ظنّ الكثيرين أن استقالة قادة القطاعات
العسكرية الرئيسية في تركيا يعني وجود حالة إرباك سيعاني بسببها رئيس الحكومة
التركية "رجب طيب أردوغان"، لكن سرعان ما تلاشت هذه التخمينات بعد أن
اتخذ "أردوغان" خطوات سريعة لتدارك الأزمة وعين رئيس الدرك "نجدت
أوزال" قائدا لقوات المشاة.
واعتبر محللون أن استقالة القادة العسكريين
الأتراك جاءت في مصلحة "أردوغان" لتسريع وضع قبضته على الجيش و كذلك ضربة موجعة لــ
(إسرائيل) وأيضاً مفاجئة.
وكان رئيس هيئة أركان القوات المسلحة التركية
الجنرال "أسيك كوسانير" وقادة القوات البرية والبحرية قدموا استقالاتهم
في 29 يوليو احتجاجاً على رفض "أردوغان" ترفيع الجنرالات المعتقلين في
السجون بتهمة الإنتماء لمنظمة "أرغنيكون" السرية والمشاركة في مخطط
"المطرقة" الذي كان يستهدف الإطاحة بحكومة "أردوغان" الأولى
عام 2003. ويبلغ عددهم 250 ضابطاً برتبة
عسكرية مختلفة.
وفي كلمته الأخيرة، قال "كوسانير"
إنه من المستحيل بالنسبة له الاستمرار في عمله لأنه غير قادر على الدفاع عن حقوق
قادة عسكريين تم اعتقالهم نتيجة عملية قضائية فاسدة ، على حد وصفه.
واللافت للانتباه أن الاستقالات السابقة جاءت
بعد فترة قليلة من توجيه الادعاء التركي تهم التحريض على الحكومة إلى ستة جنرالات
من الـ 250 المعتقلين .
ويبدو أن حزب العدالة والتنمية الحاكم كان
مستعداً لمثل هذا التطور ، حيث قلّل الرئيس التركي "عبدالله جول" من شأن
تلك الاستقالات ، نافياً وجود أزمة داخل المؤسسة العسكرية .
وأضاف "جول" أن الاستقالات خلقت وضعاً غير عادي
لكنه لا يرقى مع ذلك إلى أزمة ، قائلاً : الأمور تسير طبيعياً ولا فوضى داخل الجيش
ولا فراغ في سلسلة القيادة.
وأوضح أنه بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة
فقد قرر تعيين قائد الدرك الجنرال "نجدت أوزال" قائداً جديداً للقوات
البرية وكلّفه برئاسة الأركان وذلك بعد اجتماع عقده مع "أردوغان".
وبحسب التعامل السائد في الجيش التركي, يتقلّد
منصب رئاسة الأركان العامة قائد القوات البرية بعد انتهاء فترة رئاسة رئيس الأركان
وإحالته على التقاعد أو استقالته, ومن هذا المنطلق عين "أردوغان"
الجنرال "نجدت أوزال" قائداً للقوات البرية ليوم واحد فقط, يتولى بعده
رئاسة الأركان أصالة.
وفسّر محللون تعيين "أوزال" بأنه
بداية اختراق أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم للجيش الذي كان المؤسسة الأقوى
التي تحمي العلمانية .
وسيتقلد "أوزال" منصب رئاسة الأركان
اعتباراً من يوم الأحد الموافق 31 يوليو/تموز الجاري وسيشارك بهذه الصفة في اجتماع
"مجلس الشورى العسكري" الذي سيعقد يوم الاثنين المقبل برئاسة رئيس
الوزراء "رجب طيب أردوغان".
و الجنرال "نجدت أوزال" وهو من
مواليد أنقرة عام 1950 تولى منصب قائد قوات الدرك بقرار من مجلس الشورى العسكري
الذي عقد في أغسطس/آب 2010 ,وبموجب التعامل العسكري أيضاً كان سيتولى منصب رئاسة
الأركان عام 2013 بعد انتهاء ولاية الجنرال "كوشانر".
ولعل تصريحات "أردوغان" تدعم صحة ما
سبق، فقد أكد أن قائد قوات الأمن الجنرال "نجدت أوزال" هو القائد الجديد
للقوات البرية والقائم بأعمال نائب رئيس هيئة الأركان ، وفيما أشار إلى أنه يريد
الإسراع في تحقيق الاستقرار في المؤسسة العسكرية، فإنه أوضح أن المجلس العسكري
الذي يجتمع مرتين سنويا لتحديد التعيينات الرئيسية سيعقد كما هو مقرر في مطلع
أغسطس ، الأمر الذي بعث برسالة للجميع مفادها أنه يسيطر على الأمور تماماً .
ويبدو أن التطورات منذ وصول حزب العدالة
والتنمية للحكم في 2002 تعطي مزيداً من الثقة "لأردوغان" في تحدي
المعسكر العلماني أكثر وأكثر .
فمعروف أن العلاقات بين الجيش العلماني وحكومة
حزب العدالة والتنمية التي يتزعمها "أردوغان" تشهد توترا منذ توليه
السلطة في عام 2002 بسبب انعدام ثقة الجيش في الجذور الإسلامية للحزب ، إضافة إلى
قيام "أردوغان" بإنهاء سيطرة الجيش على الحكم وذلك من خلال سلسلة من الإصلاحات
التي تهدف إلى زيادة فرص تركيا للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.
وبدأ تراجع نفوذ جنرالات الجيش التركى بشكل
واضح في 2010 بعد الكشف عن مؤامرتي "أرجينيكون و"بليوز".
ورغم أن "أردوغان" لم يحقق أغلبية
الثلثين في انتخابات يونيو الماضي لتغيير الدستور التركي، إلا أنه أعلن مراراً أن
اللباس أصبح ضيقاً جداً على تركيا في إشارة إلى أن الدستور الحالي الذي أقره الجيش
عام 1982 بعد انقلابه على الحكومة المدنية في 1980 لم يعد يناسب طموحاته في أن
تلعب بلاده دوراً إقليمياً وعالمياً أكبر ولذاً يتوقع أن ينجح في النهاية في التحالف
مع المستقلين لوضع دستور جديد بعد أن نجح في تعديل حوالي 100 من أصل 170 بنداً في
الدستور الحالي منذ وصوله للسلطة في عام 2002 .
وفي حال تحقق هذا، فإن تركيا تكون حسمت نهائياً
معادلة الاختيار بين مرحلة الانقلابات وتاريخها الأسود التي قادها الجنرال "كنعان
إيفرين" عام 1980 حينما تم إعدام مئات النشطاء السياسيين وحظر الأحزاب
السياسية وبين مرحلة التخلص من سيطرة النظام العسكري التي بدأها "أردوغان"
بما يؤدي في النهاية إلى حسم الصراع الدائر منذ سنوات بين العسكر والمدنيين لصالح
الحكم المدني.
ومنذ عام 1960م، أطاح الجيش التركي بأربع
حكومات من بينها عام 1997م، حكومة الإسلامي الراحل "نجم الدين أربكان"،
المرشد الروحي لرئيس الوزراء الحالي.
وبصفة عامة ، فإن "أردوغان" وبسياسة
ذكية جداً نجح في تحقيق خطوات ثابتة على طريق أسلمة تركيا واختراق مؤسسات المعسكر
العلماني في الجيش والقضاء والجامعات رغم أن الظاهر على السطح هو أنه يلبي فقط
متطلبات الإصلاح والانضمام للاتحاد الأوروبي .
وجاءت استقالة رئيس هيئة أركان القوات المسلحة
الجنرال "أسيك كوسانير" وقادة القوات البرية والبحرية لتتوج نجاحاته في
هذا الصدد ، وهو الأمر الذي من شأنه أن يثير رعب (إسرائيل) التي كانت تراهن على
المعسكر العلماني للتخلص من عدوها اللدود "أردوغان".