• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تونس .. جمهورية من القرن الماضي

تونس .. جمهورية من القرن الماضي

أنهى التونسيون جولة التصويت الأولى في أول انتخابات رئاسية مباشرة في البلاد، بعد انتفاضة عام 2010 على حكم النظام الاستبدادي لـ«بن علي»، ليستعد الشعب التونسي مجدداً للجولة الثانية من مرحلة التصويت وهي الجولة الحاسمة والنهائية لاختيار الرئيس القادم للبلاد في ظل عدم حسم مسألة الرئاسة في جولتها الأولى، ولم يحسم أي من مرشحي الانتخابات الرئاسية الأمور لصالحه في الدورة الأولى بعد أن أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج النهائية، والتي جاء فيها الباجي قائد السبسي أولاً برصيد 39 في المئة من إجمالي الأصوات، ومحمد المنصف المرزوقي ثانياً بـ33 في المئة من إجمالي الأصوات، في حين حل ممثل اليسار التونسي حمة الهمامي ثالثاً بـ7 في المئة، والهاشمي الحامدي وسليم الرياحي رابعاً وخامساً كل منهما بـ5 في المئة من العدد الكلي لأصوات الناخبين. 

وكما كان متوقعاً ومنتظراً أن يتطلب صراع الرئاسة جولة ثانية بين قائد سفينة النظام السابق الباجي قائد السبسي الذي تصدر الدورة الأولى والدكتور محمد المنصف المرزوقي - آخر رصاصة متبقية للثورة التونسية - الذي حل ثانياً بعد أن تغيرت مجريات المشهد السياسي التونسي؛ إثر تشكل حزب «نداء تونس» الذي يعد امتداداً للمنظومة القديمة، والتي أعادت تشكيل نفسها للعودة إلى السلطة وإدارة حكم البلاد بدعم كبير من عديد الأطراف الداخلية والخارجية. 

وقال الدكتور محمد المنصف المرزوقي مباشرة بعد إعلان النتائج وترشحه إلى الدور الثاني: «أقدم كل معاني الامتنان والتقدير لكل من صوت لشخصي»، وفي رسالة للجمهور التونسي قال: «أدعو كل القوى الديمقراطية، وكل من ناضلت معه ضد النظام القمعي ومن أجل الديمقراطية أن يقف معي ويدعمني خلال عملية التصويت بالدورة الثانية». 

في حين خرج زعيم المنظومة السابقة الباجي قائد السبسي مرتبكاً بإدلائه بتصريح هز به الرأي العام وأحدث ضجة في الأوساط الشبابية خاصة، بعد أن اعتبر «كل من صوت للمرزوقي متطرفاً وإرهابياً (أي أن أكثر من مليوني تونسي صوتوا للمنصف المرزوقي هم متطرفون بحسب تعبيره)، ولم تولِ وسائل الإعلام المحلية أي اهتمام لهذا التصريح الذي يعد خطيراً من مرشح للرئاسة، وكان على الجهات الرسمية التدخل غير أن الكل يصب نحو خدمة الأجندة النوفمبرية للنظام السابق. 

وسيكون محمد المنصف المرزوقي أمام موعد تاريخي للفوز بالانتخابات الرئاسية ليبقى شوكة أمام تغول منظومة الفساد والاستبداد وقمع الحريات ويكون أول رئيس منتخب ديمقراطياً وبكل نزاهة، والذي كسب شعبية واسعة في الأوساط التونسية برغم حملات التشويه التي يتعرض لها من الإعلام وأتباع «نداء تونس» لخدمة مرشحهم الباجي قائد السبسي.

تاريخ حافل بالنضال والمواقف التاريخية التي أدلى بها الدكتور محمد المنصف المرزوقي زمن حكم بن علي، وكان أحد أشرس المعارضين خلالها، وتنبأ بالثورة التونسية قبل قيامها، ودعا في كل ظهور له على شاشات التلفاز الأجنبية منذ بداية الألفية وخاصة بعد تأسيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية عام 2001 إلى الانتفاضة والتصدي لنظام الحكم الجائر القائم على الفساد والنهب، وبرغم تهميشه فقد وجد صدى واسعاً. 

معادلة سياسية جديدة: 

ولئن كان في الحسبان أن المشهد السياسي في تونس يسير لصالح القوى الثورية ويواصل في نهجه خاصة بعد انتخابات المجلس التأسيسي التي أعطت فيه أغلبية المقاعد للإسلاميين فإن العكس قد حدث، ليكون تشكل وإنشاء حزب «نداء تونس» منعرجاً حاسماً في قلب الموازين السياسية لصالح منظومة الفساد التي اشتغلت لعقود ثلاثة ماضية ونيف متمرسة على الأوضاع وتطورها. وقد تتالت الأسباب من حين إلى آخر مساهمة في بروز كتلة النظام السابق في المشهد العام بالبلاد نتيجة الدعم الكبير الذي لقته خاصة من الإعلام المحلي الذي يسيطر عليه بيادق بن علي وأتباعه، وتعددت أسباب تغير المعادلة والخريطة السياسية بشكل كبير لتصل إلى ما آلت إليه اليوم. 

فلم تقم هناك ثورة بالمعنى التقليدي للكلمة، وظلت الإدارة في يد وقبضة النظام حيث لم تطح الثورة إلا بالرئيس المخلوع؛ فاستولى مجدداً فلوله على بعض ما تبقى من الأركان الحساسة منها الأمنية والقضائية خاصة خلال الفترة الانتقالية الأولى التي قادها الباجي قائد السبسي، وعرف كيف يديرها لفائدة الفلول وخدمة مصالحهم، ولم يقم الثوار بتشكيل أول حكومة في أعقاب فرار المخلوع بن علي يوم 14 يناير 2011م، وإنما قام بعض أعضاء البرلمان وضباط في الأمن الرئاسي باستدعاء وزراء بن علي ليشكلوا أول حكومة بعد الثورة. ثم تولي الباجي قائد السبسي قيادة المرحلة الانتقالية الأولى التي كانت بمثابة البداية الحقيقة لإعادة روح النظام السابق بكل أشكاله.

وفي المرحلة الانتقالية الأولى تم تجنيد مفاصل الدولة، أو الدولة العميقة، فيما عرف بعد ذلك بالثورة المضادة. والتي تركت بصماتها واضحة أثناء حكم الترويكا وتم إخفاء الكثير من الملفات التي تدين رموز النظام السابق، ووقع ابتزاز الكثيرين من الساسة ورجال الأعمال من خلالها، ومن ثم تم ترقية الكثير من الموظفين في الدولة، ووضع آخرين في أماكن حساسة، وتم تلغيم الكثير من الملفات ومن بينها عملية الزيادة في الأجور التي أرهقت ميزانيات الدولة في عهد الترويكا ولا تزال. 

لم تمضِ سوى أيام قليلة على انتخابات 23 أكتوبر 2011 التي أفرزت مشهداً واضحاً لصالح القوى الثورية تزعمه الإسلاميون من حركة النهضة وحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» حتى ارتفعت الأصوات المعارضة مطالبة بعدم التصويت على ميزانية 2012 التي وضعتها حكومة الباجي قايد السبسي؛ وذلك بهدف إحداث بلبلة وجدال واسع في البلاد؛ لأن عدم التصويت يعني عدم صرف الرواتب لمدة 4 أشهر للموظفين في الدولة وللمجتمع، أي إحداث هزات اجتماعية واحتجاجات عنيفة. لتلتف المعارضة حول نفسها وتشكل تحالفات بمساندة الاتحاد العام التونسي للشغل منذ الأشهر الأولى وبدأت الإضرابات والاعتصامات تضرب كل هياكل الدولة وتشمل كل الفئات الاجتماعية حتى شلت الحركة الاقتصادية وتوقفت عن الدوران بصفة تكاد تكون كلية وشهدت البلاد عدداً كبيراً من الإضرابات تجاوز الـ43 ألف إضراب، وهو رقم قياسي، لم يشهد له العالم مثيلاً، بما في ذلك إضرابات اليونان، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وأمريكا اللاتينية، مجتمعة. وأغلبها إضرابات عشوائية هدفها الإضرار بالاقتصاد حتى لا تتمكن الترويكا من فعل أي شيء.

وبدأت التصريحات النارية المعادية للحكومة الجديدة تتصدر كل وسائل الإعلام التونسية، وكانت أبرزها في تلك الظروف الحساسة ومع تنامي الأزمة السياسية بالبلاد للقيادي اليساري محمد الكيلاني، قائلاً: «إفشال النهضة وعدم نجاحها قضية حياة أو موت، يجب أن لا ينجحوا لأن ذلك سيدفع الشعب لانتخابهم مرة أخرى». 

كل ذلك، لتتغير الخريطة السياسية لتصبح أساساً لصالح التيار اليساري والمنظومة السابقة التي جند كلٌ منها أطرافاً لخدمته، وكان الاتحاد العام التونسي للشغل راعياً لهما ومدافعاً إلى يوم الناس هذا، ولتسقط شعبية الأحزاب الثلاثة الحاكمة على رأسها حركة النهضة؛ ونتائج الانتخابات التشريعية خير دليل على ذلك، ولئن خرجت حركة النهضة الإسلامية بعدد وفير من المقاعد بالمقارنة لما تعرضت له من ضربات متتالية فإن الخاسر الأكبر حزبا التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية - حلفاؤها في الحكومة - اللذان خرجا أكبر الخاسرين من الانتخابات البرلمانية، لتصب النتائج لصالح المنظومة السابقة الممثلة في حركة «نداء تونس» و«التيار اليساري» المكون في تحالف تحت اسم «الجبهة الشعبية» الذي حل ثالثاً. 

ولم يتضح شكل الحكومة الجديدة مع عدم الإعلان عن التحالفات المرتقبة خاصة بين القطبين السياسيين نداء تونس وحركة النهضة وتباعد برامجهما وعدم تصريح الحركة الإسلامية عن نيتها بدخول الحكومة من عدمها، برغم أن المخاوف بدأت تتصدر تصريحات الكثير حول تغول الحزب الواحد وعودة النظام القديم، وقال في هذا السياق الرجل الأول في حركة النهضة راشد الغنوشي: «لا خوف من عودة سياسة الحزب الواحد وحزب نداء تونس ليس هو التجمع»، وقال عضو مجلس الشورى بحركة النهضة نجيب الغربي: «مصلحة تونس فوق كل اعتبار، ولا مانع لنا من دخول الحكومة القادمة لتلبية نداء الواجب تجاه الوطن»، ومع بروز قوى أخرى كالاتحاد الوطني الحر والجبهة الشعبية وآفاق تونس ازداد المشهد السياسي تعقيداً مع عدم تقابل جل برامج هؤلاء مع بعضها البعض؛ فالحكومة القادمة قد تشكل صراعاً جديداً بين كل هذه القوى في ظل عدم الإعلان عن أي نية من طرف أو آخر للمشاركة أو المقاطعة. ولن يشارك في الحكومة المقبلة طرفان برزا في الحكومة الفارطة وهما حزبا التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية، بعد أن كانا من أكبر الخاسرين في الانتخابات التشريعية وفرضت عليهم الأصوات أن يكونوا في موضع المعارضة. 

 غير أن تصريح الباجي قائد السبسي مؤخراً لجريدة العرب اللندنية كشف الكثير من اللبس الحاصل حول الحكومة المقبلة، بتصريحه أن حركته لن تدخل في تحالف مع حركة النهضة؛ ما قد يؤدي إلى بقاء النهضة في صف المعارضة قبل تحالف مرتقب مع اليسار. 

اليسار التونسي قد يكون حاسماً، إذ يدخل المترشحان الفائزان جولة الإعادة بحظوظ متساوية. وسترجح كفة أحدهما لعوامل مختلفة، من بينها الدعم المباشر من أحزاب خسر مرشحوها بالجولة الأولى وخرجوا من سباق الرئاسة، أو لم تتقدم بمرشح على غرار حركة النهضة. وأعلن قياديون بالجبهة الشعبية (15 مقعداً في الانتخابات التشريعية الماضية) أن الجبهة - وهي تضم خليطاً من الأحزاب اليسارية والقومية - لن تدعم المرزوقي، ولم يوضحوا ما إذا كانت ستدعم السبسي، أم ستقف على الحياد. من جهته، قال الرياحي: «مرشح الاتحاد الوطني الحر - 16 مقعداً في التشريعية» إن حزبه سيجتمع الأسبوع المقبل ليقرر بشأن من سيدعمه في جولة الإعادة. أما حركة النهضة (69 مقعداً في مجلس الشعب القادم) فقال رئيسها راشد الغنوشي إن الحركة تلتزم الحياد وتترك الاختيار لقواعدها بكل حرية. وكانت الحركة التزمت الحياد رسمياً في الجولة الأولى، لكن جزءاً من أنصارها لم يخفوا دعمهم للمرزوقي. ويفترض أن يحصل المرزوقي على دعم أحزاب خسر مرشحوها في الانتخابات التشريعية والرئاسية معاً على غرار حزب التكتل والحزب الجمهوري وحركة وفاء والتيار الديمقراطي، وهم من التوجه الديمقراطي الاجتماعي نفسه الذي ينتمي إليه المرزوقي. في الأثناء، أدانت حملة المرزوقي تصريحات أدلى بها السبسي لإذاعة فرنسية، وصفه فيها بأنه مرشح تيار الإسلاميين - بمن فيهم حركة النهضة - والسلفية الجهادية، ورابطات حماية الثورة، وهي جمعيات مدنية اتهمتها قوى سياسية معارضة لحكومتي الترويكا السابقتين بممارسة العنف.

حصل «حمة الهمامي»، المناضل اليساري ومرشح الجبهة الشعبية، على نسبة 7 في المئة؛ وهو ما سيجعل دعمه لأحد المترشحين المتنافسين في الجولة الثانية ذا أثر كبير على المشهد الانتخابي. 

وبرغم أن المنطق يقول إن حمة الهمامي الذي كان من أبرز مكونات المعارضة في عهد زين العابدين لا يجب أن يتحالف مع الباجي قائد السبسي الذي عمل مع النظام السابق، والذي كون حزب نداء تونس الذي يضم وجوهاً بارزة في النظام السابق، فإن الواقع يقول إن الجبهة الشعبية تحالفت مع نداء تونس ضد الائتلاف الحكومي الذي ترأسته حركة النهضة في صيف 2013، وأن حمة الهمامي مرشح الآن لدعم السبسي في الجولة الثاني. 

وبرغم أن التوقعات تميل إلى أن الجبهة ستدعم الباجي قائد السبسي في الجولة الثانية، ما زالت الجبهة تتحفظ عن إعلان موقفها الرسمي، حيث صرح حمة الهمامي لوسائل إعلامية محلية أن مؤسسات الجبهة الشعبية ستجتمع في الأيام القادمة لدراسة موقفها من الجولة الثانية. 

 

أعلى