المصالح الإقليمية والدولية من شأنها أن توسع دائرة الخلاف، وتُسّعر الحرب داخل السودان؛ لأنها متعارضة بصورة يكاد يستحيل معها أن تتوافق، أو تلتقي في منتصف الطريق
ظاهر المشكلة في السودان أنها حربًا بين المؤسسة العسكرية ومليشيا متمردة، هدفها
الوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها.
وهذا التوصيف ليس خطأً صرفًا، ولكنه جزءٌ من الحقيقة التي تعيشها السودان، وليس
الحقيقة كاملة، إذ إن تلك الحقيقة الكاملة تمتد إلى خارج حدود البلاد، إلى بعض
الدول الإقليمية التي ربما يكون لها مصالحها الخاصة تارة، أو تعكس مصالح بعض القوى
الدولية التي تتقاطع مع مصالحها الخاصة تارة أخرى.
وهذه الحقيقية هي التي تجعل المعادلة في السودان تقترب بشدة من المعادلات الصفرية
التي يسعى كل طرف من أطرافها إلى الفوز بالعلامة الكاملة، على حساب خسارة تامة
للطرف الآخر، وهو ما عكسته تصريحات وتوجهات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقائد
قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي).
فالمصالح الإقليمية والدولية من شأنها أن توسع دائرة الخلاف، وتُسّعر الحرب داخل
السودان؛ لأنها متعارضة بصورة يكاد يستحيل معها أن تتوافق، أو تلتقي في منتصف
الطريق؛
لذا تكاد كل محاولات الخروج من دائرة المعارك الدموية الشرسة والجلوس حول طاولات
المفاوضات تفشل فشلًا ذريعًا.
لنعد إلى نقطة البداية في الخلاف الدموي بين البرهان وحميدتي، فبعد سقوط نظام
البشير في صباح الخميس 11 أبريل 2019، توطدت العلاقة بين الرجلين ظاهريًا، خاصة بعد
تشكيل مجلس عسكري لحكم البلاد، والذي ترأسه البرهان وقتها، فيما تم تعيين حميدتي في
منصب نائب رئيس المجلس العسكري.
وفي أكتوبر 2021 أصدر البرهان قرارًا بحل جميع مؤسسات الفترة الانتقالية، والإطاحة
بحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك؛ لتجنب ما وصفه بقيام حرب أهلية، بدعوى أن
القوى السياسية تحرض ضد القوات المسلحة، ودعمه حميدتي حينها. ثم عاد وانتقد هذا
الإجراء وشنع عليه.
|
حميدتي يرغب في الذهاب بعيدًا في تدعيم العلاقة مع روسيا، من خلال المضي
قدمًا في إعطائها صكًا مباشرًا بإقامة قاعدتها العسكرية على سواحل البحر
الأحمر |
وفي 5 ديسمبر 2022 تم الإعلان عن الاتفاق الإطاري، والذي يقتضي تسليم السلطة
الانتقالية إلى سلطة مدنية كاملة دون مشاركة القوات النظامية؛ والنأي بالجيش عن
السياسة وعن ممارسة الأنشطة الاقتصادية والتجارية الاستثمارية؛ ودمج قوات الدعم
السريع وقوات الحركات المسلحة في الجيش وفقًا للترتيبات التي يتم الاتفاق عليها
لاحقًا ضمن خطة إصلاح أمني وعسكري يقود إلى جيش مهني وقومي واحد.
ومن هنا بدأت تطفو على سطح الأحداث المشكلات حيث رأى الدعم السريع أن محاولات دمجه
تعني اغتيال طموحاته، ومن ثم بدأت شرارة المعارك في 15أبريل 2023 بتحركات مفاجئة
نفذتها قوات الدعم السريع في منطقة مروي بالولاية الشمالية للسودان، تمثلت في بناء
سور ومرافق في أرض محاذية لمطار المدينة، مع تمركز لبعض قواتها ووصول إمدادات
عسكرية كثيفة، ما دفع الجيش إلى الانتشار، وأعطى مهلة لقوات الدعم السريع لمغادرة
مروي، معتبرًا أن تلك التحركات الاستراتيجية تمت دون تنسيق مع قيادة الجيش، ومع رفض
قوات الدعم أوامر الجيش بالمغادرة اندلعت المعارك العنيفة بين الطرفين.
هنا يأتي دور بعض الأطراف الإقليمية التي ترى في حميدتي "الفتي الذهبي"، الذي يتربع
على عرش الذهب السوداني، ويملك قوات نافذة في طول البلاد وعرضها والتي لا تخضع حتى
لقانون المؤسسة العسكرية السودانية، ومن ثم ذهبت تضع ثقلها في دعمه ليفوز في
المعادلة الصفرية ليحقق لها مآربها السياسية والاقتصادية على حد السواء.
أطراف أخرى، وبمنظور ومصالح وتوجهات مختلفة، تعول على البرهان "الجنرال العسكري"
الذي يضع ثقته ظاهرًا وباطنًا في الجيش والمؤسسات العسكرية، وهو ما يتلاقى مع
تطلعات ورغبات تلك القوى التي لها مصالحها في بقاء المؤسسة العسكرية على رأس السلطة
والحكم.
هذا الصراع على البقاء والنفوذ، تعدى الحدود الإقليمية، ليتلاقى مع توجهات دولية،
فروسيا الطامحة في العودة بقوة، والفوز بنصيب وافر على الساحة الدولية، تمد نفوذها
إلى مناطق لطالما شهدت فراغًا للقوى، لاسيما في دول إفريقيا جنوب الصحراء، من خلال
ذراعها العسكري المتمثل في مرتزقة فاغنر التي راجت أنباء عن دعمها لحميدتي في صراعه
مع البرهان، وهي القوات التي تجدها حيث تواجد مناجم الذهب والثروة في البلدان
الإفريقية، ومن بينها السودان حيث الذهب الذي يعد سلعة التصدير الأولى في البلاد.
أضف إلى
ذلك أن حميدتي يرغب في الذهاب بعيدًا في تدعيم العلاقة مع روسيا، من خلال المضي
قدمًا في إعطائها صكًا مباشرًا بإقامة قاعدتها العسكرية على سواحل البحر الأحمر،
وهو ما عبر عنه في تصريحاته في زيارته لموسكو في الفترة ما بين 23 فبراير و3 مارس
2022، في بدايات الهجوم الروسي على أوكرانيا.
الولايات المتحدة، كقوى دولية، ليست بعيدة عن رؤية هذه العلاقة وهذا التلاقي بين
حميدتي ومرتزقة فاغنر، ورغبته في فتح المجال لوجود روسي قوي على سواحل البحر
الأحمر؛ لذا فهي تعول أكثر على البرهان في حسم المعركة لصالحه، لإنهاء هذه المغامرة
التي يبدو أنها لم تتدخل فيها بقوة؛ معولة على أذرعها الإقليمية التي يبدو أنها
عاجزة هي الأخرى عن دعم البرهان لحسم المعركة، خاصة بعد انكشاف بعض دعمها العسكري
له.
بقي أن نعرف إلى أين يذهب السودان؟، وما السيناريوهات التي يمكن أن تواجهها
البلاد؟، وكل ذلك فرع من تصور رئيس عن سير المعركة بين المعسكرين.
أحد السيناريوهات استمرار هذه المعارك وهو ما سيضعنا أمام سيناريو الحرب الأهلية،
حيث من المرجح حينها أن يتسع الصراع جغرافيًا، وربما يؤدي ذلك إلى انحيازات مختلفة
للقبائل تبعًا لرؤيتها ومصالحها، وهو ما يعني بصورة واقعية حربًا أهلية مستعرة، وهو
سيناريو يقع في مرحلة وسيطة، في مجال التحقق، من بين السيناريوهات المطروحة.
أما سيناريو حسم المعركة لصالح البرهان، وهو سيناريو قريب من التحقق، بما للقوات
المسلحة من جاهزية ربما تفوق قوات الدعم لاسيما في مجال الطيران، فسيؤدي إلى إلغاء
الاتفاق الإطاري والذهاب إلى صيغة أخرى للحكم يحتفظ فيها المكون العسكري بصلاحيات
واسعة مع وجود مكون مدني كغطاء للحكم العسكري الفعلي، مع دمج ما تبقى من قوات الدعم
في الجيش، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض هذه القوات قد تشكل مع زعيمها "المتمرد"
قوات مناوئة للحكم على أسلوب حرب العصابات.
أما سيناريو حسم المعركة لصالح حميدتي، وهو سيناريو لا يبدو مرجحًا بقوة، فمن ناحية
شكل الحكم فلن يختلف كثيرًا، من حيث وجود مكون مدني يوفر غطاءً للحكم، مع احتفاظ
المكون العسكري بصلاحيات واسعة ونفوذ سياسي واقتصادي واسع، لكن ستبقى المشكلة في
السيطرة على الجيش وقياداته التي لن تقبل بسهولة بقيادة حميدتي الذي يأتي في كل
الأحوال من خارج رحم المؤسسة العسكرية الأم.