الأسباب الخفية وراء الهرولة الفرنسية إلى إفريقيا الوسطى
يظهر أن التقاء الأطماع الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا
مع الأوضاع المتوترة والغير المُستقرة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في عدد من الدول
الأفريقية بسبب استمرار الانقلابات العسكرية كخيار للتداول السلمي على السلطة وفقد
الديمقراطية جدواها كآلية قادرة على إحداث انتقال سياسي، يتيح للدول الغربية مُسوغات
التدخل العسكري باستعمال ورقة "الديمقراطية" أو "حقوق
الإنسان" عن طريق تفويض باريس للقيام بهذه المهمة.
فقد هرولت فرنسا إلى إرسال طائرات عسكرية كبيرة
مُحملة بـ 200 جندي فرنسي خلال اليومين الماضيين كتعزيزات عسكرية إلى دولة جُمهورية
إفريقيا الوسطى، ساعات فقط بعد مقتل حوالي 100 شخص في اشتباكات ذات طبيعة عقدية
بين مُسلمين ومسيحيين بدأت يوم الأربعاء رابع كانون الأول/ ديسمبر الجاري.
جاء ذلك عقب اجتماع لمجلس الأمن الدولي يوم الخميس
خامس ديسمبر - كانون الأول الجاري، (5-12-2013) أعطى فيه الضوء الأخضر لفرنسا
بإرسال قواتها لبدء حملة عسكرية بجُمهورية إفرقية الوسطى، وذلك من أجل ما أسمته
"بسط الأمن وحماية المدنيين والتحضير للانتقال الديمقراطي".
وفور ذلك، سارع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، مساء
ذات اليوم، إلى إعلان تدخل بلاده عسكريا في جمهورية إفريقيا الوسطى اعتبارا من
ليلة الجمعة سادس كانون الأول / ديسمبر، وقال أولاند في خطاب مقتضب وجهه من قصر
الإليزيه وبثته إذاعة فرنسا الدولية، "إنه قرر أن يتدخل فورا في جمهورية
أفريقيا الوسطى بعدما سمحت الأمم المتحدة بتدخل قوات أفريقية وفرنسية.
وأضاف الرئيس الفرنسي أن بلاده ستضاعف عدد قواتها
البالغ قوامها حاليا 600 جندي 'في غضون أيام قليلة، إن لم يكن في ساعات قليلة''،
وقال ''هذا التدخل سيكون سريعا، لن يستمر طويلا ومتأكد أنه سيكلل بنجاح'' متعهدا
بأن يطلع الشعب الفرنسي بانتظام عن تقدم العمليات العسكرية هناك.
ولم يتأخر التنفيذ كثيرا فقد أعلنت وزارة الدفاع
الفرنسية عن استعدادها لإرسال 1200 جندي إلى جمهورية افريقيا الوسطى، وصل منهم 200
إلى العاصمة بانغي، كما أرسلت إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية المجاورة 500 جندي
لتعزيز السيطرة في حملتها العسكرية الجديدة في إفريقيا.
وكانت جُمهورية إفريقية الوسطى والتي تتميز بعدم الاستقرار السياسي مند سنة
1966، بسبب تاريخها الطويل في الانقلابات، مسرحا لإنقلاب عسكري في شهر مارس الماضي (03-2013)، بعدما أطاح مسلحوا
جماعة السيليكا ذو الجذور الدينية المسلمة بالرئيس المسيحي فرانسوا بوزيزية.
وأسفر هذا الانقلاب عن انتخاب المجلس الانتقالي لزعيم ائتلاف السيليكا
"ميشيل جوتوديا" يوم 13 أبريل 2013، لقيادة البلاد مدة عام ونصف على
أساس إعادة النظام وتنظيم الانتخابات تعهد أنه لن يترشح فيها، غير أن عدد من
الزعماء الأفارقة والدول الغربية رفضت الاعتراف به كرئيس شرعي للبلاد على غرار ما
كانت تفعل مع أسلافه الذين وصلوا للسلطة بنفس الطريقة.
ويقعُ هذا البلد الغني بثرواته الطبيعية (زراعة وغابات ومعادن طبيعية نفيسة)
في قلب القارة السمراء لذلك سميت بجمهورية إفريقيا الوسطى، وتحدها السودان من
الشمال إلى الشرق وتشاد والكونغو من الجنوب والكامرون من الغرب، وينقسم سُكانها
إلى ثلاث فئات رئيسية مسيحيون ويشكلون حوالي 50 بالمائة ومسلمون ويشكلون حوالي 20
بالمائة، بينما تتشكل الفئة الباقية 30 بالمائة من أديان محلية مُختلفة وأغلبهم من
الزنوج والبانتو ماندا.
ويعيدُ التدخل الفرنسي العسكري في أفريقيا الوسطى إلى
الأذهان سيناريو تدخلها في ليبيا سنة 2011 لتسريع الحسم في مسار الثورة 17 فبراير
الشعبية الليبية ضد نظام الزعيم معمر القذافي، وفي مالي مطلع العام 2013 بعد سيطرة
مسلحين إسلاميين ومقاتلي الطوارق الأمازيغ على إقليم أزواد شمال البلاد.
وتعليقا على هذا الحدث، قال الدكتور خالد شيات، أستاذ
العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول بوجدة، في اتصال هاتفي مع "البيان"،
إن التدخل العسكري بغطاء أممي في بعض البلدان لدواعي إنسانية أصبح من عقيدة
العلاقات الدولية الراهنة وواقعا من وقائعها، انطلاقا من المعايير الدولية التي فُرضت
عندما وُضعت هيئة الأمم المتحدة والنسق الذي تمخض عن شُرعة حقوق الإنسان.
وحسب شيات، فإن التدخل الفرنسي في جُمهورية إفريقية
الوسطى من الناحية القانونية جاء في إطار تطور تصاعدي من الناحية الدولية باعتبار
أن مجلس الأمن كان قد أصدر في شهر غشت الماضي قرارا يتيح لفرنسا إمكانية التدخل
عسكريا بعدد محدود من الجنود يُمكن أن يتطور من الناحية العددية، كما يُمكن أن يُصبح
بعثة أممية في إطار القبعات الزُرْق، قبل أن يصدر مجلس الأمن في إطار الفصل السابع
من ميثاق الأمم المتحدة قراره الأخير يوم الخميس 5 ديسمبر 2013.
وأضاف شيات لـ "البيان" أن اختيار مجلس
الأمن لفرنسا يرجع للدور التقليدي الفرنسي في إفريقيا وهي الدولة التي تتوفر على
دراية بالمجال الإفريقي باعتبارها مُستعمر سابق، وأيضا لتوفرها على الخبرة
العسكرية بها، لأنها سبق وأن تدخلت في مالي بطريقة متشابهة تجمع ما بين التصاعد
العددي لمجموع الجنود العسكريين وبطريقة تدعم مسلسل ديمقراطي داخلي أو وضع على
الأقل نمودج سياسي محلي قابل للحياة والإعاشة من الناحية الخارجية.
واعتبر أستاذ
العلاقات الدولية ومنسق الدراسات المغاربية بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية، أن
الحل لا يكمن في فرض واقع عسكري في المنطقة وإنما يكمن في وضع نموذج سياسي
ديمقراطي قابل للاستمرار ونموذج اجتماعي أسسه التعايش الإنساني، ومن الناحية
الثقافية إعادة تشكيل الفضاء الديني كما وقع في مالي.
وبعيدا عن هذا التفسير، فإن التدخل العسكري الفرنسي
في إفريقيا الوسطى في الوقت الحالي يثير الكثير من علامات الاستفهام ذلك أن التوتر
المسلح وانعدام الأمن وغياب الديمقراطية كان موجودا في فترة الرئيس السابق بوزيزيه
والذي جاء عن طريق الانقلاب عام 2003، ورغم ذلك كان يحضى بدعم كامل من باريس وعدد
من الدول الغربية طيلة فترة اعتلائه كرسي السلطة قبل الإطاحة به في مارس 2013،
ولذلك أبدت باريس امتعاضا كبيرا عندما أحكم تحالف السيليكا السيطرة على العاصمة
بانغي، فأدانت الانقلاب ورفضت الاعتراف بالرئيس الجديد والخارطة السياسية الجديدة
التي استطاعت حشد التوافق من عدة حركات معارضة.
كما أن الانقلابات في الدول الأفريقية والنزاعات
الإثنية والعقدية هو سمة بارزة في المشهد السياسي ورغم ذلك فإن الموقف الفرنسي لا
يكون على نفس المنوال وإنما تحكمه المصالح المُشتركة مع القيادة الجديدة، ففي
حالات انقلاب موريتانيا سنة 2008 والنيجر سنة 2010 ومالي سنة 2012، أدانت فرنسا الانقلاب في النيجر على
الرئيس الذي مدد لنفسه الصلاحية عن طريق تعديلات دستورية لولاية رئاسية ثالثة، وكذلك
فعلت مع الحالة المالية، غير أنها نزلت بكل ثقلها لوقف الضغط الدولي على قادة
الانقلاب في موريتانيا على الرئيس المنتخب ديمقراطيا سيدي محمد ولد الشيخ عبد
الله، حسب ما أكدته وثائق ويكيليكس، وهو ما يُبرز تناقض فرنسا في ادعاءها انحيازها
لـ"الديمقراطية"، ويجعل تدخلها الحالي في جمهورية إفريقيا الوسطى في قفص
الاتهام، هل يتعلق فعلا ببسط الأمن وحماية المدنيين والتحضير للانتقال الديمقراطي؟
أم توجد خلفه اعتبارات ورهانات أخرى؟