الوجود العسكري الأمريكي في ليبيا
بينما
تغرق التيارات الليبية في صراعها حول السلطة منذ نجاح ثورة 17 فبراير من إسقاط
نظام العقيد معمر القذافي، في تشرين الأول أكتوبر من العام 2011، تعمل الولايات
المتحدة الأمريكية على الإنغراس العسكري والاستخباراتي الهادئ في تربتها، ورغم أن المعطيات
متناقضة بين من يؤكد ومن ينفي ذلك، إلا أن تحليل أبعاد الوجود الأمريكي في المنطقة
يفيد بأن ذلك ممكن.
ففي شهر شباط الماضي من هذا العام،
كشفت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، عن أن عناصر من قوات الكوماندوس الأمريكية
تتواجد حاليا في جنوب ليبيا، وتدخلت بالفعل ضد الجماعات الجهادية، ونقلت "لوفيغارو"
عن مصدر عسكري فرنسي قوله "إنه منذ نهاية العام 2013 تتواجد عناصر من وحدات
"دلتا" متنكرة فى زي البدو الرُحل، معززة بطائرات بدون طيار وغيرها من وسائل
الاستطلاع الجوية.
وفي الوقت الذي أكدت فيه
الصفحة الرسمية لوكالة أخبار الجيش الليبي على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك
وجود القوات الأمريكية بليبيا، ونشرت صور عربات مصفحة من نوع هامفي على متن باخرة
أمريكية بميناء بنغازي بتاريخ 18 نوفمبر تشرين الثاني، نقلت وكالة الأنباء الليبية
الرسمية تصريحا لمحمد عبد الحفيظ البوسيفي آمر منطقة سبها العسكرية ينفي فيه وجود
قوات أجنبية في البلاد.
تربص بمسار الثورة
ما
إن بدأت بوادر قرب انتهاء مهمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا والذي تم بموجب
قرار أممي صدر عن مجلس الأمن بتاريخ 27 أكتوبر 2011، حتى بدأ المسؤولون الأمريكيون
يخرجون تباعا في تصريحات متفرقة يتحدثون عن استعداد بلادهم "تقديم
المساعدة" للحكومة الليبية الوليدة، وذلك من أجل تهيئ الأجواء السياسية والأمنية
للانتقال الديمقراطي وبناء دولة مدنية.
بعد
تمكن الثوار من تحرير طرابلس والقبض على القذافي، خرج الرئيس الأمريكي باراك أوباما
يوم 21 أكتوبر 2011 مُعلنا قرب انتهاء مهمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفي نفس
الوقت معلنا رغبة بلاده أن تكون شريكا للسلطات الجديدة في ليبيا، وقبل ذلك بثلاثة
أيام قامت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، بزيارة لطرابلس التقت خلالها
رئيس المجلس الوطني الانتقالي أنذاك مصطفى عبد الجليل ورئيس الوزراء، محمود جبريل،
ووعدتهما بدعم بلادها إلى أن ينتهي تهديد النظام السابق.
بعد
يومين من ذلك؛ حل مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان
بالجزائر، حيث تباحث مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ومسؤولين كبار الوضع في ليبيا الجديدة
بعد مقتل العقيد معمر القذافى، ومخاطر التهديدات الأمنية في المنطقة وسبل مساعدة
ليبيا على "إنجاح مسارها الانتقالي" حسب قول فيلتمان.
من
خلال هذه المؤشرات بدا أن أمريكا منزعجة من أمرين اثنين في ليبيا بعد الثورة حسب
ما يُفهم من تصريحات مسؤوليها، أولهما احتفاظ الثوار بالسلاح خصوصا الكتائب
العسكرية التي يقودها الإسلاميان عبد الحكيم بلحاج، وإسماعيل الصلابي، وثانيهما
خشية صناع القرار في البيت الأبيض من صعود تيار سياسي للسلطة في طرابلس لا يوافق
تطلعاتها ولا يخدم مصالحها في المنطقة، غير أن نجاح الليبراليين برئاسة محمود
جبريل في الاستحقاقات الانتخابية خلف ارتياحا نسبيا في واشنطن وظل موضوع الثوار
الإسلاميون الهاجس الوحيد المُثير للقلق لديها.
البحث عن مُبرر
في
خضم انكباب الشعب الليبي بكافة مكوناته السياسية وروافده القبلية وتوجهاته
الإيديولوجية على إنجاح مسيرة الانتقال الديمقراطي، وبعد شهرين من أول انتخابات
تشريعية تشهدها البلاد وتمخض عنها تشكيل المؤتمر الوطني العام، اهتزت مدينة بنغازي
التي شكلت مهد الثورة الليبية على وقع هجوم مسلح على القنصلية الأمريكية انتهي
بمقتل السفير الأمريكي جي كريستوفر ستيفنز.
عقب
هذا الحادث الذي أعلن "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" الذي يتخذ من اليمن
مقرا له، مسؤوليته عنه انتقاما لمقتل «أبو يحيى الليبي» الرجل الثاني في تنظيم القاعدة،
خرج الرئيس الامريكي باراك أوباما في مؤتمر صحفي مُعلنا إعطاءه أوامر بـ"تأمين
الأمريكيين في ليبيا"، بينما أعلنت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في بيان
لها عن اتصالها هاتفيا بالرئيس محمد المقريف من أجل "تنسيق دعم إضافي لحماية الأميركيين
في ليبيا".
ورغم
اعتذار السلطات في طرابلس وإدانتها الشديدة للحادث وتعهدها بملاحقة الجناة، إلا أن
صناع القرار في البيت الأبيض بدوا وكأنما كانوا ينتظرون الفرصة لتبرير تغلغلهم في
ليبيا باستعمال ورقة "الإرهاب"، حيث صرح مسؤول في وزارة الدفاع البنتاغون
غداة الهجوم بأن واشنطن سترسل فريقا من قوات مشاة البحرية الأمريكية "المارينز"،
إلى ليبيا، لتعزيز الحماية و مكافحة "الإرهاب".
اختطاف أبو أنس
في
السنة الثانية بعد الثورة (2013) اتخذ التوجه الأمريكي نحو ليبيا شكلا آخر،
فبالتزامن مع انشغال الليبيين بإشكالاتهم الداخلية بعد انتخابهم المؤتمر الوطني في
تموز 2012، وفي الوقت الذي كانت الجهود تتجه نحو تجاوز التجاذبات السياسية من أجل
بناء الدولة واستكمال الانتقال الديمقراطي، كثرت حوادث الانفلات الأمني وارتفعت
وتيرة عمليات اختطاف المسؤولين واستهداف الشرطة.
وفي
ظل هذه الأجواء قامت قوات أمريكية خاصة في الخامس من أكتوبر تشرين الأول 2013، باختطاف
الجهادي أبو أنس من قلب العاصمة الليبية طرابلس، حيث انتظرته سيارتان أمام المسجد الذي
كان يؤدي فيه صلاة الفجر، وقام مسلحون يتحدثون العربية باعتقاله واقتياده إلى مكان
مجهول حسب رواية ابنه عبد الله ووالدته الذين تابعا العملية هذه من نافذة المنزل القريب.
لاحقا
كشفت صحيفة "لوفيغارو" عن وجود عناصر من القوات الخاصة الأمريكية
"دلتا" موجودة حاليا في جنوب ليبيا وقد تنكرت في زي البدو لمساعدة الجيش
على مطاردة عناصر تنظيم القاعدة، وبينما لم تنفي واشنطن أو تؤكد كذبت الجهات
الرسمية الليبية ذلك وفندت صحة ما ورد عن الصحيفة الفرنسية، غير أنه بالعودة إلى
عملية اختطاف أبو أنس تبدو المؤشرات على الوجود الأمريكي بليبيا.
بالنسبة
للدكتور فتحي عقيلة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنغازي، فإن تنامي التغلغل
الأمريكي بليبيا يرجع إلى كونها دولة غنية بالموارد النفطية، ضعيفة القوى البشرية،
واسعة الحدود، ذات موقع استراتيجي متميز يربط الشرق بالغرب، ومن الطبيعي أن تتدخل القوى
الخارجية- بما فيها العربية- للحصول على أكبر قدر من الغنائم من هذه الدولة.
ضحية صراع أمريكي –
أوروبي
يعتقد
فتحي عقيلة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بنغازي، أنه من الممكن أن تكون ليبيا ضحية
لصراع أمريكي- اوروبي خفي، غير أنه يرى أن ما يرجوه الأمريكان يختلف عما يرجوه الأوروبيون،
ونسبة تأثر كل منهما بسوء أو حسن الوضع الأمني الليبي يختلف.
ويضيف
عقيلة في تصريح لـ"البيان"، أن طريقة القبض على أبو أنس تمت بموجب مبدأ
إقليمية القانون والمبرر لها هو الاختصاص العالمي بمكافحة جريمة "الإرهاب"
باعتبارها تهدد الأمن والسلم العالميين وإذا ما أردنا أن نحكم على الولايات المتحدة
بالمبادئ التقليدية فإننا سنقول إنها يجب عليها أن تطالب الحكومة الليبية بتسليم أبو
أنس أو محاكمته في ليبيا عما نسب إليه من جرائم، ولكننا الآن نعيش في عالم يحكمه قطب
واحد من الناحية التشريعية.
واعتبر
المتحدث أن الولايات المتحدة الأمريكية وجهت بهذه الخطوة صفعة للسلطات الليبية
الوليدة في ظل الحالة الأمنية التي تمر منها البلاد، وذهب المحلل السياسي بالقول
إن عملية اختطاف أبو أنس من منزله في العاصمة طرابلس خطوة أخرى نحو خلق الملجأ للجماعات
الإرهابية تمهيدا لخوض الحرب ضد "الإرهاب" على الأرض الليبية.
انقلاب حفتر
أعادت
محاولة الانقلاب التي يحاول إنجاحها الجنرال
الليبي المتقاعد "خليفة حفتر" ومجموعة من الجنرالات في طرابلس وبنغازي خلال
اليومين الماضيين (16 – 17 أيار مايو )، الحديث عن اليد الأمريكية في المنطقة، فإذا
كان صناع القرار في واشنطن طالما يحذرون في كل تصريحاتهم حول ليبيا مما يسمونه
"خطر" الجماعات الإسلامية المتشددة، فإن قائد الانقلابات خليفة حفتر تولى
هذه المهمة.
وحسب
المُعطيات المتوفرة عن حفتر ورفاقه هم مجموعة من الضباط الذين تخلى عنهم معمر القذافي
قبل عشرين سنة من الثورة في حرب "تشاد" خوفا من أن ينقلبوا عليه، فالتقطتهم
الولايات المتحدة الأمريكية وأرسلت مروحيات خاصة أخرجتهم من مكان أسرهم في سجون "تشاد"
لينتقلوا إلى أمريكا ويعيشوا هناك في ضيافة الجيش الأمريكي لعقدين، قبل أن يعودوا إلى
ليبيا أيام الثورة وبين أيديهم دعم مادي وعسكري لم تحصل عليه باقي كتائب الثوار.
ويتضح
الطمع الأمريكي أكثر في ليبيا ورغبتها في أن تسير الأمور وفق ما تُخطط له، في صمتها
المريب عن ما جرى في طرابلس وبنغازي وعدم تبنيها أي موقف في الوقت الذي كان مسؤولوها
يخرجون في كل مرة بتصريحات إعلامية اتجاه أعمال عنف أو فوضى، في غضون ذلك حركت واشنطن
أسطولها العسكري من إسبانيا إلى إيطاليا ليساعد على تسريع الاستجابة لتطورات الأحداث.