• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
آراء وتأملات في فقه الزكاة3

آراء وتأملات في فقه الزكاة3

تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مفهوم الزكاة ، ثم عرض أنواع الأموال التي تجب زكاتها ، بعد تناوله للمعنى اللغوي لكلمة (المال) ، ثم عرض ستة ضوابط تحدد صفة المال الذي تجب فيه الزكاة ، وفي هذه الحلقة يتناول بعض التفصيلات .

- البيان-  زكاة الأنشطة الزراعية : يمثل القطاع الزراعي أحد المرتكزات الأساسية للنشاط الاقتصادي ، فالثروة الزراعية من أهم مصادر الدخل الذي يعتمد عليه مخططو التنمية الاقتصادية في وضع الأسس والبرامج الخاصة بتحقيق النمو الاقتصادي .

لقد توسعت الأنشطة الزراعية ، فظهرت منتجات زراعية تحقق دخلاً أكبر ، مثل : الخضروات ، والفواكه والزهور ، ويعود ذلك التنوع والتوسع إلى استحداث وسائل وأنظمة فعالة في الإنتاج والتخزين والتسويق .

ويتكون الإنتاج الزراعي من قطاعات رئيسة ، هي :

1- إنتاج الخضروات .

2- إنتاج المحاصيل الحقلية .

3- إنتاج الفاكهة .

إن ذلك التوسع والتنوع في الإنتاج الزراعي وتغير أساليب وأشكال التنظيم الإداري للمزارع من حيث الملكية والتخصص الزراعي يستدعي دراسة أحكام الزكاة فيما يتعلق بما استجد من منتجات ، وبخاصة أن فقهاء المسلمين قد اختلفوا في وجوب الزكاة لأنواع من المنتجات الزراعية ، فمنهم من أوجب الزكاة في كل ما تنتجه الأرض ، ومنهم من قصره على أنواع معينة واستثنى بقية الأنواع ، وكل فريق يستند في رأيه إلى نصوص وقواعد شرعية ، وهناك منتجات زراعية تحتاج إلى دراسة حكم الزكاة فيها على ضوء الواقع المعاصر ، مثل الخضروات والزهور،   لا سيما وهي تحقق الآن عائداً اقتصاديّاً عالياً .

سبب الخلاف : إن سبب اختلاف العلماء حول زكاة المنتجات الزراعية يعود إلى الاختلاف على مناط زكاة المنتجات الزراعية ، فهل مناط الزكاة هو الأرض ، أو الزرع ، أو مجموعهما ؟ .

 فجمهور الفقهاء يقول : إنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة ، أي : الزروع ، أما الإمام (أبو حنيفة) فذهب إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب ، وهو الأرض ، أما (محمد بن رشد القرطبي) فيرى أنه حق لمجموعهما ، أي : للأرض   والزرع [1] .

تترتب على هذا الاختلاف في النظر في مناط الزكاة أحكام شرعية ، مثل : حكم ضياع الزكاة وهلاك بعض المال قبل الإخراج ، أو موت المكلف الذي لم يخرج الزكاة ، أو عند بيع المنتج الزراعي وقد وجبت فيه الزكاة ، فعلى من تقع الزكاة ، على البائع أم على المشتري والوارث ؟ ، وكذلك في حالة الهبة ، هل هي على الواهب أو الموهوب له ، أما ما تجب فيه الزكاة من الإنتاج النباتي فقد اتفق العلماء على وجوب الزكاة في أربعة أصناف ، من الحبوب : الحنطة ، والشعير ، ومن الثمر : التمر والزبيب [2].

إن السبب في الاختلاف حول زكاة المنتجات النباتية يعود أولاً إلى جنس النبات ، ووفقاً لذلك : فقد قصر بعضهم الزكاة على الأصناف الأربعة السابقة ، وقال بهذا ( ابن أبي ليلى) ، و (سفيان الثوري) ، و (ابن المبارك) [3] ، ومنهم من أوجب الزكاة في جميع المنتجات النباتية المدخرة المقتاتة ، وهذا هو قول (مالك) ،   و (الشافعي) ، ومنهم من أوجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ، ما عدا   الحشيش والحطب والقصب ، أخذ بهذا الرأي (أبو حنيفة) [4] .

علة الاختلاف : وعلة هذا الاختلاف يرجع إلى متعلق الزكاة : هل هو فقط   للأصناف الأربعة بعينها ، أو إنه يتعدى إلى غيرها إذا وُجدت العلة فيها ؟ .

ولهذا : فمن قصر العلة على الأعيان فقد قصر الزكاة على الأصناف الأربعة ،ومن قال بأن العلة هي الاقتيات ، فقد أوجب الزكاة في جميع الأشياء المقتاتة ، ولكن من اعتبر أن العلة ليست الاقتيات وإنما متعلق الزكاة هو بالأرض ، فقد أوجب الزكاة في جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع ، مثل : الحشيش ، والحطب ، والقصب ، وقد خالف بهذا المنهج القياسي ، وأخذ بعموم اللفظ مستشهداً بقول الرسول : (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريّاً العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) [5]، واعتبر حرف (ما) الوارد في الحديث بمعنى الذي ، و (الذي) من ألفاظ العموم .

وقوله (تعالى) : { وَهُوَ الَذِي أََنشَأََ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام : 141] .

أما من أخذ بالقياس وجعل العلة الاقتيات : فقد فهم من هذا العموم ومن (الزكاة) أنما قصد منها سد الخلة ، وذلك لا يكون غالباً إلا فيما هو قوت ، أما من غلّب العموم فإنه  يوجبها قياساً على جميع ما تخرجه الأرض إلا ما أخرجه الإجماع [6] .

وقد أدى ذلك إلى عدم إيجاب الزكاة في الخضروات ؛ بحكم أنها غير مقتاتة ممن يرى أن علة الزكاة هو الاقتيات ، وبالتالي : فإن ما تجري به الفتوى في الغالب : عدم وجوب الزكاة في الخضروات والفاكهة ، علماً أن زراعة الخضروات والفاكهة والزهور في هذا العصر أصبحت من الأنشطة الزراعية ذات العائد الاقتصادي الجيد ، بل إنها تفوق تلك المنتجات النباتية مما يقتات به مثل الحبوب .. كما أن المسقطين لزكاة الخضروات يحتجون زيادة على الأخذ بعلة الاقتيات بعدة أحاديث .

وجوب زكاة كل ما يخرج من الأرض : إن واقع الأنشطة الزراعية والمتعلقة بإنتاج الخضروات والفاكهة والزهور حيث أصبحت من الأنشطة الزراعية النباتية المهمة يستوجب دراسة حجج المسقطين للزكاة عن هذه الأنشطة الزراعية ، وتبني وجهة نظر الإمام أبي حنيفة ، الذي يوجب الزكاة في جميع ما يخرج من الأرض ؛ حيث إن هذا الرأي هو الرأي المناسب الذي يتفق مع روح الشريعة ومقاصدها ، ولهذا : أرى الأخذ برأي الإمام أبي حنيفة بوجوب الزكاة على جميع ما يخرج من الأرض ، لعدة أسباب :

1- أن أدلة المسقطين للخضروات يعتورها الضعف ، فلا يجوز العدول عن أصل وجوب زكاة الزروع والأخذ بأحاديث ضعيفة [7] .

2- أن التغير الحاصل في أساليب وطرق الزراعة فيما يتعلق بزراعة الخضروات والفاكهة والزهور ، والتقدم في أساليب التخزين .. أتاح للمنتجات الخضرية فرصة إطالة عمر الاستفادة منها ، مع التطور في وسائل النقل بعيداً عن مراكز الإنتاج ؛ مما جعل هذا النوع من النشاط أكبر فائدة للمزارعين من زراعة الحبوب ، ولهذا : نجد أن الدول الغنية تعمد إلى تشجيع زراعة الحبوب من خلال شرائها منهم بأسعار أعلى من أسعار منتجات الخضر ؛ بقصد توفير احتياجات الناس من الحبوب ، وعلى ضوء هذه الحقيقة : فإن قواعد الشريعة وأصولها تقتضي عدم استثنائها حتى تتحقق عدالة توزيع المال وفق مقتضى القاعدة التي حددها الله في قوله (تعالى) : { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ } [الحشر : 7] .

3- أن إنتاج الخضراوات في الماضي لم يكن يُهدف منه إلى تحقيق الثروة والغنى ، وإنما كان زراعتها بقصد الاستهلاك العائلي ، بعكس ما هو حاصل في هذا العصر ، حيث أصبحت من المحاصيل الزراعية ذات المردود الاقتصادي الجيد .

تساؤل في محله : إن السؤال الذي قد يطرأ على ذهن القارئ هو : لماذا نوسع مجال أخذ الزكاة ، ولا نكتفي بما ورد فيه النص وعدم الخروج على ما ذهب إليه جمهور السلف ؟ .

إن الإجابة على هذا التساؤل تندرج ضمن فهم أهداف الإسلام بوصفه ديانة وتنظيماً لأحوال الناس ، فمن المعروف أن من مقاصد الإسلام : صيانة النفس والعرض ، وأن من مستلزمات ذلك : إشباع حاجات الفرد من خلال تحقيق التكافل الاجتماعي ، ولتحقيق ذلك فقد شرعت الزكاة ، ولم يترك الله (سبحانه) للناس تحديد مَن تٍدفع إليه الزكاة ، بل حدد مصارفها ؛ بقصد تحقيق الغاية التي من أجلها جعل الله الزكاة ركناً من أركان الإسلام ، وإن من مقتضيات تحقيق ذلك : وجوب شمولية الزكاة لجميع مصادر الدخول الاقتصادية ، وناتج الأرض يعتبر من أهم مصادر تحقيق الثروة ، فاستثناء نوع من الإنتاج بعدم تحقق وجوب الزكاة فيه يظهر عدم عدالة الإسلام (حاشا لله أن يكون الإسلام كذلك) ، بل إن الإسلام قد شمل في أحكامه جميع نواحي الحياة ، وقد حاد الناس عن أحكامه ، إما جهلاً بها ، أو انحرافاً عنها ، بقصدٍ أو بغير قصد ، وبخاصة في هذا العصر الذي أصبحت مقاليد الأمور فيه بأيدي أعداء الإسلام ظاهراً أو باطناً ، فأبعدت الشريعة الإسلامية في كثير من البلدان من أن تحكم الحياة ، وتولى زمام الأمر من يدعو إلى فصل الدين عن الحياة ،   وجعل تنظيم حياة الناس منوطاً بأهواء المضلين عن سبيل الله ومن يرغبون أن تكون الحياة عوجاً .

إن أدلة إيجاب الزكاة على الخضراوات والفاكهة والزهور هي تلك الأدلة التي قام عليها حكم وجوب الزكاة في الخارج من الأرض ، وهي قوله (تعالى) :

{ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ }   [البقرة : 267] ، وقوله (تعالى) : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام : 141] ،   وحديث ابن عمر (رضي الله عنه) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، الذي جاء   فيه : (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريّاً العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف   العشر) [8] ، وحديث جابر (رضي الله عنه) : أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-    يقول : ( فيما سقت الأنهار والغيم العشور ، وفيما سُقي بالسانية نصف العشر ) [9] .

على ضوء ذلك : فما هو النصاب والمقدار الذي تجب فيه الزكاة بالنسبة للخضروات وغيرها من الإنتاج النباتي الذي يرى جمهور الفقهاء عدم وجوب الزكاة فيه ؟ .

قبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من بيان مقدار النصاب والمقدار الذي تجب فيه الزكاة بالنسبة لما أوجب فيه جمهور الفقهاء الزكاة من الناتج النباتي .

إن مقدار النصاب الذي تجب فيه الزكاة هو : بلوغ الإنتاج خمسة أوسق ، وهذا هو قول جمهور العلماء والصحابة إلا مجاهداً وأبا حنيفة ومن تابعه ، فقد أوجبوا الزكاة في قليل ذلك وكثيره ، مستدلين بعموم قول الرسول : (فيما سقت السماء والعيون العشر) باعتبار أنه ليس له حول فلا يعتبر له نصاب [10] .

لكن قول الجمهور أرجح ، كما دلت عليه أحاديث الرسول الصحيحة ، مثل ما رواه البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، وهذا خاص ويجب تقديمه على العموم وعدم اعتبار الحول ؛ لأن اكتمال نمائه يتم باستحصاده لا ببقائه ، واعتبر الحول في غيره ؛ لأنه مظنة الكمال والنماء في سائر الأموال ، والنصاب إنما اعتبر ليبلغ حدّاً يتحمل المواساة منه ؛ فلهذا اعتبر النصاب ؛ حيث إن الصدقة إنما تجب على الأغنياء ، ولا يحصل الغنى بدون تحقق النصاب كسائر الأموال الزكائية [11].

إن السؤال الذي يمكن طرحه بعد أن أخذنا برأي الأحناف في وجوب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض هو : كيف يتم تحديد النصاب بالنسبة لمنتجات الخضروات والفاكهة والزهور .. وغير ذلك من المنتجات النباتية غير المكيلة واليابسة والجافة والرطبة ؟ .

إن أساليب تسويق هذه المنتجات في الوقت المعاصر ، وطرق التخزين والنقل لهذه المنتجات .. يؤدي إلى تكاليف إضافية على الإنتاج ، وإذا أخرجنا الزكاة عيناً من هذه الأصناف من الإنتاج النباتي ففيه ضرر على بيت مال المسلمين ، أما إذا أخذت الزكاة بعد البيع من إجمالي البيع وبدون احتساب تكاليف الشحن والتسويق والتخزين ففيه ضرر على المزكي .

إن الرأي الذي يمكن الأخذ به وفيه تحقيق لمصلحة بيت المال ومصلحة المزكي : أن يتم تحديد الزكاة من خلال تحديد تكلفة الإنتاج للحصة العينية للزكاة منسوبة إلى إجمالي التكاليف مأخوذة من صافي الربح .       ففي هذا الأسلوب تجنب للمحاذير التي أشرت إليها ، فمثلاً : إذا كان هناك مزارع ينتج طماطم ، وكمية الإنتاج بلغت مئة كيلو جرام ، وتكلفة الكيلو جرام الواحد : ريال سعودي واحد ، فإن الزكاة العينية على أساس أن الإنتاج فيه مؤنة وسقي 5% ، فيتم تحديد الزكاة على النحو التالي : مقدار حصة الزكاة العينية هو : 100 × 5% = 5 كيلو جرام .

ومقدار تكلفة حصة الزكاة هو : 5 × 1 = 5 ريالات .

وإذا قدر أن صافي الربح هو 50 ريالاً ، فيتم احتساب الزكاة بقسمة تكلفة إنتاج الحصة العينية وهو خمسة ريالات على إجمالي التكاليف وهو مئة ريال مضروباً في صافي الربح ، أي : = 2 . 5 ريال .

إن افتراضنا للأخذ بهذا الرأي في تحديد وعاء الزكاة للمنتجات النباتية غير المكيلة مقاس على ما قاله الفقهاء في تحديد مقدار النصاب في الحبوب غير المصفاة ، وفي الثمار بعد الجفاف ، يقول ابن قدامة في هذا الخصوص (وتعتبر خمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار ، فلو كان له عشرة أوسق عنباً لا يجيء منه خمسة أوسق زبيباً لم يجب عليه شيء ؛ لأنه حال وجوب الإخراج منه ، فاعتبر النصاب بحاله ، وروى الأثرم عنه : أنه يعتبر نصاب النخل والكرم عنباً ورطباً ، ويؤخذ منه مثل عشر الرطب تمراً ، اختاره أبو بكر ، وهذا محمول على أنه أراد : يؤخذ عشر ما يجيء به منه من التمر إذا بلغ رطبتها خمسة أوسق ؛ لأن إيجاب قدر عشر الرطب من الثمر إيجاب لأكثر من العشر ، وذلك يخالف النص والإجماع فلا يجوز أن يحمل عليه كلام أحمد ولا قول إمام) [12] .

ووجهة القياس : نقصان العنب بعد الجفاف ، والثمر بعد تحوله من الرطب إلى التمر ، وفي الخضروات : فإن قيمتها والاستفادة من الإنتاج لا يتحقق إلا من خلال اتباع أساليب التسويق الحديثة من تخزين وتبريد وتغليف ونقل .. ، وهذه تحتاج إلى تكاليف معينة ؛ مما يؤيد ما طرحناه من اقتراح حول ذلك .

إن تحديد نصاب المنتجات النباتية الذي إذا بلغ الإنتاج هذا المقدار وجبت فيه الزكاة قد حددته أحاديث الرسول ، من ذلك مثلاً قوله : (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، وهو حديث متفق عليه ، ووفقاً له كما يراه جمهور العلماء فإن الزكاة لا تجب في الخارج من الأرض إلا إذا بلغ خمسة أوسق ، وقد خالف أبو حنيفة جمهور العلماء بحيث أوجب الزكاة في قليل ناتج الأرض وكثيره ، مستدلاً بعموم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (فيما سقت السماء والعيون العشر) ، باعتبار أن الناتج من الأرض ليس له حول ، فلا يعتبر له نصاب ، ولكن هناك أحاديث حددت الأنصبة فيما ليس فيه حول ، وإن حديث تحديد النصاب قد خصص عموم الحديث الذي استشهد به الإمام أبو حنيفة ، مثل : التخصيص لسائمة الإبل ، الفضة ، فهذه أموال تجب فيها الزكاة ولم تجب في قليلها ، وإن عدم اعتبار الحول بالنسبة لناتج الأرض بسبب اكتمال نمائه يتم باستحصاده لا ببقائه ، أما في غير ناتج الأرض فقد اعتبر الحول لأنه مظنة لكمال النماء ، والنصاب اعتبر ليبلغ حدّاً يحتمل المواساة فيه[13].

لقد حددت الأحاديث الصحيحة مقدار النصاب في الحبوب والثمار على أساس خمسة أوسق ، وأجمع العلماء على أن الوسق ستون صاعاً ، وخمسة أوسق هي ثلاثمئة صاع ، وهو يعادل 653 كجم [14].

أما تحديد مقدار النصاب للمنتجات التي لا يمكن أن تقدر بالكيل مثل : القطن والزعفران والزهور فقد اختلف في تقديرها على أقوال :

1- على أساس المنتجات غير المكيلة إذا بلغ قيمة الخارج منها قيمة المكيلة .

2- تقدير قيمة غير المكيل بمئتي درهم بنصاب النقود .

3- تقدير قيمته بما يعادل وزنها المكيل ، وهو 653 كجم .

4- وجوب الزكاة فيما ينتج بدون تحديد نصاب ، سواء أكان قليلاً أو كثيراً .. ونحن نأخذ بالرأي الأول[15].

وتواجه محصلي الزكاة أو المكلفين فيما يتعلق بإخراج زكاة المنتجات الزراعية مشكلة تحديد وعاء الزكاة ، وقد أوجبت السنة النبوية بالنسبة للمنتجات المكيلة والقابلة للتخزين مثل : الحبوب والتمر أسلوب تحديد الوعاء ، وذلك بما عرف بـ (الخَرْص) ، حيث يتم بالظن تقدير التمر والزبيب والحبوب الجافة المستخرجة وهي على أشجارها قبل أن تجف ، فقد روى أبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، عن عثمان بن أسيد (رضي الله عنه) : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم) [16]، ولتجنب الخطأ والإضرار بالمزارعين ، فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمراعاة ذلك ، فقد روى ابن حبان والحاكم وأبو عبيد والبيهقي في السنن ، عن سهل ابن أبي خيثمة ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (وإذا خَرَصتم فخذوا ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) [17].

وهناك ظاهرة تتعلق بالمنتجات المكيلة مثل التمور والزبيب ، حيث يتم بيعها قبل جفافها ، مثل : بيع التمر رطباً والزبيب عنباً ، وهذا يحقق دخلاً نقديّاً أكثر مما لو خرص تمراً أو زبيباً ، وإذا جعل نصيب بيت المال بعد اكتمال نضجه وتحوله إلى تمر أو زبيب قد يفوت مصلحة مستحقي الزكاة بهذا ، فإنه يمكن أن يتم الخرص في بداية النضج قبل أن يصبح تمراً أو زبيباً ، ويحدد مقدار نصيب بيت المال عند الجِذاذ النهائي ، ويُرى : كم بيع من الرطب والعنب ؟ ، فما نقص عن مقدار الخرص يحسب نصيب بيت المال بعد خصم تكاليف التسويق ، فمثلاً : لو قدر أنه تم خرص التمر بثلاثين ألف كيلو جرام ، وعند جذاذه أصبح مقداره عشرين ألف كيلو ، بنقص قدره عشرة آلاف كيلو التي تمثل مقدار ما نقص من التمر بعد جفافه دون ما تم بيعه ، وإذا قدر أن ما تم بيعه رطباً قدره خمسة آلاف كيلو ، فإن مقدار الزكاة المقدرة بعد الجذاذ هو عشرون ألفاً مضروباً في 5% ، أي : إن نصيب الزكاة هو ألف كيلو ، وما تم بيعه من نصيب بيت المال رطباً يساوي خمسة آلاف مضروباً في 5% ، يساوي مئتين وخمسين كيلو ، فإذا كان سعر بيع الكيلو أربعة ريالات ، فإن إجمالي بيع حصة الزكاة من الرطب هو : 250 × 4 = 1000 ريال ، يخصم منها حصة بيت المال في التسويق ، فإذا كانت تكلفة التسويق 20% من قيمة البيع : فإن إجمالي تكاليف التسويق الخاص بنصيب بيت المال هو : 1000 × 20 % = 200 ريال ، ويكون نصيب بيت المال من قيمة البيع هو : 1000 - 200 = 800 ريال .

أما بالنسبة لمقدار غير المكيل : فقد يصعب الخرص ، خاصة الخضروات والزهور وبقية الفواكه ؛ لتفاوت النضج ؛ حيث لا يتم النضج في وقت واحد ، وإنما يتتابع النضج والقطف ، فكلما نضجت كمية قطفت وبيعت ، حتى يتكامل الإنتاج وتنتهي قدرة الشجرة على الإفراخ .      

ويرى جمهور العلماء عدم خرص المنتجات النباتية ما عدا النخل والعنب[18]، ولهذا : فإن تحديد مقدار الزكاة يتم لهذه الأنواع من المنتجات من خلال حصر الإنتاج الفعلي الذي تم بيعه والاستفادة منه بعد خصم جميع تكاليف   التسويق والنقل والتخزين .

من الأمور التي يثور التساؤل حولها : ما يتعلق باستهلاك المُزَارِع مما ينتجه ،وهل يتم استثناؤه أو يدخل ضمن الإنتاج وتقع عليه الزكاة ؟ .

الإجابة على هذا التساؤل تجده في حديث سهل بن أبي خيثمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)[19]، ولتحقيق هذا التوجيه النبوي : يكون خرص الإنتاج الكلي ، ثم خصم مقدار الربع أو الثلث مما خرص ، لتكون الكمية المتبقية هي التي يقدر عليها مقدار الزكاة ، فلو أن الخرص بلغ ثلاثين ألف كيلو ، فمقدار ما يتم عليه تحديد الزكاة على أساس الثلث هو عشرون ألف كيلو ، وعلى أساس الربع : اثنان وعشرون ألف وستمئة كيلو ، هذا بالنسبة للأصناف التي يتم خرصها ، أما الأصناف غير الخاضعة للخرص : فإن ما يتم تحديده هو : مقدار ما يتم بيعه ، وما يأكله المزارع فلا يضم إلى ما بيع ، قياساً على التخفيف فيما يخرص .

ومن الأمور التي تثار أيضاً ويدور حولها النقاش فيما يتعلق بخصمها من وعاء الزكاة وكيف يتم معالجتها أمران :

الأمر الأول : الديون التي تحملها المُزَارع من أجل الإنفاق على نفسه أو من أجل الزراعة ، فالإمام أحمد (رحمه الله) يرى أن الدّيْن الذي عليه من أجل الزراعة يخصم من الناتج ، أما الاستدانة من أجل الإنفاق على نفسه وأهله فلا يخصم ؛ لأن ما أنفقه على الإنتاج من مؤونته ، وقد روي بهذا القول عن ابن عباس (رضي الله عنهما) ، وأما عبد الله ابن عمر (رضي الله عنهما) فهو يرى خصم الديون من إجمالي الناتج[20]، ونحن نميل إلى الأخذ برأي ابن عمر ( رضي الله عنهما ) بخصم الديون ، سواء ما كان من أجل الزراعة أو من أجل الإنفاق على نفسه وأهله ، بشرط أن تكون الديون حَالّة في وقت وجوب الزكاة ، وألا تكون وسيلة من وسائل التمويل الرأسمالي ، أي : ألا تكون ديون ناشئة بسبب شراء أصول رأسمالية ، مثل :   المكائن ، والحراثات والحصادات ، ففي هذه الحالة لا تخصم .

الأمر الثاني : أجرة الأرض ، فقد اختلف في مدى خصمها من الناتج ،فمالك ، والثوري ، وشريك ، وابن المبارك وابن المنذر يرون أن الزكاة على الناتج دون مالك الأرض ، أما أبو حنيفة (رضي الله عنه) فيقول : إن الزكاة على مالك   الأرض ؛ لأنه من مؤنتها أشبه بالخراج [21].

وقد رد ابن قدامة على من يرى أنها على مالك الأرض بقوله : (ولنا : أنه واجب في الزرع فكان على مالكه ، كزكاة القيمة فيما إذا أعده للتجارة وكعشر زرعه في ملكه ، ولا يصح قولهم : إنه من مؤنة الأرض ؛ لأنه لو كان من مؤنتها لوجب فيها وإن لم تزرع كالخراج ، ولوجب على الذمي كالخراج ، ولتقدر بقدر الأرض لا بقدر الزرع ، ولوجب صرفه إلى مصارف الفيء دون مصرف الزكاة) [22]، وعلى ضوء ذلك ، فهناك رأيان :

الأول : هو مذهب أبي حنيفة ، الذى يرى أن الزكاة على مالك الأرض ؛ لأن الأجرة من مؤنتها أشبه بالخراج ، حيث إن العشر حق الأرض الثابت لا حق الزرع ، والأرض هي أرض المالك ، وكما إن الأرض تستنمى بالزراعة فهي تستنمى بالإجارة ، فكانت الأجرة مقصودة .

الثاني : مذهب الجمهور الذين يرون أن العشر على المستأجر ؛ لأن العشر حق الزرع لا حق الأرض والمالك لم يخرج له حب ولا ثمر .

إن سبب الاختلاف يعود إلى فكرة (على أي شيء تقع الزكاة ؟ ) ، على الأرض ، أم على الزرع ، أم على مجموعهما كما سبق مناقشته ؟ .

من الفقهاء المعاصرين (فضيلة د/يوسف القرضاوي) من يرى ضرورة أن يشترك الطرفان في الزكاة ، بحيث لا يعفى المستأجر إعفاءً كليّاً من وجوب الزكاة كما ذهب أبو حنيفة ، ولا يعفى المالك إعفاءً كليّاً ، حيث تجب الزكاة كلها على المستأجر[23]، ولتطبيق هذا الرأي فقد أخذ بمفهوم صافي الربح من عائد الزروع  بعد خصم الديون والنفقات من البذور ، بحيث يرفع ما يوازيها من المحصول ، ثم يزكى ما بقي إن بلغ نصاباً ، ولقد اعتبر أن أجرة الأرض من نفقات الزرع كالخراج ، فيجب أن تعد ديناً على المستأجر فيقطع من الخارج ما يقابل الأجرة ، على أن يتولى مالك الأرض زكاة ما دفع إليه ، بدلاً من المزارع ، ممثلاً في الأجرة التي يقبضها [24]، وبالتالي : فإن فضيلته خصم مقدار الأجرة وترك للمالك حق التصرف بإخراج زكاة الأرض .

نحن نتفق مع فضيلته بضرورة مشاركة مالك الأرض في إخراج الزكاة ، لكننا نختلف معه في الأسلوب الذي اتبعه .

إن الأسلوب الذي أراه يتمثل في أن هناك طريقتين للاتفاق مع المالك : إما أن تكون أجرة الأرض جزءاً من الإنتاج ، وبالتالي : الزكاة واجبة على الناتج جميعه باعتبارهما شريكين ، فلو فرض أن للمالك 20% من الناتج ، وقدر الناتج بثلاثة آلاف كيلو من القمح ، فتخضع الزكاة للناتج الإجمالي ، أي : ثلاثة آلاف ، فمقدار الزكاة باعتبار أنها مسقية بالآلات : 5% ، أي : مئة وخمسون كيلو ، والصافي بعد الزكاة هو : ألفان وثمانمئة وخمسون كيلو ، فيكون نصيب مالك الأرض هو خمسمئة وسبعون كيلو ، بدلا من ستمئة كيلو من إجمالي الناتج ، ففي هذه الحالة تم دفع الزكاة مباشرة من المستأجر ، لكنها أصبحت من الأجرة لصالح بيت المال حيث اشترك المالك والمستأجر في دفع الزكاة باعتبار أن الزكاة بالزرع نفسه وفق مذهب الجمهور .

الطريقة الثانية : إذا كان الإيجار مبلغاً نقديّاً مثلاً ، وكانت الأجرة ستمئة ريال ، وبلغ الإنتاج ثلاثة آلاف كيلو ، وتكلفة الكيلو مثلاً : ريال واحد ، أي : إن تكلفة الإنتاج هي ثلاثة آلاف ريال ، فيخصم من الإيجار المستحق له مقدار نصيبه من الزكاة ، فكمية الزكاة المستحقة على الناتج هي : مئة وخمسون كيلو ، ونصيب المالك من الزكاة يحسب باعتبار أن نصيبه من الإنتاج هو ستمئة كيلو فمقدار الزكاة : ثلاثون كيلو ، وتكلفة الكيلو : ريال واحد ، فمقدار الزكاة : ثلاثون ريالاً،فتخصم مقدار الأجرة خمسمئة وسبعون ريالاًِ ، أما الثلاثون ريالاً المخصومة فتعطى لبيت المال ، إما نقداً ، أو عيناً حسب رغبة ولي الأمر ، أخذاً بمفهوم أن الزكاة تؤخذ من عين مال المزكي ، وأن المستأجر هو وكيل لبيت المال في تحصيل الزكاة .

 


(1) بداية المجتهد ونهاية والمقتصد ، ج1 ، ص 247/ 248 .

(2) المرجع السابق ، ج1 ، ص 251 .

(3) بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، ج1 ، ص 253 .

(4) المرجع السابق ، ج1 ، ص 253 .

(5) أخرجه الستة ، والعثري : ما يسقى بالسيل الجاري في الحفر .

(6) بداية المجتهد ، ج1 ، ص 253 .

(7) لمعرفة الأحاديث المستدل بها وتخريجها يراجع كتابنا وهو تحت النشر من قبل دار عالم الكتب بالرياض بعنوان : (زكاة الأموال دراسة فقهية محاسبية لمختلف مصادر الثروة) ، وكتاب ( فقه الزكاة)، للشيخ الدكتور/ يوسف القرضاوي .

(8) سبق تخريجه .

(9) أخرجه مسلم ، كتاب الزكاة ، ح/7 ، والسانية : البعير الذي يستقى به الماء من البئر ،  ويقال له: الناضح .

(10) انظر: المغني ، ج2 ، ص 695 .

(11) انظر: المغني ، ج2 ، ص 695 .

(12) انظر : المغني ، ج2 ، ص 696 .

(13)انظر:المغني ،ج2،ص696،695.

(14) انظر : فقه الزكاة ، للدكتور/ يوسف القرضاوي ، ج1 ، ص 364 -372 .

(15) لمزيد من الدراسة والنقاش : راجع كتابنا (زكاة الأموال دراسة فقهية محاسبية لمختلف مصادر الثروة) ، دار عالم الكتب بالرياض.

(16) أخرجه ابن ماجة والترمذي ، وضعفه الألباني ، انظر : ضعيف سنن ابن ماجة ، ح/401 ، وضعيف سنن الترمذي ، ح/98 البيان .

(17) أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل ، وضعفه الألباني، انظر : الضعيفة ، ح/2556 البيان.(18) انظر : المغني ، ج2 ، ص 710 .

(19) سبق تخريجه .

(20) انظر : المغني ، ج2 ، ص 727.

(21)انظر : المغني ، ج2 ، ص 728 .

(22) انظر : المغني ، ج2 ، ص 728 .

(23) انظر : فقه الزكاة ، ج1 ، ص 401 .

(24) انظر : فقه الزكاة ، ج1 ، ص 402 .

 

أعلى