين دروز فلسطين والصهاينة يتواصل منذ قبل العام 1948، حيث يرى الصهاينة
أنه بالإمكان بناء شراكة وتحالف مع دروز سوريا.
من ناحيته قال المعلق الصهيوني تسفي بارئيل، إن روسيا أقدمت على الانسحاب من سوريا
بعد أن اعتقدت أنها وفرت البيئة التي تساعد تقسيم سوريا.
وأضاف بارئيل ان بوتين يريد أن يظهر الآن كـ " الرجل الطيب " بعد أن جعل من نفسه
عدواً للشعوب العربية، مستدركاً أن تمكن روسيا من تقسيم سوريا يتوقف على سلوك قوى
المعارضة السورية السنية.
وشبه بارئيل القرار الروسي بالانسحاب من سوريا بالقرار الأمريكي بالانسحاب من
العراق 2011 ومن أفغانستان 2014، مشيراً إلى أن حديث بوتين عن تحقيق روسيا أهدافها
في سوريا مبالغ فيه ولا يعبر عن الواقع، على اعتبار أن معظم الغارات الروسية
استهدفت تحديداً المعارضة السورية المعتدلة.
وقد تلقت تل أبيب تطمينات روسية سريعة من أن روسيا ستواصل مراعاة المصالح الصهيونية
في سوريا حتى بعد انسحابها من هناك.
وقد أوعزت وزار الخارجية الروسي لنائب السفير الروسي في تل أبيب إليكسي دوفنيك بأن
يجري عدداً كبيراً من المقابلات الصحافية مع وسائل الإعلام الصهيونية لطمأنة
القيادات والرأي العام في تل أبيب.
وقد أكد دوفنيك أن الاتحاد الروسي سيراعي المصالح الصهيونية في أي تحرك يقدم عليه
سواء في المنطقة أو في جميع أرجاء العالم، مشدداً على أن موسكو لا ترى بحال من
الأحوال في إيران وحزب الله حلفاء، في حين أنها ترى في الكيان الصهيون " شريكاً
مهماً لها في المنطقة والعالم ".
من ناحيته اعتبر الباحث الصهيوني إيلي زسر الإعلان الروسي عن الانسحاب م سوريا
إقراراً بالفشل في مواجهة قوى المعارضة السورية المسلحة.
وأضاف زسر في تحليل نشرته صحيفة " يسرائيل هيوم " أنه على الرغم من الضربات الهائلة
التي وجهتها لها روسيا فأن قوى المعارضة السورية " السنية " أبعد ما تكون عن الخنوع
والاستسلام.
وأضاف زسر أن بوتين خشي أن تتحول سوريا بالنسبة له أفغانستان ثانية وأنه لا يمكن أن
يتم حل كل المشاكل باستخدام السلاح القوة، حتى عندما يدور الحديث عن مستبد مثله.
وهناك في تل أبيب من حذر من أنه على الرغم من التطمينات الروسية، فأنه في حال تم
الانسحاب الروسي من سوريا، فأن مصالح الكيان الصهيوني ستتعرض لضرر كبير.
وحسب دان حالوتس، القائد الأسبق لجيش الاحتلال إن الانسحاب الروسي من سوريا يمثل "
أخباراً سيئة لإسرائيل" على اعتبار أنه يفاقم من خطورة التحولات الإقليمية، منوهاً
أن الروس كاوا بمثابة منطقة " عازلة " قلصت من حدوث احتكاكات ضارة مع أطراف "معادية
".
وشدد حالوتس على أن أهم خدم قدمتها روسيا للكيان الصهيوني من خلال تدخلها في سوريا
هو اسهامها في اضعاف قوى المعارضة السورية ذات التوجه الإسلامي، مشدداً على أن هذه
القوى تمثل خطراً كبيراً على تل أبيب حتى لو كان يطلق عليه " معتدلة ".
وحذر حالوتس من أن يفضي الانسحاب الروسي إلى تحسين مكانة المعارضة السنية في معادلة
الصراع المتواصل حالياً في سوريا، مما يعزز من فرص سيطرتها على سوريا مستقبلاً.
وأضاف حالوتس أن استتباب الأمور لقوى المعارضة السورية تطوراً أكثر خطورة من سيطرة
حزب الله وإيران.
وأشار حالوتس إلى أن التدخل الروسي منح الكيان الصهيوني هامش مناورة كبيرة للعمل
داخل سوريا من خلال آلية تنسيق التي تم التوافق عليها بين بوتين ونتنياهو.