الصوفية المتسولة في السنغال
حينما يجتمع مشايخ الصوفية مع الشيعة، ترى كيف سيكون حال أطفال المسلمين في السنغال؟
يبدو أن أموال الأطفال المتسولين قد نجحت في تخفيف التوتر بين مشايخ الصوفية والشيعة في السنغال، فكلاهما بات في حاجة إلى الآخر لجني مزيدٍ من أموال التسول، أو - على الأقل - انشغال كلٍّ من الفريقين في مصالحه الخاصة بعيداً عن الدين، فإذ اجتمعت المصالح المادية لم يعد هناك داعٍ للخلافات المذهبية لأن هناك ما هو أهم بكثير؛ فلغة "البزنس" هي العليا أما خلافات المذاهب فبالإمكان الفكاك منها طالما توفر المال.
من المعروف أن نسبة المسلمين في المجتمع السنغالي تصل إلى حوالي 95%، لكن غالبية المسلمين هناك من أصحاب الاتجاهات الصوفية، الذين فضلوا التعايش السلمي مع الشيعة الإثني عشرية، وهو أمر غير معتاد بين أهل السُنة من جهة والشيعة من جهة أخرى، وخاصة أن الخلاف العقائدي من شأنه أن يكون كفيلاً بديمومة الصراع المذهبي.
لكن تسليط الضوء على مشايخ الصوفية الذين حولوا مدارس تعليم القرآن إلى إمبراطوريات يرثون فيها المشيخة عن آبائهم حتى لو كانوا غير مؤهلين لذلك، يكشف عن حجم المأساة التي تضرب أطفال المسلمين في المجتمع السنغالي، فانشغال هؤلاء المشايخ أو المدرسين بالكسب من التسول، من الطبيعي أن يؤسس لأي مصالحة مع الشيعة طالما نُحيت العقيدة والدين جانباً وأضحى تحويل أطفال المسلمين إلى متسولين أشبه بالعبيد يخرجون كلَّ صباح لينتشروا في شوارع العاصمة السنغالية "دكار" وكافة المدن الأخرى من أجل التسول لتدبير مبلغ "ثلاثة دولارت" ليعودوا بها إلى مدارسهم ليؤكدوا وفاءهم وولاءهم لمدرِسهم ودينهم، على الأقل هذا ما يتم تنشئتهم عليه.
لا يتسول أطفال "تاليبي" - كما يطلق عليهم باللهجة المحلية - من أجل العيش ولا من أجل جمع القليل من المال لعائلاتهم الفقيرة، لأنهم بكل بساطة ليس من حقهم لمس ما يحصلون عليه من نقود؛ فغلتهم اليومية تذهب إلى الشيخ أو المدرس الذي ينتظرهم في المدرسة ليعلمهم القرآن مقابل ما جمعوه من مال، والأهم من ذلك أن هؤلاء الأطفال الذين هم في عمر الزهور تتراوح أعمارهم بين 4 إلى 14 عاماً، يتسولون بمعرفة وموافقة أهليهم الذين يتفاخرون بهم معتقدين أن أبناءهم يتعلمون التواضع في سن مبكرة وهم يحفظون القرآن!
قد يتصور البعض أن الأمر فيه نوع من التجني أو المبالغة، لكن الدراسات التي أجريت على هؤلاء الأطفال المتسولين، والإحصاءات الرسمية السنغالية أكدت على أن أعدادهم قد تجاوزت الـ 100 ألف طفل - وإن كان هناك تضارب في الأرقام - يُخصص لهم القليل من الوقت لحفظ القرآن، وأغلب ساعات اليوم يتم تخصيصها للتسول ليوفروا لمشايخهم نحو ملياري فرنك إفريقي شهرياً حسب دراسة أجرتها منظمة "إندا تير موند" التي نددت بما يحدث بحق هؤلاء الأطفال الذين تُمارَس بحقهم كلُّ أشكال العبودية.
بالعودة إلى تاريخ تعليم مشايخ الصوفية القرآن لأطفال المسلمين، يمكننا تدوين ملاحظة هامة أكدها عدد من المتخصصين في الشأن الإفريقي؛ حيث كان الأمر أشبه بالتكافل الاجتماعي أو الواجب الأخلاقي؛ لأن المجتمع كان متكفلاً بتعليم طالب العلم الذي يتعلم القرآنَ والتواضعَ في الوقت نفسه، كما أن الشيخ كان يتكفَّل بالأطفال ويجعل الكُتّاب منزلاً لهم، ولا يتقاضى أي أجر على تدريسهم، وما يجمعونه من مال كان يُصرَف على شراء وجبات الطعام التي تقدَّم لهم، لكن التسول تحول في ما بعد إلى غاية؛ لأن مدارسهم وكتاتيب تعليم القرآن تحولت إلى مراكز لنشر المتسولين، كما أن القائمين على هذه المدارس تحول الكثير منهم إلى مجرمين يضربون الأطفال وينكلون بهم إذا ما فشلوا في جمع المبلغ المطلوب أثناء تسولهم.
في خضم استغلال هذه المدارس لأكبر عدد من أطفال المسلمين في السنغال وما ترتب عليه من تدمير اجتماعي، حاولت الحكومة السنغالية مواجهةَ الأمر عام 2012م بعدما تحول الأمر إلى ظاهرة شاعت في مجتمع أثقل الفقر كاهل معيليه، ولم تستطع امتلاك القدرة على إعالة هؤلاء الأطفال، فأعلنت عن تحريم تسول الأطفال، وذلك بعد الحادث المأساوي الذي راح ضحيته 7 أطفال من المتسولين بعد اندلاع حريق في ملجأ للأطفال المشردين، وأعلن رئيس الوزراء السنغالي آنذاك عبدول إمباي أن حكومته ستسعى لإعادة الأطفال المتسولين إلى أُسرهِم، وتوفير الملاجئ للأطفال الذين لا يمكن العثور على والديهم أو الأطفال الذين يعجز آباؤهم عن توفير الطعام لهم.
وبالرغم من عزم الحكومة السنغالية على الحد من ظاهرة التسول عبر إصدار قانون في هذا الشأن، إلا أن مساعيها اصطدمت برفض المشيَخات الدينية التي وقفت ضد هذا المسعى الحكومي، وهو ما اضطر السلطات السنغالية لسحب القرار بعد أقل من سنتين على بدء تنفيذه.
لكن عجز الحكومة السنغالية عن تطبيق قرار تحريم تسول الأطفال دفعها عام 2014م إلى الإعلان عن مشروع طَموح يهدف إلى تحسين صورة البلاد عبر تشييد مدارسَ قرآنية "عصرية"، لتعويض نظيرتها التقليدية، والتي ينحدر منها المتسولون الصغار، ووَفقاً لبيانات رسمية فإن مشروع المدارس الجديدة سيتم إنجازه عام 2018م من خلال إنشاء 64 مدرسة قرآنية منتشرة في كافة المدن السنغالية، وقد رحب بعض المستثمرين السنغاليين بهذا المشروع الذي تصل تكلفته إلى حوالي 20 مليون دولار.
الجدير بالذكر أن مشروع المدارس الجديد لن يكون بديلاً عن المدارس القديمة؛ بل سيقوم بتحديثها وبناء مدارسَ جديدة أخرى، مع العمل على منع الأطفال من التسول وتوفير الوجبات والعلاج لهم، من أجل الحد من ظاهرة التسول ومنع المدرسين من استغلالهم، وهو ما أكدت عليه "فيليسيتي طومسون" الباحثة في "منظمة هيومان رايتس ووتش" التي سجلت ثلاثة تجاوزات فقط لثلاثة مدرسين في مدارس تعليم القرآن خلال عام 2014م.
على أي حال تبقى الإشارة إلى أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على السنغال وحدَها لأنها موجوده بشكل أو بآخر في معظم الدول الإفريقية، والمؤسف أن كلاً من المدرس والأهل يشتركون في الجريمة؛ لأن الأسر لا تقدم أي مبالغ وإن كانت رمزية مقابل تعليم أبنائها، وهو ما يستغله المدرس ويقوم بتشغيل تلاميذه في المزارع والتسول من أجل جمع المال، فتتحول المسألة إلى تجارة رابحة بالنسبة للمدرِّس، بينما يتعرض الطفل لكل أشكال العُنف، والكثير من هؤلاء الأطفال يتحولون إلى مشاريع مجرمين.