أم درمان ترسم مصير السودان

كثيرة هي الأخطاء العسكرية والسياسية التي أدت إلى تفوق مليشيا متمردة على جيش عريق، لكن تبدو أن رياح النصر بدأت تلوح في الأفق عبر عدد من الاستراتيجيات التي أتت أكلها لكن السؤال هل يمكن أن تكتمل ليكتمل تطهير كامل السودان؟


تحرير الجيش السوداني مقرّ الإذاعة والتلفزيون في أم درمان، العاصمة التاريخية للدولة المهدية بين عامي 1881 و1899، من قوات الدعم السريع، نصر استراتيجي معنوي وعسكري بالغ الأهمية بدلالاته وسياقاته العملياتية، وهو يفتح الطريق أمام استعادة الضلعين الآخرين من العاصمة المثلّثة؛ الخرطوم، وخرطوم بحري. ومؤدّى ذلك، تغليب منطق الحسم العسكري، وتهافت كل محاولات الترقيع السياسي، ومكافأة قائد قوات الدعم السريع سياسياً على ارتكاباته التي حفرت عميقاً في الوجدان السوداني. وما سيترتّب على المسار العسكري للأزمة، نتائج سياسية مختلفة عن التوقعات التي سادت البلاد عقب إسقاط نظام عمر البشير.

عندما اضطر رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، الخروج من مقرّه المُحاصر في القيادة العامة للجيش بالخرطوم، في 24 أغسطس العام الماضي، بمساعدة من القوات الخاصة الأوكرانية، على ما ذكره تقرير لصحيفة وال ستريت جورنال في 6 مارس الجاري، كان ذلك دلالة واضحة على حرج الموقف العسكري للجيش آنذاك أمام الطوفان البشري لقوات الدعم السريع، وتكتيكات حرب العصابات التي أنهكت الجيش السوداني. وعليه، سيطرت قوات الدعم السريع العام الماضي على معظم إقليم دارفور في الغرب عقب احتلال معظم العاصمة ومقارّها الحيوية والسيادية، في الأيام الأولى لاندلاع الحرب، في 15 أبريل العام الماضي، ثم معظم ولاية الجزيرة العصب الاقتصادي للسودان، في 15 ديسمبر الماضي. فكان الاتفاق مع إيران في أكتوبر المنصرم، على عودة العلاقات الدبلوماسية، وتصدير مسيّرات "مهاجر6" إلى الجيش، وصولاً إلى زيارة وزير الخارجية السوداني علي الصادق علي إلى طهران، في 5 فبراير الماضي، وهو أرفع مسؤول سوداني يزور 'الجمهورية الإسلامية' منذ قطع العلاقات بينهما عام 2016، هو بمنزلة إعلان مرحلة جديدة من الحرب، بحيث يتغيّر المشهد العام تباعاً بين العدوين اللدودين الجيش والدعم؛ وذلك حين يبدو الميزان الآن مائلاً أكثر نحو الجيش، بعدما مالت الكفة بقوة في نهاية 2023، نحو ميليشيا آل دقلو. وكان من عواقب ذلك، استحواذ قائد الدعم السريع على ما يشبه الاعتراف به قائداً جديداً للسودان، حين استقبله بحفاوة زعماء أوغندا وجيبوتي وإثيوبيا وكينيا وجنوب أفريقيا، في جولة بدأت في 27 ديسمبر الفائت.

 

سيكون لتحرير العاصمة المثلّثة، وقع كبير على معنويات قوات الدعم السريع، في كافة الجبهات، كما أن آثاره السياسية ستكون أشدّ إيلاماً، لأن من يسيطر على العاصمة، تعظم شرعيته السياسية في الداخل والخارج

أخطاء البرهان

 يمكن أن يقال الكثير عن الأداء السياسي والعسكري، لغريم حميدتي، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، منذ تسلّمه رئاسة مجلس السيادة عام 2019.  فالبرهان ارتكب سلسلة من الأخطاء العسكرية المميتة؛ مثل ترقيته حميدتي إلى رتبة فريق، وهو لم يدخل السلك العسكري مطلقاً، وبسط المجال له بشكل غير مسبوق والسماح بانتشار قواته في العاصمة، ثم اضطرار الجيش لخوض القتال مع قوات خفيفة التسليح وسريعة الحركة، بأساليب غير مناسبة، واعتماده الأساسي على سلاح الطيران لحسم المعركة، وهو ما ظهر فشله الذريع.

ويعتبر الخبراء العسكريون، أن ما عدّل ميزان القوى بين الجيش وقوات الدعم، هو لجوء البرهان إلى إيران من أجل الحصول على السلاح النوعي المناسب للحروب المعاصرة (الطائرات بلا طيّار)، وتجنيد القوى الشعبية من دون تمييز، لملء الثغرات الميدانية الواسعة في الجبهات، بسبب نقص الجنود. فلما توفّر العدد من خلال المستنفَرين، أو المقاومة الشعبية التي تضمّ شتى التوجّهات الأيديولوجية، وانضوى في صفوفها عسكريون سابقون ومتطوّعون متحمّسون، كما وصول شحنات السلاح من المسيّرات الإيرانية، بعد المسيّرات المصرية والتركية، تمكّنت قوات الجيش وكتائب المقاومة، من فكّ الحصار عن كتيبة المهندسين في أم درمان في 16 فبراير الماضي، بعد اختراق السوق القديم. ثم حُرّرت الإذاعة بعد الإطباق عليها من كل جانب، بل وقعت أرتال الدعم السريع، في فخّ محكم، نصبته المسيّرات الإيرانية، على الأرجح، فسقط المئات من أفراد الميليشيا في "طريق الموت"، عندما حاولوا الانسحاب بشكل جماعي من مقرّ الإذاعة والمناطق المحيطة بها. لكن القرار الاستراتيجي الذي اتخذه البرهان قبل عامين، وكان له أبلغ الأثر في قلب الأوضاع رأساً على عقب، هو دعم أوكرانيا سراً بالسلاح عندما اجتاحها الجيش الروسي بحسب وال ستريت جورنال، على الرغم من العلاقات الجيدة مع روسيا. لذا، عندما نشبت الحرب مع الدعم السريع، أرسل الرئيس الأوكراني زيلينسكي قوات خاصة مع ضباط استخبارات لمساعدة الجيش السوداني في الخرطوم، ولمقاتلة مرتزقة فاغنر الروسية، وكان هذا مفيداً للغاية، إذ كان الجنود الأوكرانيون هم الوحيدون في الميدان ممن يستعملون المناظير الليلية، ودرّبوا السودانيين على استعمال المسيّرات، ووفّروا لهم بعض المسيّرات التركية من نوع بيرقدار. والأهم أنهم أخرجوا البرهان من مقرّه المحاصر في الخرطوم، فالتقى زيلينسكي في إيرلندا، ليشكره على صنيعه.

بداية الحسم العسكري؟

من الناحية العسكرية، فإن السيطرة على كامل أم درمان، سيتيح للجيش والقوات الرديفة الإطباق على قوات الدعم السريع المتحصّنة في الخرطوم وخرطوم بحري، فلا يبقى أمامها إلا الاستسلام أو تكرار محاولة الفرار التي وقعت قرب الإذاعة. وسيكون لتحرير العاصمة المثلّثة، وقع كبير على معنويات قوات الدعم السريع، في كافة الجبهات، كما أن آثاره السياسية ستكون أشدّ إيلاماً، لأن من يسيطر على العاصمة، تعظم شرعيته السياسية في الداخل والخارج، وتتضاءل الأحجام السياسية، لحميدتي والمتحالفين معه ضمناً من القوى المدنية، التي تخوض معركتها الإعلامية والسياسية، على قاعدة رفض الحرب، والتشكيك بقدرة الجيش على مقارعة الدعم السريع. وعلى هذا، كل إنجاز عسكري للجيش، هو ضربة سياسية للطامحين بتغيير النظام السياسي من جذوره، وتفكيك الجيش نفسه، وكل الأجهزة الأمنية، وإعادة تشكيلها وفق قواعد ورؤى مختلفة. وكأن انتصار الجيش هو إعادة إنتاج النظام القديم وقوامه الجيش، وهو ما كان مفترضاً أنه سقط بالثورة الشعبية أواخر عام 2018.

وفي واقع الأمر، أخطأت القوى الثورية المدنية في رهانها على هزيمة الجيش وتغلّب قوات الدعم، من أجل صياغة جيش جديد ودولة جديدة، أو السودان الجديد. وهذا الرهان على حميدتي، يرجع إلى عدة أسباب، بغضّ النظر عما يقال عن ارتباطات خارجية لقيادة الميليشيا، تتقاطع مع الحراك المدني، وأبرزها أن حميدتي جزء من النظام السابق، ومقتدر مالياً وعسكرياً، ومؤهّل لضرب الجيش وتفكيكه، بحكم دوره السابق كحارس لأمن النظام، وانتشاره في المواقع الحيوية والاستراتيجية في العاصمة نفسها. وقد صدقت الرهانات منذ الأشهر الأولى لانطلاق الحرب الضروس؛ إذ إن لجوء الدولة السودانية منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1955، إلى القبائل العربية، لا سيما في دارفور وكردفان، في مواجهة حركات التمرد، في الجنوب والغرب، يستبطن الحاجة المزمنة إلى الجنود المشاة في الميدان، فبلد كبير مثل السودان (أكثر من مليون و800 ألف كلم مربع)، وشديد التنوّع عرقياً وثقافياً ودينياً، لا يكفيه جيش احترافي محدود العدد. وإذا كان البشير قد استعان بالجنجويد في دارفور عام 2003، ثم بقوات الدعم السريع للحفاظ على وحدة البلاد، من أخطر حركة تمرد بعد انفصال الجنوب، فإن ثورة عام 2019، فاقمت الحاجة إلى هذه القوات، للتصدي والقمع.

أما سقوط الرهان على الدعم السريع، مطيّة للتغيير في السودان، فسيعيد عقارب الساعة إلى الوراء. فما ارتكبته قوات الميليشيا في ولايات السودان، من نهب واغتصاب، أحيا في السودانيين ارتباطهم بالجيش كمؤسسة ضامنة للأمن والاستقرار، بغضّ النظر عمن يقود البلاد. 

 

أعلى