الشائع في الخطاب السياسي اللبناني لتشخيص جذور الأزمة، أن الدولة اللبنانية مخطوفة من حزب الله أو هي رهينة لديه. فهل تنهار دولة حزب الله لتبدأ لبنان مرحلة جديدة؟ أم تنهار الدولة فتأخذ الحزب في طريقها؟
ربما يكون لبنان اليوم في أسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990،
بل هي من بين أسوأ الأزمات في العالم منذ عام 1850، بحسب البنك الدولي، وأبرز مظهر
فيها انهيار سعر الليرة بإزاء الدولار من 1500 ليرة للدولار الواحد قبيل الانتفاضة
الشعبية في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 إلى ما يقارب 50 ألف ليرة للدولار الواحد
مطلع هذا العام. لكن الأسوأ منها، أزمة النظام السياسي الذي هو السبب الحقيقي
لانهيار لبنان نقدياً (انهيار العملة الوطنية)، ومالياً (إفلاس الخزينة العامة
وعجزها عن تصحيح رواتب موظفيها وتسيير مؤسساتها وإداراتها، وترتب خسائر بقيمة 72
مليار دولار بما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي لعام 2021)، واقتصادياً
(انكماش حجم الإنتاج المحلي الحقيقي منذ عام 2018 بنسبة 37.3%، وهو يُعد من بين
أسوأ معدلات الانكماش التي شهدها العالم).
ومنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، في تشرين الأول/أكتوبر ومجلس النواب
عاجز - حيث لا أغلبية لأي فريق - عن انتخاب رئيس جديد، على الرغم من انعقاد أكثر من
عشر جلسات لهذه الغاية. ويضاف إلى ذلك رفض القوى المسيحية الرئيسية، أي التيار
الوطني الحر والقوات اللبنانية، انعقاد جلسات الحكومة المستقيلة، والتي تصرّف
الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، مع أن المفروض بها أن تتولى السلطة التنفيذية كاملة في
أثناء الشغور الرئاسي. فالقوى المسيحية المختلفة والمتخاصمة فيما بينها، تتفق على
رفض ما أقرّه اتفاق الطائف عام 1989 من تحويل السلطة التنفيذية من رئاسة الجمهورية
إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. وبما أن البلاد في أمسّ الحاجة إلى قرارات حكومية
لمعالجة الطوارئ المتلاحقة، فإن تعطيل السلطة التنفيذية لأسباب طائفية بحت، هو من
أسوأ سيرورات هذه الأزمة. على أن مركز ثقل التعطيل يقع في عقدة جبران باسيل رئيس
التيار الوطني وصهر الرئيس السابق عون. والمعروف أن باسيل كان الرئيس الظلّ،
والممسك الحقيقي برئاسة الجمهورية على مدى ست سنوات، وهو الذي عرقل تشكيل ميقاتي
حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية في أيار/مايو الماضي، وهدفه التحكم بالمرحلة
الانتقالية وتأجيل انتخاب الرئيس، إلى أن يرسو خيار الأغلبية عليه هو، كرهاً أو
تأييداً. وهو يطمع في أن تتكرّر سابقة تعطيل انتخاب الرئيس لأكثر من سنتين وخمسة
أشهر بتأييد من حزب الله خاصة بين عامي 2014 و2016، إلى أن انعقدت التسوية الرئاسية
أواخر عام 2016، وجيء بحليف الحزب ميشال عون رئيساً. لكن الظروف اليوم مختلفة
كثيراً، وأهمها أن لبنان الغارق في أزمة اقتصادية طاحنة لا يملك ترف التعطيل
والمناورة من أجل مصالح شخصية، كما أن الحزب غير متمسك بباسيل، ولم يمنحه وعداً
بإيصاله إلى قصر بعبدا كما فعل مع ميشال عون، مع العلم أن باسيل ماهر في كسب
الأعداء، بسبب ممارسته للسلطة الحاكمة خلف الستار خلال ولاية عون، فقد نفر منه كثير
من الحلفاء حتى بعض أبرز كوادر الحزب الذي يرأسه، وازداد خصومه نفوراً منه.
|
بعبارة أخرى، انهار "لبنان" حزب الله، ولا يمكن إنقاذه بالوسائل التقليدية،
أي عقد المؤتمرات الدولية وضخّ الدولارات في المصرف المركزي، عن طريق
إيداعات فيه، أو استثمار الأموال الخارجية في المشاريع الحكومية |
لبنان مخطوف
الشائع في الخطاب السياسي اللبناني لتشخيص جذور الأزمة، أن الدولة اللبنانية مخطوفة
من حزب الله أو هي رهينة لديه. فالحزب الذي تأسس قبل 40 عاماً على يد الحرس الثوري
الإيراني إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، تضخمت قوته العسكرية والأمنية، وتشعبت
مؤسساته التربوية والمالية، وشركاته ناشطة في مختلف القطاعات، إلى أن أصبح دويلة
مستقلة داخل الدولة،
بل تخطى هذه المعادلة في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد إيصال قائد الجيش السابق
ميشال عون إلى سدة الرئاسة عام 2016، وحيازته مع حلفائه الأغلبية النيابية عقب
انتخابات عام 2018، كما تمكنه من استمالة بعض خصومه السابقين فيما كان يُعرف بقوى
14 آذار، لا سيما زعيم تيار المستقبل سعد الحريري، و"ترويض" زعماء آخرين، مثل
الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وإلى حدّ ما قائد حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، في
جملة التسوية الرئاسية المنعقدة آنذاك بين ميشال عون وسعد الحريري، وذلك بعد تفاهم
"معراب" الذي جمع أقوى حزبين مسيحيين، هما التيار الوطني الحر بقيادة عون، وحزب
القوات اللبنانية قيادة جعجع، بهدف تعزيز دور المسيحيين في النظام، ومحاولة استرجاع
صلاحيات رئيس الجمهورية التي حدّ منها اتفاق الطائف لعام 1989، عن طريق الضغط على
رئيس الحكومة السُني، وابتزازه في كثير من الأحيان، وتقاسم الحصص الوزارية فيما
بينهما، وكذلك المواقع الإدارية والوظيفية في الدولة. هذا الخليط المعقد من
التفاهمات والتحالفات بين الأضداد، جعلت القوى السياسية المناوئة للحزب، على وفاق
ضمني معه بوساطة التيار الوطني الحر الحليف الوثيق لحزب الله منذ عام 2006 فيما سمي
آنذاك بتفاهم مار مخايل. وبذا، بلغت هيمنة الحزب على الحياة السياسية ذروتها بين
عامي 2016 و2019، حين أصبح نفوذه راجحاً بقوة في رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة،
والحكومة نفسها التي سيطر وحلفاؤه على غالبية المقاعد الوزارية فيها، فيما يسيطر
زعيم حركة أمل نبيه بري تقليدياً على السلطة التشريعية بوصفه رئيس مجلس النواب منذ
عام 1992، وهو الذي يشكّل مع الحزب، ما يُعرف بالثنائي الشيعي، حتى بات يقال إن
الدولة اللبنانية باتت هي الدويلة داخل النطاق الأوسع لدولة حزب الله الممتدة
عملياً إلى العمق السوري شمالاً، مضافاً إليها نفوذه العميق داخل الميليشيات
الموالية لإيران في قلب العراق شرقاً، وصولاً إلى جبال اليمن جنوب الجزيرة العربية.
في تلك المرحلة الدقيقة تحديداً، تشكّلت هرمية السلطة في لبنان على الشكل التالي:
القوات اللبنانية وتيار المستقبل، حليفا التيار الوطني الحر الذي هو الحليف المسيحي
لحزب الله. فأصبح الطرفان الأكثر خصومة للحزب، على علاقة غير مباشرة بمنظومته،
ويدوران في فلكه دون أن يعلنا ذلك صراحة. الحزب على رأس الهرم، ويقع تحته بدرجات
ومراتب حلفاؤه القدامى، والتابعون الجدد له، الخاضعون لأمره. لكن ما إن تمّ الأمر
لحزب الله حتى أتاه النقص سريعاً، فهذه المصفوفة من الحلفاء الأقربين والأبعدين،
والتي تواطأت على تقاسم مغانم الدولة من توظيف لأنصار الأحزاب في أسلاكها ومؤسساتها
حتى ناءت الخزينة بأعباء الرواتب والمخصّصات، وتولي عقود مشاريعها من إنشاء وصيانة
بالتراضي بين المافيا الحاكمة، أودت بلبنان، فدمّرت اقتصاده بتعويم سعر الليرة
بسرعة جنونية منذ عام 2019، وأسقطت مصارفه عندما صرفت الحكومات المتلاحقة ودائع
المودعين الدولار، والموضوعة بتصرف المصرف المركزي، على دعم سعر الليرة منذ عام
1997 دون أي سند نقدي أو مالي أو اقتصادي، وكذلك على دعم الكهرباء الرخيصة التي
تولدها معامل الشركة التابعة للدولة، من دون قدرة على جباية الفواتير إلا جزئياً.
|
فإن
استنزاف أوكرانيا لأي مساعدة ممكنة من الغرب، ومن دول أوروبا خاصة، قضى على
أي أمل برمي حبل النجاة للبنان، على غرار ما كان يحدث في اختناقات مالية
أقل شدة من التي تشهدها البلاد منذ ثلاث سنوات |
انهار لبنان "حزب الله"
بعبارة أخرى، انهار "لبنان" حزب الله، ولا يمكن إنقاذه بالوسائل التقليدية، أي عقد
المؤتمرات الدولية وضخّ الدولارات في المصرف المركزي، عن طريق إيداعات فيه، أو
استثمار الأموال الخارجية في المشاريع الحكومية،
أو تقديم منح نقدية، وقروض ميسرة. فدول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية
السعودية، كانت في الماضي هي التي تتولى تمويل العجز المالي في لبنان. لكن هذا
الدعم توقّف منذ أن استولى الحزب على الدولة بوساطة حلفائه المعلنين والمستترين.
والموقف السعودي الحازم أصبح أشدّ تدريجياً مع تفاقم الدعم الإيراني للحوثيين في
اليمن منذعام 2014 (ويأتي الدعم على أشكاله من حزب الله أيضاً)، وانحياز لبنان
الرسمي إلى إيران في سياساتها الخارجية، لا سيما عدم إدانة الحكومة اللبنانية القصف
الحوثي لمرافق سعودية بالصواريخ والطائرات المسيّرة، وعجزها عن ردع الحملة
الإعلامية المعادية للمملكة في القنوات الإعلامية المملوكة من الحزب أو القريبة
منه، أو ما كان يصدر عن أمين عام الحزب حسن نصر الله في خطاباته التي تبثها قماة
المنار وقنوات لبنانية أخرى، من تهجّم على المملكة ورموزها وسياساتها. إلى ذلك،
تبخرت الآمال بتحرك أوروبي فاعل لمساعدة لبنان، فقد كان الظنّ منعقداً بأن الغرب لن
يترك مسيحيي لبنان من دون فعل أي شيء، إلى أن غزا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
أوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي، واصطفاف الغرب وحلف الناتو على وجه الخصوص مع
كييف، وتقديم عشرات المليارات لها من أجل الصمود والدفاع عن النفس. فلو كانت أوروبا
مرشّحة لمنح لبنان بعض الدعم،
فإن استنزاف أوكرانيا لأي مساعدة ممكنة من الغرب، ومن دول أوروبا خاصة، قضى على أي
أمل برمي حبل النجاة للبنان، على غرار ما كان يحدث في اختناقات مالية أقل شدة من
التي تشهدها البلاد منذ ثلاث سنوات.
وما زاد الأمر تعقيداً، أن حزب الله يدعم نظام بشار الأسد، والنظام في دمشق يخضع
لعقوبات قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا الصادر عن الكونغرس الأميركي أواخر
عام 2019، وهذه العقوبات لها آثار ضارة على لبنان، بحكم التداخل بين لبنان وسوريا،
على أكثر من صعيد، سكانياً (لا سيما مع نزوح ملايين السوريين إلى لبنان منذ اندلاع
الثورة ضد النظام في آذار/مارس عام 2011)، واقتصادياً (إذ اعتاد النظام في سوريا
على استخدام لبنان على مدى عشرات السنين، محطة أساسية لاستيراد البضائع وشراء ما
يحتاجه من مواد بعملته الوطنية بدلاً من العملات الصعبة لا سيما الدولار الأمريكي)،
ونقدياً (حيث يستعمل النظام السوري المصارف في لبنان، حيث يسري قانون السرية
المصرفية، لتهريب أمواله والتهرّب من آثار العقوبات المفروضة عليه). وعملياً، لبنان
هو سبب صمود النظام السوري. حزب الله تدخل عسكرياً لإبعاد المعارضة عن معاقلها
الأساسية. ومخزون الدولار في المصرف المركزي اللبناني يموّل بطريقة غير مباشرة
استيرادات الدولة السورية، إما عبر مرافئ لبنان ومطاره، أو بتهريب المواد المدعومة
من السلطة النقدية في لبنان إلى سوريا. وفوق ذلك، ألقى النظام عبء رعاية الملايين
السوريين على الدول المجاورة لا سيما لبنان، بصفتهم نازحين، لأسباب أمنية أو
اقتصادية. هذا الوضع الصعب لا يستطيع لبنان تحمّله، كما لا يستطيع حزب الله مواجهته
أو التهرب من مسؤوليته المباشرة. ولما كان الحزب يراهن على عودة الولايات المتحدة
إلى مندرجات الاتفاق النووي مع إيران مع بدء الرئيس جو بايدن مهام الرئاسة، مطلع
عام 2021، لتحرير مليارات الدولارات المحجوزة خارج إيران، كما كان يراهن على
التطبيع العربي مع النظام السوري لكسر العقوبات الأمريكية وتعافي الاقتصاد في
لبنان، فإن انحياز إيران إلى روسيا في حربها على أوكرانيا، نسف كل تلك الآمال،
فضلاً عن أن الولايات المتحدة ماضية في ضغوطها على الأسد كي يعود إلى المسار
المرسوم لحل الأزمة عبر القرار الدولي رقم 2254 لعام 2015، والذي ينص على مرحلة
انتقالية وتعديلات دستورية.
وعلى هذا، يمكن القول إن جزءاً كبيراً من أزمة لبنان يرتبط بأزمة الحزب الذي تدخل
في العراق وسوريا واليمن، فعجز عن تحويل المكاسب العسكرية إلى حصائل سياسية راسخة
في البلدان الثلاثة. فقد ظهرت في العراق معارضة شيعية قوية ضد إيران وميليشاتها من
خلال انتفاضة تشرين الأول عام 2019. وفي سوريا، وقفت العوامل الإقليمية أمام إكمال
الأسد نصره على المعارضة. وفي اليمن، فشل الحوثيون في السيطرة على كل البلاد. أما
في لبنان، فالأرض تهتز من تحتهم، وهي منطلقهم وملاذهم.