ماذا ينتظر السودان؟

تموج الساحة السياسية بالسودان بكثير من التداعيات، منها التقدم العسكري الذي حققته مليشيا الدعم السريع، وكذلك الحراك السياسي الذي يقوده ما يعرف بالتيار الدمقراطي الموالي لحميدتي، والسؤال الذي يطرح نفسه كيف حقق الدعم السريع تلك النجاحات وما هو مخرج السودان م


تشهد الحرب في السودان الدائرة منذ أبريل العام  الماضي، تحوّلات خطيرة في مسار المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع. ففي الأشهر الأخيرة من العام المنصرم، تهاوت حاميات الجيش في إقليم درافور ما عدا التي في ولاية شمال دافور وعاصمتها الفاشر، بعد سقوط الولايات الأربع الأخرى، وهي جنوب دارفور (عاصمتها نيالا)، وولاية غرب دافور (عاصمتها الجنينية)، وولاية شرق دافور (عاصمتها الضعين)، وولاية وسط دارفور (عاصمتها زالنجي). وانتشر "الدعّامة" (أفراد الدعم السريع) في مختلف أنحاء العاصمة المثلثة، مع السيطرة على معظم المرافق الحيوية السيادية والعسكرية ما عدا جيوب محاصرة ينتشر فيها "الجيّاشة" (أفراد الجيش)، لا سيما القيادة العامة للقوات المسلحة، وقاعدة سلاح المدرعات. وهذا الوضع المتدهور بشكل متسارع هو الذي أجبر رئيس مجلس السيادة اللواء عبد الفتاح البرهان، إلى الخروج من الخرطوم، في أغسطس الماضي، ونقل الحكومة الإدارية إلى بورتسودان عاصمة ولاية البحر الأحمر، على بُعد 675 كلم من الخرطوم. وجاءت الضربة الأقصى عندما سقطت ولاية الجزيرة الغنية بمشروعها الزراعي الضخم، في ديسمبر الماضي بعد قتال قصير، وانسحاب غير مفهوم للفرقة الأولى مشاة من ود مدني عاصمة الولاية، وهو ما جعل الموقف الاستراتيجي العام يميل بقوة إلى جانب قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي". فالطريق باتت مفتوحة أمامه نحو بورتسودان، وما عليه سوى اجتياح ولايات سنار والقضارف وكسلا، فيُسدل الستار على أغرب تمرد عسكري في تاريخ السودان.

وترجع الغرابة إلى أن الدولة هي التي أنشأت رسمياً قوات الدعم السريع عام 2013، بعد تلطّخ سمعة الجنجويد بارتكاباتها في دارفور بين عامي 2003 و2005، إبّان قتال حركات التمرّد. وحميدتي الذي احتل مكانة ابن عمه الزعيم الفبلي موسى هلال، على رأس الميليشيا القبلية، بات الطفل المدلّل لدى أجهزة الدولة في النظام السابق، فنال مناصب عسكرية من دون انتساب إلى أيّ مدرسة حربية أو انتماء إلى أيّ تشكيلات نظامية. وقائد الجيش نفسه عبد الفتاح البرهان هو الذي رقّى حميدتي إلى رتبة فريق أول في 13 أبريل 2019 أي بعد يومين من خلع الرئيس عمر البشير كي يتولّى منصب نائب رئيس المجلس السيادي في الفترة الانتقالية المقرّرة عقب الثورة الشعبية في ديسمبر 2018، تمهيداً لتأسيس الحكم المدني من دون تدخّل الجيش في الحياة السياسية منذ الاستقلال عام 1956.

وقوات الدعم السريع هي التي تولّت بشكل أساسي فضّ اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019، وهي المجزرة التي سقط فيها المئات من المتظاهرين. وشارك حميدتي في الانقلاب الذي قام به اللواء البرهان على حكومة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021. وحميدتي الذي انقلب على البشير، لم يكن صعباً عليه فيما بعد الانقلاب على شريكه في المجلس السيادي. ولما خضع المكوّن العسكري للضغوط الدولية المناهضة للانقلاب، توصّل الأفرقاء السودانيون عسكريين (الجيش والدعم السريع) ومدنيين (أحزاب إعلان الحرية والتغيير) إلى التوقيع على الاتفاق السياسي الإطاري، في ديسمبر 2022. وكان من المفترض التوقيع على الاتفاق النهائي قبل أيام من اندلاع الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع في أبريل الماضي. ويتركّز الخلاف بين الطرفين على شروط دمج الدعم السريع بالقوات النظامية. فاللواء البرهان ومعه القيادة العسكرية، تريد تذويب الدعم السريع بالجيش، وإلحاق شركاتها التجارية لا سيما فيما يخصّ مناجم الذهب في دارفور بوزارة المالية، فيما حاول حميدتي تأخير عملية الدمج عشر سنوات، وأن يتساوي ضباط الدعم السريع بنظرائهم في الجيش.

 

ما زاد من صعوبة مهمة الجيش في حماية المدنيين، أن التيار المدني الثوري الذي بات شريك المكوّن العسكري في الفترة الانتقالية، يراهن على قوات الدعم السريع، لإسقاط الجيش الحالي، باعتبار أنه من نتائج النظام السابق، الإسلامي بتوجهاته العامة

الموازنة بين الجيشين

كيف تغلّب حميدتي على البرهان، حتى الآن في أقل تقدير؟ الجواب ليس صعباً، بالنظر إلى الإجراءات العسكرية التي اتخذها النظام السابق لحماية نفسه من حركات التمرّد في الأطراف، كما هو حال كل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، إذ استعانت كلها بالميليشيات القبلية ضدّ التمردات المسلحة، باعتبار الظروف القتالية الصعبة في الأماكن النائية المعقّدة جغرافياً وقبلياً، والتي لا تصلح لمناورات الجيوش النظامية، وهي مثالية لحرب العصابات، فكان الدواء من جنس الداء. وعندما تداعى النظام أواخر العام 2018، ازداد الاعتماد على قوات الدعم السريع، كقوات أساسية، لحماية العاصمة نفسها من الاضطرابات الشعبية. ومع سقوط البشير، ارتقت مكانة الدعم السريع وقائدها، فأصبحت موازية للقوات النظامية، وانتشر أفرادها في كل المواقع العسكرية والسياسية الحساسة في الخرطوم، جنباً إلى جنب، مع أفراد الجيش، ما عدا سلاح المدرعات، وهو الموقع الذي ما يزال العقبة الأخيرة أمام زحف الدعم السريع لإسقاط القيادة العامة للقوات المسلحة، وبقية العاصمة.

استغلّ حميدتي موقعه الجديد، فزاد من نسبة التطويع في صفوف قواته، حتى ناهز عديدها 100 ألف فرد. وهم يشكّلون قوات خفيفة، تجيد الكرّ والفرّ، وحرب الشوارع، ويحظى أفرادها بمميزات تتجاوز ما يحصل عليه الجندي النظامي، لجهة الرواتب، من جهة، والغنائم التي يحصل عليها في أرض المعركة، دون أيّ وازع. وهذه الأفضليات يفتقر إليها الجيش النظامي، فقوته الضاربة في سلاح الطيران والمدرعات، ولا يمتلك المشاة خبرة كافية في حرب العصابات أو حرب المدن. يُضاف إلى ذلك، لجوء "الدعّامة" إلى أساليب قذرة، من نحو استباحة الحواضن الشعبية لخصومهم. وما فعلوه في إقليم دارفور قبل 20 عاماً تحت عنوان الجنجويد، ارتكبوه مجدداً في الإقليم العام الماضي، وفي الخرطوم وخرطوم بحري وأم درمان، وفي ود مدني، وفي كلّ قرية وصلوا إليها. وهذا التكتيك المدمر، من سلب ونهب واغتصاب وقتل عشوائي، يزعزع النسيج الاجتماعي العام، ويُضعف تماسك الجيش الذي ينتمي أفراده إلى التجمعات المتعرّضة للاعتداءات المنهجية من قِبل خصومهم.

الاستغلال السياسي

ما زاد من صعوبة مهمة الجيش في حماية المدنيين، أن التيار المدني الثوري الذي بات شريك المكوّن العسكري في الفترة الانتقالية، يراهن على قوات الدعم السريع، لإسقاط الجيش الحالي، باعتبار أنه من نتائج النظام السابق، الإسلامي بتوجهاته العامة، أو "الكيزان" بالتعبير الشعبي، و"الفلول" بالتعبير السياسي. وفي الوقت نفسه، يقود حملة منهجية لإدانة أيّ محاولة لإنشاء مفاومة شعبية لحماية المدنيين من اعتداءات ميليشيات حميدتي. وكان سقوط ولاية الجزيرة، منعطفاً حاسماً لانكشاف المواقف، إذ سارع وفد ﺗﻨﺴﯿﻘﯿﺔ اﻟﻘﻮى اﻟﺪﯾﻤﻘﺮاطﯿﺔ اﻟﻤﺪﻧﯿﺔ (ﺗﻘﺪم) بقيادة حمدوك، إلى توقيع إﻋﻼن أدﯾﺲ أﺑﺎﺑﺎ مع قائد ﻗﻮات اﻟﺪﻋﻢ اﻟﺴﺮيع، على الرغم من الأهوال التي ارتكبتها قوات حميدتي في الجزيرة وسواها، في رهان ساذج على تشكيل ميليشاوي مسلح ليكون راعياً لحكم مدني جديد، وإقامة ﺟﯿﺶ واﺣﺪ ﻣﮭﻨﻲ وﻗﻮﻣﻲ ﯾﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﻛﻞّ اﻟﺴـﻮداﻧﯿﯿﻦ وﻓﻘﺎً ﻟﻤﻌﯿﺎر اﻟﺘﻌﺪاد اﻟﺴـﻜﺎﻧﻲ، وﯾﺨﻀﻊ ﻟﻠﺴﻠﻄﺔ اﻟﻤﺪﻧﯿﺔ وﯾﺪرك واﺟﺒﺎﺗﮫ وﻣﮭﺎﻣﮫ وﻓﻘًﺎ ﻟﻠﺪﺳﺘﻮر، ﻟوضع ﺣدّ ﻗﺎطع ﻟﻈﺎھﺮة ﺗﻌﺪد اﻟﺠﯿﻮش (اﻟﻘﻮات اﻟﻤﺴـــﻠﺤﺔ، اﻟﺪﻋﻢ اﻟﺴـــﺮﯾﻊ، اﻟﺤﺮﻛﺎت اﻟﻤﺴـــﻠﺤﺔ، اﻟﻤﻠﯿﺸـــﯿﺎت) ﺧﺎرج إطﺎر اﻟﺠﯿﺶ اﻟﻤﮭﻨﻲ اﻟﻘﻮﻣﻲ اﻟﻮاﺣﺪ، ﻣﻊ ﺿــﻤﺎن ﺧﺮوج اﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ اﻷﻣﻨﯿﺔ (اﻟﻘﻮات اﻟﻤﺴــﻠﺤﺔ واﻟﺪﻋﻢ اﻟﺴــﺮﯾﻊ واﻟﺸــﺮطﺔ وﺟﮭﺎز اﻟﻤﺨﺎﺑﺮات) ﻣﻦ اﻟﻨﺸــﺎط اﻟﺴــﯿﺎﺳــﻲ واﻻﻗﺘﺼــﺎدي وﻗﺒﻮﻟﮭﻢﺑﺎﻟﻤﺒﺎدئ اﻟﻤﺬﻛﻮرة، وﺗﻌﮭﺪھﻢ ﺑﻤﺴـﺎﻧﺪة ﻋﻤﻠﯿﺎت اﻻﻧﺘﻘﺎل اﻟﻤﺪﻧﻲ اﻟﺪﯾﻤﻘﺮاطﻲ واﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ اﺳـﺘﺪاﻣﺔ واﺳــــﺘﻘﺮار اﻟﻨﻈـﺎم اﻟـﺪﯾﻤﻘﺮاطﻲ، وﺗﻮﻓﯿﺮ اﻟﻀــــﻤـﺎﻧـﺎت اﻟﻤﻄﻠﻮﺑـﺔ ﻟﻘﯿـﺎم ﺣﻜﻮﻣـﺔﻻﺳــــﺘﻜﻤـﺎل ﻣﮭـﺎم اﻻﻧﺘﻘﺎل واﻟﺘﺄﺳـﯿﺲ اﻟﺪﺳـﺘﻮري واﻟﺴـﯿﺎﺳـﻲ واﻹﺻـﻼح اﻹداري واﻟﻤﺎﻟﻲ واﻻﻗﺘﺼـﺎدي، وإزاﻟﺔ آﺛﺎر وإﻋﺎدة ﺑﻨﺎء ﻣﺎ دﻣﺮﺗﮫ اﻟﺤﺮب، كما جاء في نص الإعلان. وهي نظرياً من أوّليات الحكم المدني، لكنها عملياً لا قيمة لها وسط الحريق العظيم الذي لا يوفّر حجراً ولا بشراً.

وقّع المكوّن المدني مع حميدتي، إعلان المبادئ، ويطالب البرهان بالموافقة على الإعلان نفسه، في مساواة فجة بين الجيش النظامي والميليشيا الفوضوية التي حرقت العاصمة ودمرت معالمها من وزارات وإدارات وجامعات ومتاحف ومعارض وأسواق، فضلاً عن الثكنات والمصانع الحربية والطائرات المدتية والعسكرية، وكلّ شيء يتعلق ببنية الدولة المركزية والذاكرة الجمعية السودانية.

من أبرز ما ورد في إعلان أديس أبابا، ضرورة اﻟﺘﻌﺎون اﻟﺘﺎم ﻣﻊ ﻟﺠﻨﺔ اﻟﺘﺤﻘﯿﻖ اﻟﺘﻲﺷـﻜﻠﮭﺎ ﻣﺠﻠﺲ ﺣﻘﻮق اﻹﻧﺴـﺎن ﺑﻤﺎ ﯾﻀـﻤﻦ ﻛﺸـﻒ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ وإﻧﺼﺎف اﻟﻀﺤﺎﯾﺎ وﻣﺤﺎﺳﺒﺔ اﻟﻤﻨﺘﮭﻜﯿﻦ، في غمار الحرب الدائرة الشرسة الآن، والتي يُجمع فيها المراقبون المحليون والدوليون على تورّط قوات حميدتي في الفظائع في كل مكان دخلت إليه. فإن تغلّب رعاة الإبل على دهاقنة الجيش النظامي، وباتت البلاد تحت رحمته، فمن يجرؤ على محاسبته؟ وأيّ حكم مدني ديمقراطي سينشأ؟ 

أعلى