أضواء على الموقف الروسي من الشأن السوري
لا ريب أن لروسيا مصلحة اقتصادية كبرى مع النظام
السوري, فهو ثالث أكبر مستورد لأسلحتها بعد الهند وفنزويلا, وبنسبة كانت تبلغ10%, ارتفعت
بوتيرة متسارعة عقب الأحداث بأموال إيرانية, ناهيك عن عقود النفط والغاز التي وقعها
النظام السوري قبل الأحداث مع شركات روسية. وبحسب صحيفة موسكو تايمز فأن الاستثمارات
الروسية في البنية التحتية والطاقة والسياحة السورية بلغت 19.4 مليار دولار عام
2009.
وبالتأكيد لروسيا مصلحة عسكرية أيضا مع نظام الأسد
باعتباره الحليف الوحيد في منطقة استراتيجية بالغة الأهمية يسيطر عليها الغرب تقليدياً,
خاصة بعد سقوط صدام حسين ومعمر القذافي, كما تعتبر قاعدة طرطوس العسكرية عامل قوة لا
غنى عنه للهيمنة الروسية الخارجية.
ولا ننسى المصلحة السياسية مع النظام السوري, حيث
يعتبر ما حصل خلال زيارة بشار الأسد لموسكو سنة 2005 مؤشراً قويا على أهميتها بالنسبة
للروس, فقد أُﻋﻔﻴﺖ ﺳﻮرﻳا ﻣﻦ 73٪ ﻣﻦ دﻳﻮﻧﻬﺎ ﻟﺮوﺳﻴﺎ،وﻗﺪرﻫﺎ 13,5 ﻣﻠﻴﺎر دوﻻر، ووﻗﻊ اﻟﺒﻠﺪان
إﻋﻼﻧﺎً ﺑﺸﺄن ﻣﻮاﻗﻔﻬﻤﺎ المشتركة ﻣﻦ المشكلات اﻹﻗﻠﻴﻤﻴﺔ الملحة.
ولكن هل يعقل أن تضحي روسيا بعلاقاتها مع حكومات
وشعوب الدول العربية والإسلامية, وتتحدى العالم أجمع من أجل هذه المصالح فقط؟ خاصة
وأن دولاً عربية عديدة قدمت عروض سخية لتعويض روسيا عن خسائرها في حال رفعت غطائها
عن النظام السوري! إن الأمر ولا ريب يتعدى حدود المصالح الاقتصادية أو العسكرية أو
السياسية, بل ويتعدى حتى حدود المنافسة مع الغرب على مناطق النفوذ, ولن نتطرق في هذه
المقالة الموجزة عن الحرب الباردة الجديدة مع الغرب ومحاولتها استرداد المجد السوفيتي
القديم, فسر الموقف الروسي من الأحداث السورية الراهنة نراه يستند إلى معطيات داخلية
أكثر منه إلى أي سبب خارجي.
لا يزال يوجد في اطار روسيا الاتحاديه خمس جمهوريات
اسلامية تتوق للاستقلال هي: داغستان ،وتتارستان ،واجاريا ،وباشكيريا، والشيشان, وهي
دول غنية بالنفط وبكافة الثروات الطبيعية الأخرى, كما هاجر عددٌ كبير من المسلمين من
مناطقهم الأصلية (سواءً الجمهوريات الإسلامية التابعة للإتحاد الروسي أو حتى تلك التي
نجحت في الاستقلال عنه) بسبب التغيُّرات الاقتصادية الاجتماعية، والهجرة المألوفة من
الريف إلى المدينة, وانتشروا في مختلف أصقاع روسيا، وأصبح لهم وجود ملحوظ داخل المدن
الرُّوسية الكُبرى (مليون ونصف المليون مسلم في موسكو وحدها). وذكرت جريدة "برافدا"
الروسية أن الإسلام سيكون الدين المهيمن في "روسيا" بحلول عام 2050م؛ وذلك
نتيجة النمو غير المتساوي للفئات السكانية المختلفة داخل الاتحاد الروسي, وهو ما يسبب
قلقًا شديدًا لصناع القرار الروسي داخل الكرملين.
في 17 سبتمبر 2009 بعث الكاتب الروسي "جيرمان
سادولييف" من "سان بطرسبرج" بمقالة خاصَّة لموقع "بارجوووتش دوج"،
بعنوان "دولة الخلافة الروسية", ناقش فيها ما الذي يمكن أن يقدِّمه الغرب
للمسلمين حتى يتمكنَ من مواجهة الحرْب الأيديولوجيَّة التي يشنها ما يسمِّيهم بالمسلمين
المتشددين على الغرب، وماذا يفعل الغرْب للحيلولة دون قيام دولة الخِلافة ثانيةً؟ وكما
يرى سادولييف فقد اختارتْ روسيا طريقًا جديدًا، ومنهجاً خاصاً في صراعها الأيديولوجي
مع ما يسميه بالإسلام "المتشدد"، أو "غير الصحيح" - كما يرى الروس,
فقد رأى صناع القرار في الكرملين أنَّ الطريق إلى إيقاف انتشار ما يسمونه بالإسلام
غير الصحيح هو زيادة نشْر الإسلام الصحيح؛ أي: الإسلام بلا جهاد. وينسب "سادولييف"
هذه الفكرةَ إلى الرئيس الروسي السابق "مدفيديف"، الذي أطلقها منذ فترة ليستْ
بالبعيدة في اجتماعه مع قادة الطوائف الدينية في روسيا.
والإسلام الصحيح من وجهة نظر القيادة الروسية بالتأكيد
ليس سلفياً, فقد يكون صوفياً, بل ويفضل أن يكون شيعياً نظراً إلى الشراكة المصيرية
مع القوى الشيعية الرئيسية في المحور المعادي للغرب الكاثولوبروستانتي. وهنا تكمن خطورة
الثورة السورية, فبالإضافة إلى كل ما ذكرناه سابقاً, فإن هذه الثورة تهدد النظام الشيعي
بشكل مباشر وتزعزع صورة إيران وحزب الله الدعائية الآن بأنهم قادة الجهاد الاسلامي
الموحد لمواجهة الغرب وإسرائيل. والأخطر من ذلك أنها تحظى بتعاطف بل ودعم القوى الإسلامية
الانفصالية في روسيا, فقد ذكر د. ألكسي ملاشينكو, الباحث الروسي ومدير برنامج الأمن
والمجتمع والدين بمركز كارنيجي في موسكو, أن "التقديرات الأخيرة أكدت مشاركة قرابة
30 ألفًا من مسلمي روسيا إلى جانب المعارضة في القتال الدائر في سوريا". وتخشى
روسيا الآن, في حال نجاح الثورة السورية, من أن المحطة التالية للمجاهدين السنة في
سوريا (بمختلف جنسياتهم) ستكون روسيا نفسها.
والتخوف من اتحاد فصائل المتشددين السنة وسيطرتهم
على بعض الدول, وتطلعهم لبناء دولهم والإنعتاق من التبعية للغرب أو الشرق, أو بتعبير
آخر: "التخوف من عودة الخلافة" بات يسيطر على كثير من المحللين والكتاب الروس
وغيرهم, ومثال على ذلك نذكر ما جاء في مؤَلف "ميخائيل يورييف": "روسيا..
إمبراطورية ثالثة" الذي توقع فيه أنَّ دولة الخلافة الإسلامية ستكون واحدةً من
خمس دول عالميَّة رئيسة بحلول عام 2020، وهذا ما يتخوف منه أيضاً "نوح فيلدمان"
أستاذ القانون بجامعة هارفارد، في مؤَلفه بعنوان: "سقوط وصعود الدولة الإسلامية"،
حيث يؤكِّد وجودَ تأييد جماهيري لتطبيق الشريعة الإسلامية مرَّة أخرى في العصْر الحالي،
والذي - حسب تقديره - يمكن أن يؤدِّي إلى وجود خلافة إسلامية ناجحة. (د. ماهر الجعبري،
من روسيا لأمريكا، كتاب عالميُّون يترقبون الخلافة العربية).
والقيادة الروسية لا تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا
الخطر المتعاظم وتحاول وأده من بدايته, فقد ذكر خبير التعليم الروسي الأستاذ
"سيرغي كومكوف" أن هناك حملة تشنها الحكومة ضد الإسلام يمكن أن تتسبب في
الكثير من الاضطرابات الاجتماعية لدرجة الإطاحة بالحكومة. وأوضح أنه في مناطق مختلفة
من "روسيا" يُعتَقَل مسلمون أبرياء بتهمة الإرهاب والتطرف، وهذا إجحاف بحقهم
أيًّا كانت الأسباب التي تدعيها الحكومة. وتقول المحامية الناشطة في مجال حقوق الإنسان
"ليودميلا إليكشف": إن الظروف القاسية في السجون الروسية تبين الأحكام الظالمة
التي يرفضها المجتمع بحق هؤلاء المساجين. جدير بالذكر أن المسلمون يشكلون ثلث السجناء
السياسيين في روسيا الاتحادية, حسبما أعلن "باخرام خمروف" ممثل لجنة حقوق
الإنسان في "روسيا", رغم أن عددهم طبقاً لتقييمات الخبراء الروس من 11 إلى
24 مليون من أصل 143 مليون نسمة تعداد سكان روسيا.
:: "البيان" تنشر ملف شامل
ومواكب لأحداث الثورة السورية