مع إبرام اتفاق التهدئة بين حزب الله وإسرائيل طرحت تساؤلات كبيرة عمن المنتصر بهذا الاتفاق، هل حققت إسرائيل أهدافها وتم تحييد حزب الله فهي بذلك منتصرة، أم أن الحزب ظل متماسكا بالجملة فهو بذلك خرج منتصرا، ربما يلقي هذا المقال الضوء على تلك المساحة المظللة؟
بعد سنة وخمسين يوماً من حرب إسناد غزة التي أطلقها حزب الله إثر عملية "طوفان
الأقصى"، وافقت إسرائيل والحزب، على وقف إطلاق النار. معركة الإسناد التي كان
مقصوداً منها، حرباً منخفضة الوتيرة، بمعنى المناوشات عبر الحدود، واستنزاف
إسرائيلياً عسكرياً واقتصادياً، كنوع من الضغط لوقف الحرب على غزة، وشكلاً من أشكال
الدعم المعنوي لحركة حماس والفصائل الأخرى في القطاع. لكن هذه المعركة تحوّلت إلى
حرب حقيقية من جانب إسرائيل التي أطلقت عملية "سهام الشمال"، في 23 سبتمبر الماضي،
بعد أسبوع فقط من تفجير أجهزة النداء التي يحملها آلاف الأفراد من الحزب، ثم تفجير
أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي.
وفي الأول من أكتوبر الماضي، بدأ الجيش الإسرائيلي توغلاً برياً محدوداً، بهدف
إبعاد مقاتلي الحزب عن القرى الأمامية في الجنوب، والتي تُشرف على المستوطنات
الصهيونية من تلال مرتفعة نسبياً.
وما بين تفجير شبكة الاتصالات اللاسلكية في 17 سبتمبر وبدء الهجوم البري، اغتالت
إسرائيل أبرز القيادات العسكرية والسياسية للحزب، في إبادة جماعية لم يسبق لها
مثيل، وأخطر ما فيها إزاحة شخصية قيادية ذات تأثير كبير في الجمهور الشيعي في لبنان
وخارجه، هو حسن نصر الله، فضلاً عن قتل قيادة وحدة الرضوان أقوى وحدات الحزب،
وأعضاء في المجلس الجهادي، ومن أبرزهم هاشم صفي الدين، الخليفة المنتظر، ونسيب نصر
الله، والذي تعرّض لغارة جوية عنيفة في 3 تشرين الأول، في مقره الحصين تحت الأرض في
الضاحية الجنوبية، غير بعيد عن مكان شبيه به، حيث اغتيل نصر الله في غارة مماثلة
بقذائف ثقيلة خارقة للتحصينات.
كلّ هذه الإنجازات التي حققتها إسرائيل تجاه الحزب في مدة وجيزة، كان يُتوقّع منها
شلّ قدرات الحزب في كلّ النواحي، والتسبّب بانهيار كامل لمنظومته القتالية، مع
اغتيال القيادات على المستويات المختلفة من المجلس الجهادي إلى قادة الوحدات
الأساسية، وانقطاع التواصل بين القيادة المركزية والوحدات المعزولة في الجنوب، في
الخنادق والأنفاق، فضلاً عن انفضاض البيئة الحاضنة له.
|
السلاح الأمضى للحزب، كان ما بقي له من قوة نارية قصيرة المدى، داخل
الحدود، وما وراءها في المستوطنات القريبة من الحدود، كما أنواع الصواريخ
المتنوعة المديات، والتي ظلّ يطلقها على إيقاع منتظم يومياً |
تدمير لا اجتياح
إلى ذلك، بدأت إسرائيل حرباً تدميرية للحواضر الشيعية في كلّ لبنان، وليس في
الضاحية الجنوبية فقط، في تكرار لمشهدية حرب تموز عام 2006، لكن على نحوٍ أوسع
جغرافياً، وصولاً إلى تنفيذ ضربات محددة في مراكز إيواء المهجّرين من القرى
والبلدات والمدن في الجنوب والبقاع الشمالي، على مساحة لبنان، وفي مناطق غير شيعية.
ووصلت الضربات إلى قلب بيروت، التي كانت محيّدة عن القصف الإسرائيلي. وفي الجنوب
حيث توغّلت وحدات إسرائيلية، لم تكتفِ بتدمير الأنفاق والتحصينات في النسق الأول
المواجه لفلسطين المحتلة، بل أقدمت الفرق الهندسية على تفجير الأحياء وكل ما تضمّ
من مرافق عامة وبنية تحتية ومساجد، ومن بينها بعض القرى السنية. ولم تُمسّ القرى
المسيحية في محاور التقدّم، بل استغلت حياد تلك القرى، إن لم يكن عداءها للحزب،
للالتفاف على القرى التي يتحصّن فيها مقاتلو الحزب، وبعض الفصائل اللبنانية
الحليفة، وعدد محدود من مقاتلين غير لبنانيين.
مسار العمليات العسكرية في الجنوب كان متفاوتاً بالنسبة للحزب كما لإسرائيل. وقد
ثبت في القتال أعداد قليلة في مواقع ومحاور أساسية. ووقعت التحامات محدودة أوقعت
خسائر معتبرة بالجنود الإسرائيليين. لكن
السلاح الأمضى للحزب، كان ما بقي له من قوة نارية قصيرة المدى، داخل الحدود، وما
وراءها في المستوطنات القريبة من الحدود، كما أنواع الصواريخ المتنوعة المديات،
والتي ظلّ يطلقها على إيقاع منتظم يومياً،
من مناطق بعيدة نسبياً، في عمق الجنوب والبقاع، وبعض الصواريخ الباليستية جرى
إطلاقها من الحدود السورية اللبنانية، ومن سوريا أيضاً، فضلاً عن أنواع المسيرات
الانقضاضية التي أثبتت نجاعتها في هذه الحرب.
واستهدفت هذه الرشقات شمال فلسطين المحتلة وصولاً إلى حيفا، وتل أبيب الكبرى.
والخلاصة التي توصلت إليها الحكومة الإسرائيلية، هي أنه لا مجال لوقف منصات إطلاق
الصواريخ في لبنان، إلا بعملية برية واسعة النطاق، تلتف حول المواقع الحصينة للحزب
قرب مجرى الليطاني، نزولاً من الجولان المحتل، وتوغلاً في عمق البقاع على طول
الحدود السورية الإسرائيلية، لفرض حصار حقيقي على إمدادات الحزب، معطوفاً على حصار
بحري وجوي محكم، لفرض الاستسلام على الحزب وعلى الحكومة المتعاونة معه، وإثارة
الانقسام الداخلي من خلال تحريض القوى السياسية المسيحية خاصة، على الانقلاب
سياسياً على النظام القائم.
|
مشكلة نتنياهو في هذه الحرب، أنه بعد نجاحات الأيام الأولى قبل التوغل
البري، رفع من سقف توقعاته وأهدافه، بدعم أمريكي واضح، وصولاً إلى الكلام
عن إخراج حزب الله من الحياة السياسية، وفرض انتخاب رئيس جديد للبنان،
|
هذا السيناريو المكلف لم يكن متاحاً لإسرائيل، للسبب الرئيسي الذي كشف عنه نتنياهو
في الخطاب المتلفز عشية الموافقة على وقف إطلاق النار، وهو أن الجيش الإسرائيلي بات
بحاجة إلى استعادة قواه، وتعزيز مخزونه من السلاح والذخائر. وما لم يقله، هو أنّ
جيشه المستنزف في غزة على مدى أكثر من سنة، بات يفتقر إلى الجنود، وإلى الدبابات،
والمدرعات الأخرى، وإلى ذخائر المدفعية والصواريخ.
انتصار الحدّ الأدنى
مشكلة نتنياهو في هذه الحرب، أنه بعد نجاحات الأيام الأولى قبل التوغل البري، رفع
من سقف توقعاته وأهدافه، بدعم أمريكي واضح، وصولاً إلى الكلام عن إخراج حزب الله من
الحياة السياسية، وفرض انتخاب رئيس جديد للبنان،
تحت الضغط الناري الإسرائيلي، ومنع نواب الحزب من المشاركة في الانتخابات، لتأمين
غالبية مريحة للرئيس المدعوم أمريكياً، وكان يُطرح في هذه المرحلة اسم قائد الجيش
جوزف عون، مع أن حزب القوات اللبنانية التي يستحوذ على غالبية أصوات المسيحيين، بدأ
يطرح اسم سمير جعجع.
لكن التعثّر البري الإسرائيلي بسبب نقص الجنود والذخيرة، وبروز مقاومة عنيدة في بعض
المحاور الأساسية، جعل من الممكن العودة إلى الأهداف الأصلية للعملية، وتتمثل
بإبعاد مقاتلي الحزب عن الحدود، وتفكيك بنيته العسكرية في جنوب نهر الليطاني على
وجه الخصوص، وإعادة المهجرين الصهاينة إلى شمال فلسطين المحتلة، أي تطبيق القرار
1701، مع إجراءات عملية تضمن تطبيقه هذه المرة، بحيث مُنح لبنان مهلة ستين يوماً
لانتشار الجيش اللبناني واليونيفيل، حتى الحدود الجنوبية، وإخراج الحزب وسلاحه
الباقي وتدمير تحصيناته فوق الأرض وتحتها، وكذلك فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة.
ونتنياهو بهذا، يكون قد اكتفى بانتصار الحدّ الأدنى، بعدما رفع تطلعاته إلى أقصى
حدّ.
وهو ما يسمح للحزب من طريق آخر، لإعلان انتصار الحدّ الأدنى كذلك، لأنه يعتبر أن
الهدف الحقيقي من الحرب، هو القضاء عليه تماماً، وهذا الأمر لم يتحقق، ولن يتحقق
إلا باجتياح بري واسع النطاق، وهو ما تعجز عنه إسرائيل الآن، وقد أنهكتها مقاومة
غزة.
لكن الواقع، أن النصر أو الهزيمة، يرتبطان فعلاً بنتائج الحرب على المديين القصير
والمتوسط. فإذا ما نجحت إسرائيل بتطبيق القرار 1701، بضغوطها المتواصلة، فستكون قد
انتصرت فعلاً، والعكس صحيح.