انتشرت
الصحوة الإسلامية المباركة في عصرنا ، وأصبحت نتائجها ظاهرة لكل أحد ، ولعل من بعض
ثمارها المباركة عودة كثير من شباب الأمة إلى القرآن الكريم قراءة وحفظاً ، ونظراً
لسلوك كثير من أولئك مسلكاً غير منهجي أثناء مرحلة الحفظ ، مما يؤدي إلى سوء الحفظ
سواء أكان ذلك من حيث النطق أو الاستيعاب لكامل ما يحفظ ، أو استقرار الحفظ وثباته
في الذهن ، بالإضافة إلى عدم مواصلة الكثير منهم للحفظ والتوقف بعد ابتداء المشوار
، أو حتى عدم الابتداء من الأصل مع وجود رغبة صادقة ، وحرص أكيد للتشرف بحفظ
القرآن الكريم .
ولقد
بادرت في كتابة هذه السطور علها أن تفيد الراغبين في حفظ كتاب الله الكريم ، وقد
حاولت الاستفادة من أصحاب الخبرة في هذا المجال رجاء أن يكون الطرح أكثر فائدة
وواقعية ، وقد قمت بتقسيم الموضوع إلى ثلاثة أقسام كالتالي :
أولاً : ما ينبغي فعله لمن أراد حفظ القرآن
الكريم قبل أن يحفظ .
ثانياً : خطوات عملية مقترحة لحفظ
القرآن الكريم .
ثالثاً : ما يفعله الحافظ بعد أن
يحفظ .
وإليك
قارئي الكريم التفصيل والبيان : ما ينبغي فعله لمن
أراد حفظ القرآن الكريم قبل أن يحفظ :
الإخلاص لله تعالى : لا يخفى أن الإخلاص وإرادة
وجه الله تعالى شرط لصحة العمل وقبوله إن كان عبادياً محضاً كالصلاة والصيام
والطواف .. الخ ، كما أنه شرط للثواب ونيل الأجر في الأمور المباحة كالأكل والشرب
وحسن المعاشرة للناس ... الخ . وبما أن قراءة القرآن وحفظه من الأمور العبادية
المحضة فإنها لا تقبل عند الله تعالى إلا بالإخلاص ، وهي داخلة في مثل قوله تعالى { فَمَنْ
كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [1] ،
وقوله تعالى في الحديث القدسي ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه
معي غيري تركته وشركه) [2] .
2- استشعار عظمة القرآن الكريم ومعرفة منزلته : ومن
الأمور التي تحقق ذلك :
* تذكر أن القرآن كلام الله تعالى { فَأجرْه حتى يسمع كلام الله } [3] وعظمته مأخوذة من عظمة الله ، ولا أعظم من الله
، وبالتالي فلا أعظم ولا أقدس من كلامه سبحانه .
* إدراك الأمر الذى نزل من أجله القرآن ، وهو هداية الناس وإخراجهم
من الظلمات إلى النور { ذلك
الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [4] ، { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } [5] .
* من عظمة القرآن عظمة الشهر الذي أنزل فيه القرآن (شهر رمضان) ، فهو
أفضل
الشهور ، وعظمة الليلة التي أنزل فيها القرآن (ليلة القدر) ، فهي خير الليالي
، وعظمة الرسول الذي أنزل عليه القرآن
فهو إمام الأنبياء والمرسلين وسيد ولد آدم ولا فخر ، وعظمة معلمه ومتعلمه حيث قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان أفضليتهما (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) [6] , وفي رواية (إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه) [7] .
*
وصف الله تعالى له بالعظمة في مثل قوله تعالى { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} [8] ، ويكفي هذا في بيان مقدار عظمته وجلاله .
3- إدراك فضل أهل القرآن
وعظم ثوابهم : وقد جاء بيان ذلك في كثير من
النصوص ومنها :
* ما رواه عمر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (إن
الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) [9] .
* ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ،لا أقول
« ألم حرف ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف)[10] .
* عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : خرج رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ونحن في الصفة فقال : أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق فيأتي
منه بناقتين كوماوين [11] في غير إثم ولا قطع رحم ,
فقلنا : يا رسول الله ، نحب ذلك ، قال : أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلِّم أو
يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير
له من أربع ومن أعدادهن من الإبل) [12] .
* عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال : (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) [13] .
* عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
(يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية
تقرؤها) [14] .
* عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)[15] .
* عن عائشة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (مثل
الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ، ومثل الذي يقرأ القرآن
وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران) [16] .
* عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- : (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب ،
والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل
المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا
يقرأ القرآن كالحنظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مر)[17] .
* معرفة أن الشارع قد حث على قراءة القرآن والاستماع إليه في نصوص منها :
(أ) في القراءة : قوله تعالى { إن الذين
يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن
تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } [18] ،
وقوله -صلى الله عليه وسلم- (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)
[19] .
(ب) في الاستماع : قوله تعالى { وَإِذَا
قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (19) .
قال
الليث بن سعد : (يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن لقوله تعالى { وَإِذَا
قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون } ، ولعل من الله واجبة) [20] .
5- إدراك من أراد الحفظ الهدف من قراءة القرآن وحفظه :
ويمكن أن يحصل ذلك عن طريق استشعار الأمور التالية :
*
ما يقع من تحصيل الأجور العظيمة الواردة في النصوص ، ومنها ما سبق بيانه .
*
قراءة لتنفيذ الأوامر وتطبيق التعاليم الواردة فى الآيات .
*
قراءة التصورات الصحيحة الصائبة حيث أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد لتصوراتنا
لقوله تعالى { ونزلنا
عليك الكتاب تبياناً لكل شىء } [21] .
6- التنبه إلى سهولة القرآن لمن اراد حفظه : لقوله
تعالى { ولقد
يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } [22] ،
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - عن هذه الآية « أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من
أراد حفظه فهل من طالب لحفظه فيعان عليه » [23] .
7- ضرورة وجود العزيمة الصادقة : وذلك عند الابتداء في
الحفظ والاستمرار على ذلك ، إذ بدونها يخور العبد ويتهاون ولا يتجاوز الأمر كونه
مجرد أمنية وحلم يقظة ، ويمكن أن يوجد الإنسان هذه العزيمة الصادقة بمعرفته لعظمة
القرآن ومكانة أهله ، والفضل الجزيل لقارئه ومستمعه إذ أن النصوص الواردة في ذلك
تحث المسلم وتدفعه بشدة إلى تكوين رغبة جادة في قرارة نفسه على الحفظ والمواصلة .
8- التقليل من المشاغل والاكتفاء بالحفظ وبذل الجهد في
ذلك : قال الله تعالى { والذين
جاهدوا فينا لَنهديَنَهُم سُبُلَنَا } [24] ،
ومعروف أنه من سار على الدرب وصل ، ومن جد وجد ، ومن زرع حصد ، ومما يعرفه الناس
عن النملة أنها تحاول الرقي إلى مكان مرتفع وقد تفشل في الوصول إلى غايتها وتسقط ،
ولكنها لا تكل أو تمل وتبذل جهداً مضاعفاً إلى أن يتكلل جهدها بالنجاح،وهذا هو ما
ينبغي فعله لمن أراد حفظ القرآن .
9- تفريغ وقت يومي
للحفظ : سواء أكان ذلك بعد الفجر أو بعد العصر أو بعد المغرب ... إلخ ، كل
حسب ما يناسبه . وكون مكان الحفظ في المسجد أولى لقوله -صلى الله عليه وسلم- في
الحديث الذي سبق ( ... أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد) (12) ، ومعلوم أن الجو في
المسجد مهيأ لهذا الأمر ، وغيره ليس مثله . وكونه مع مجموعة أفضل لحديث أبي هريرة
قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله
يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم
الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) [25]
،
ولأن الجماعة عنصر مساعد ومشجع والإنسان قد يصاب بكسل وفتور فتدفعه الجماعة إلى
المواصلة ، ولذا قيل (الصاحب ساحب) .
10-
اختيار شيخ مجيد للتلقي عليه : ولذا قرر أهل
العلم أنه لا يصح التعويل في قراءة القرآن الكريم على المصاحف وحدها بل لابد من
التلقي على حافظ متقن متلق عن شيخ ، ولذا قال سليمان بن موسى « كان يقال : لا
تأخذوا القرآن من الصحفيين » [26]
،
وقال سعيد التنوخي « كان يقال : لا تحملوا العلم عن صحفي ولا تأخذوا القرآن عن
مصحفي » [27]
،
ولكون قراءة القرآن مبناها على التلقي والسماع جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه
كان يقول : (والله لقد أخذت من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة) » [28] ، وذكر ابن حجر في الفتح بيان كيفية أخذ عبد
الله لبقية القرآن فقال : ( زاد عاصم عن بدر عن عبد الله : « وأخذت بقية القرآن عن
أصحابه » ) [29]
،
ولأهمية التلقي في تعلم القرآن نجد أن بعض الصحابة كانوا يوجهون طلابهم إلى ضرورة
التلقي عن المتلقي ، فعن معد يكرب قال : « أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا :
طسم المائتين فقال : ما هي معي ولكن عليكم مَن اخذها من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- خباب بن الأرت قال : فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا » [30] ، بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
يعارض جبريل بالقرآن كل عام مرة وعام وفاته مرتين [31] ، وكان يأمر أصحابه بالتلقي
فيقول (اقرأوا القرآن من أربعة نفر : من ابن أم عبد ومن أبي بن كعب ومن سالم مولى
أبي حذيفة ومن معاذ بن جبل) [32] .
11- اختيار مصحف معين في الحفظ حتى ترسخ مواضع الآيات في
الذهن ولا يكون هناك تشتت ..
12- الحرص على الابتداء في الحفظ من آخر المصحف وبخاصة
صغير السن أو ضعيف العزيمة ، حتى يشعر أنه قد أنجز شيئاً في فترة وجيزة ، حيث أن
السور أكثر عدداً وأقل صعوبة ولديه خلفية عنها عن طريق مقررات القرآن في المدارس
النظامية .
13-
دعاء الله تعالى بالتوفيق والتمكين من الحفظ
واللجوء إليه في ذلك لأن حفظ القرآن الكريم منة من الله وهبة .
خطوات عملية مقترحة لحفظ القرآن الكريم :
1- تحديد مقدار معين لحفظه في جلسة واحدة في حدود طاقة
القارئ وينبغي له أن لا يزيد كمية المقدار كثيراً في أيام حماسه وبخاصة في بداية
الحفظ ، حتى لا يكل أو يمل أو يصاب بالإحباط حين لا يستطيع المحافظة على ذلك
المقدار ، وبالتالي يؤدي ذلك إلى تركه الحفظ بالكلية ، بل عليه أن يربي نفسه على
المرونة في تحديد المقدار جاعلاً نصب عينيه أن أهم قضية هي الاستمرار اليومي في
الحفظ لا غير .
2- قراءة المقدار المعين على الشيخ المختار من المصحف
قبل مباشرة الحفظ وتلزم هذه الخطوة إذا كان القارئ لا يجيد قراءة الرسم العثماني .
3- قراءة القارئ المقدار المحدد للحفظ من المصحف بينه
وبين نفسه لإصلاح النطق في الكلمات التي لم يجد قراءتها .
4- أن يحفظ القارئ المقطع آية آية ، ويقوم بربط الآية
الثانية بالتي تليها وإذا كانت الآية الواحدة تقل عن سطر فآيتين آيتين بحيث لا يتم
الزيادة على سطرين أو ثلاثة في المرة الواحدة .
5- أن يرفع الصوت بتوسط أثناء الحفظ لأن خفض الصوت يكسل
القارئ ورفعه جداً يتعبه ويؤذي من حوله ، هذا في الأصل أما لو كان خاشعاً ، خالي
الذهن وخفض صوته فلا بأس لكن لابد من القراءة باللسان ، أما إمرار العين بدون
تحريك اللسان فلا .
6- نطق الآيات أثناء الحفظ بترتيل وتمهل ، والحرص على
عدم إغفال أحكام التجويد أثناء القراءة امتثالاً لقوله تعالى { ورتل
القرآن ترتيلاً } [33] واهتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في تركه
تحريك لسانه استعجالاً به بعد نزول قوله تعالى { لا تحرك به لسانك لتعجل به } [34] ، ولأن هذا هو هدي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في تعليمه القرآن لأصحابه ، قال الله تعالى { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } [35] .
ولقد سئل أنس بن مالك: كيف كانت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : « كانت
مدّاً ثم قرأ : (بسم الله الرحمن الرحيم) يمد ببسم الله ، ويمد بالرحمن ، ويمد
بالرحيم » [36] ،
وهذا الأمر كان ديدن كبار الصحابة ، ولذا
قال ابن عباس راداً على أبي حجر حين قال له:
إني سريع القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلاث : « لأن أقرأ البقرة في ليلة
فأدبرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ كما تقول » ، وفي رواية « أحب إليَّ من أن
أقرأ القرآن أجمع هذرمةً » [37]
، ولا
شك أن الترتيل أثناء الحفظ يعين على تدبر الآيات والتفكر في معانيها مما يعني جمع
القارئ بين حفظ الآيات والفهم مبدئياً لمعناها ، وهو مما يعمق الحفظ ويقويه أيما
تقوية .
7- أن يُسمِّع على نفسه المقدار المعين حفظه بعد إنهائه
له .
8- أن يقوم بقراءة المقدار المحفوظ من المصحف بعد
تسميعه على نفسه للتأكد من سلامة الحفظ وعدم تجاوزه لبعض الآيات أو الكلمات أو
الخطأ في الشكل .
9- أن يقوم بتسميع ما حفظ على شيخه المختار ولا بد من
ذلك .
10-
يفضل ربط المقدار المحفوظ من سورة ما قسمت إلى مقاطع
بما حفظ من أول السورة يومياً ليتم الربط بين المقاطع المحفوظة ، وهذا أمر
لا دخل له في برنامج الحافظ للمراجعة .
ما يفعله الحافظ بعد أن يحفظ :
1- الخوف من الوقوع في الرياء : والرياء في موضوعنا :
طلب الحافظ للجاه والمنزلة في نفوس الخلق بإظهاره لهم إكماله لحفظ القرآن ، أو
جودة حفظه وحسن أدائه ، وهو ضرب من الإشراك ، ولذا قال رسول الله-صلى الله عليه
وسلم- : (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول
الله . قال : الرياء يقول الله عز وجل - يوم القيامة إذا جزى العباد بأعمالهم - :
اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء) [38] ، والمرائي بالقرآن معرض نفسه للعقوبة الشديدة
الواردة في حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (إن أول الناس
يقضى يوم القيامة عليه ... ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه
نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن ،
قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ ، ثم أمر به
فسحب على وجهه حتى ألقي في النار) [39] .
والواجب
على مريد النجاة الحرص على الإخلاص واستمرار سلامة القصد والنية .
2- الحذر من الغفلة عن العمل بالقرآن والتأدب بآدابه
والتخلق بأخلاقه : لأن القرآن إنما أنزل ليعمل به ، ويتخذ نبراساً ومنهاج حياة ،
قال ابن مسعود رضي الله عنه « أنزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملاً ، إن
أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفاً ، وقد أسقط العمل به »
[40] ، وقال بعض أهل العلم : « إن العبد ليتلو القرآن
فيلعن نفسه وهو لا يعلم ، يقول : ألا لعنة الله على الظالمين ، وهو ظالم نفسه ،
ألا لعنة الله على الكاذبين ، وهو منهم» [40] ،
وقال أنس رضي الله عنه : « رب تال للقرآن والقرآن يلعنه » [40]
3- الخشية من العجب
بالنفس والتعالي على الخلق : فالعجب استعظام النفس لما بذلت من أسباب
لتحصيل حفظ القرآن الكريم والله تعالى هو الهادي إلى ذلك والمعين على تسهيله
وتحققه ، ولولا إحسانه وفضله لما تمكن العبد من حفظ القرآن أو بعضه ، والواجب
بدلاً من ذلك شكر الله تعالى على نعمته بمعرفتها حق المعرفة وإسناد الفضل إليه
سبحانه وحده لا شريك له في تحققها ،والتعالي على الخلق هو التكبر عليهم واعتقاد
العبد بلوغه مرتبة في الكمال لم يبلغها من حوله فيتجه إلى احتقارهم وتجهيلهم ، ومن
هذه حاله ينسى ما ورد من النصوص في التحذير من مثل ذلك ، ومنها قوله تعالى في
الحديث القدسي : (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في
النار) [41]
، وقوله -صلى الله عليه وسلم- (لا يدخل الجنة
من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) [42]
..
4- تذكر النصوص الآمرة بتعهد القرآن والمحذرة من نسيانه :
وردت نصوص كثيرة تحث على تعاهد القرآن وتحذر من هجره ونسيانه ومنها :
*
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (إنما مثل
صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقهما ذهبت) [43] .
*
وعن عبد الله قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (بئس ما لأحدهم أن يقول
نسيت آية كيت وكيت ، بل نسي واستذكر القرآن فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال من
النعم) [45]
.
*
وعن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً[44] من الإبل في عقلها) [46] .
وبسبب
هذه النصوص ومثيلاتها تحدث أهل العلم عن الزمن الذي لا يشرع للعبد تجاوزه سواء
أكان من حيث القلة أو الكثرة في قراءة القرآن الكريم فأقل زمن يستحب قراءة القرآن
فيه على المختار ثلاثة أيام لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عنه عبد الله بن
عمرو : (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) [47] .
لذا
كان معاذ بن جبل يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث [48] وكان
ابن مسعود يقول : (اقرؤوا القرآن في سبع
ولا تقرؤوه في أقل من ثلاث) [49]
.
والحكمة
- والله أعلم - في عدم مشروعية قراءته في أقل من ثلاث أن لا تؤدي سرعة القراءة إلى
قلة الفهم والتدبر أو الملل والتضجر أو الهذرمة وعدم إتقان النطق ، وما ثبت عن
السلف من قراءته في أقل من ذلك فهو محمول إما على أنه لم يبلغهم في ذلك حديث من
مثل الحديث السابق ، أو أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرءونه مع هذه السرعة [50] ، أو أن ذلك كان في فترة حماس وكثرة نشاط أو وقت
فاضل كرمضان ونحوه فأرادوا استغلاله لا أن يكون ذلك عادة لهم في سائر العمر .
وأما
أوسع زمن جاءت النصوص مبينة مشروعية قراءة القرآن فيه فأربعون يوماً كما ورد فى
حديث عبد الله بن عمرو أنه سأل النبي-صلى الله عليه وسلم- : في كم يقرأ القرآن ؟
قال : (فى أربعين) [51]
،
ولذا قال إسحاق بن راهويه : (ولا نحب للرجل أن يأتي عليه أكثر من أربعين ولم يقرأ
القرآن لهذا الحديث) [52]
،
وقال أيضاً : (يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوماً لا يقرأ فيها القرآن) [53] .
5- نسيان القرآن سببه الذنوب والمعاصي :
جاءت الكثير من النصوص التي تجعل ذنوب العبد سبباً لما يصيبه من مصائب وبلايا
والتي من أعظمها ولا شك نسيان القرآن الكريم ، ومما جاء في ذلك قوله-صلى الله عليه
وسلم- : (لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر)
[54] ، وقد كان هذا الأمر جلياً في أذهان السلف ،
ولذا قال الضحاك مزاحم : (ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يحدثه لأن الله
تعالى يقول : { وما
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [55] ،
وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب) [56] ، بل إنهم - رحمهم الله تعالى- كانوا يقفون
موقفاً صارماً ممن هذه حاله كما جاء من طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى
القرآن كيف أنهم كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولاً شديداً [57] ، وقد ذكر القرطبي - رحمه الله - سبب تلك
الكراهية وذلك الموقف الشديد فقال : (من حفظ القرآن أو بعضه فقد علت رتبته بالنسبة
إلى من لم يحفظه ، فإذا أخل بهذه المرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب
على ذلك ، فإن تَرْك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل والرجوع إلى الجهل
بعد العلم شديد) [58]
.
بل
إن بعضهم يعده ذنباً كما روى أبو العالية عن أنس موقوفاً (كنا نعد من أعظم الذنوب
أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه) [59] .
قال
ابن كثير - رحمه الله - : ( وقد أدخل بعض
المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال
رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم
تنسى } [60] ،
وهذا الذي قاله وإن لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه ، فإن الإعراض عن تلاوة
القرآن ، وتعريضه للنسيان ، وعدم الاعتناء به فيه تهاون كبير وتفريط شديد نعوذ
بالله منه ) [61] .
6- كيف تكون المراجعة ؟لا شك أن الطريقة
الأسلم للمراجعة هي تخصيص وقت كاف غير وقت الحفظ يقرأ فيه المرء ما يفتح الله
تعالى عليه فيه ، ولكن نظراً لعدم قدرة كثير من الناس على تخصيص وقت معين لذلك
فيمكن استخدام الطرق التالية :
(أ)
- القراءة في السنن الرواتب غير راتبة الفجر تكون خمسة أثمان ، في كل ركعتين ثمن .
-
في ركعتي ما قبل العصر تكون ثمناً واحداً .
-
في الصلوات المفروضة وقيام الليل تكون ثمنين .
وعلى
هذا فالحد الأدنى في اليوم الواحد يكون جزءاً كاملاً من القرآن الكريم .[*]
(ب)
القراءة في الصلاة النافلة من غير الرواتب ، وفي السيارة ، . وبين الأذان والإقامة
وأثناء الذهاب للدراسة أو العمل والعودة من ذلك ... إلخ من حالات الإنسان المناسبة
.
(ج)
الجلوس بعد الفجر ولو قليلاً للقراءة بحيث يلزم الإنسان نفسه أن يقرأ في ذلك الوقت
شيئاً من القرآن الكريم ولو ثمناً واحداً .
(د)
يمكن لأصحاب الهمم العالية استخدام طريقة (فمي مشوق) وهي طريقة كان يستخدمها بعض
مشايخ الإقراء في أرض الكنانة بحيث أن الحافظ يستطيع مراجعة القرآن كاملاً في
أسبوع واحد وبيانها كالتالي :
-
الفاء من (فمي مشوق) للفاتحة والميم للمائدة والياء ليونس والميم لمريم والشين
للشعراء والواو للصافات والقاف لسورة ق .
-
فيكون المقدار في اليوم الأول من أول (الفاتحة) إلى أول (المائدة) .
-
وفي اليوم الثاني من أول (المائدة) إلى أول (يونس)
-
وفي اليوم الثالث من أول (يونس) إلى أول (مريم) .
-
وفي اليوم الرابع من أول (مريم) إلى أول (الشعراء) .
-
وفي اليوم الخامس من أول (الشعراء) إلى أول (الصافات) .
-
وفي اليوم السادس من أول (الصافات) إلى أول (ق) .
-
وفي اليوم السابع من أول ، (ق) إلى آخر المصحف الشريف .
(هـ)
على من حفظ شيئاً من القرآن الكريم دون عشرة أجزاء أن لا يمر عليه خمسة عشر يوماً دون إتمام مراجعته .
والله
نسأل للجميع التوفيق والسداد .
(1) سورة الكهف : 110 .
(2) مسلم 2289/4 ح 2985 .
(3) سورة التوبة : 6 .
(4) سورة البقرة : 2 .
(5) سورة البقرة : 185 .
(6) البخاري مع الفتح 9/ 74 ح 5527 .
(7) البخاري مع الفتح 9/ 74 ح 5528 .
(8) سورة ا لحجر : 78 .
(9) مسلم 1/ 559 ح 817 .
(10) الترمذي 5/ 75 ح 2915 وصححه الألباني في صحيح الجامع 5/ 345 ح
6345 .
(11) كوماوين : الكوماء من الابل عظيمة السنام طويلته ، قاله ابن
منظور في اللسان 12/ 529 .
(12) مسلم 1/ 552 ح 803 .
(13) مسلم 1/ 553 ح 854 .
(14) أبو داود 2/ 53 ح1464 ، وقال الألباني في صحيح أبي داود 275/
1 ح 1350 (حسن صحيح) .
(15) مسلم 1 / 465 ح 673 .
(16) البخاري مع الفتح 8/ 691 ح 937 4 .
(17) البخاري مع الفتح 9/ 100 ح 5059 .
(18) سورة فاطر : 29 .
(19) سورة ا لأعراف : 204 .
(20) التذكار في أفضل الأذكار ، 91 .
(21) سورة النحل : 89 ، قال ابن سعدي في تفسيره حولها 4/ 230
(وقوله : ] ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء [ في أصول الدين وفروعه وفي أحكام
الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد فهو مبين أتم تبيين بألفاظ واضحة ومعان جليلة)
ولا يخفى أن السنة جاء الأمر بالأخذ بها في القرآن في نحو قوله تعالى في سورة
الحشر (7) ] وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ ، فالعمل بها عمل
بالقرآن .
(22) سورة القمر : 17 .
(23) الجامع لأحكام القرآن 17/ 134 .
(24) سورة العنكبوت : 69 .
(25) مسلم 4/ 2547 ح 2699 .
(26) تصحيفات المحدثين للعسكري 1/6 .
(27) المصدر السابق 1 / 7 البخاري مع الفتح 9/ 46 ح 5000 فتح
الباري 9 / 48 (30) المسند بتحقيق شاكر 6/ 34 ، وقال الشيخ أحمد شاكر (إسناده
صحيح) .
(28) البخاري مع الفتح 9/46ح 5000 .
(29) فتح الباري 9/48 .
(30) المسند بتحقيق شاكر 6/34 ، وقال الشيخ أحمد شاكر "
إسناده صحيح " .
(31) انظر حديث أبي هريرة في البخاري مع الفتح 9/ 43 ح 4998 .
(32) مسلم 4/ 1913 ح 2464 .
(33) سورة المزمل : 4 .
(34) سورة القيامة : 16 ، وانظر في الشاهد منها هنا تفسير ابن كثير
.
(35) سورة الإسراء : 106 .
(36) البخاري مع الفتح 9/91 ح 5046 .
(37) فضائل القرآن لابن كثير (75) .
(38) أحمد5/ 428 ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/ 17
.
(39) مسلم 3/1513 ح 1905 .
(40) تهذيب موعظة المؤمنين 1 / 75 .
(41) أبو داود 4/ 350 ح 4090 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4 /
114 ح 4187 .
(42) مسلم1 /93 ح 91 .
(43) البخاري مع الفتح 9/ 79 ح 5031 .
(44) قال ابن حجر في الفتح 9/ 81 تفصياً : أي تفلتاً وتخلصاً .
(45) البخاري مع الفتح 9/ 79 ح 5532 .
(46) البخاري مع الفتح 9/ 79 ح 5033 .
(47) أبو داود 2/ 116 ح 1394 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 6 /
242 ح 7620 .
(48) ذكره ابن كثير في فضائل القرآن (80) وقال صحيح .
(49) ذكره ابن حجر في الفتح 9/ 97 وقال هو عند سعيد ابن منصور
بإسناد صحيح .
(50) انظر فضائل القرآن لابن كثير 82 .
(51) الترمذي 5/ 197 ح 2947 وحسنه الألباني في صحيح الجامع 1/ 37 ح
1165 .
(52) انظر جامع الترمذي 5/ 197 .
(53) فضائل القرآن لابن كثير 70 .
(54) الترمذي 5/ 377 ح 3252 ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 4/
240 ح 7609 .
(55) سورة الشورى : 30 .
(56) فضائل القرآن (70) .
(57) فتح الباري 9 / 86 .
(58) المصدر السابق 9/ 86 .
(59) المصدر السابق 9/ 86 ، وقال ابن حجر (وإسناده جيد) .
(60) سورة طه : 124 -126 .
(61) فضائل القرآن لابن كثير (69) .
(*) التقسيم المشهور في المصحف العثماني أن يقسم المصحف إلى ثلاثين
جزءا ، ويقسم الجزء إلى حزبين والحزب إلى أربعة أرباع ، فيكون الجزء ثمانية أرباع
-البيان - .