هذا
بحث مختصر حول : (حكم التهنئة بدخول شهر رمضان)
، حاولت أن أجمع فيه أطرافه ، ملتمساً في ذلك طلب الحق إن شاء الله (تعالى) .
قبل البدء بذكر حكم المسألة لا بد من تأصيل موضوع (التهنئة) .
فيقال
: التهاني من حيث الأصل من باب العادات،والتي الأصل فيها الإباحة ،حتى يأتي دليل
يخصها ،فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر .
قال
الشيخ العلامة (عبد الرحمن ابن سعدي) (رحمه الله تعالى) في منظومة القواعد .
والأصلُ
في عاداتنا الإباحةْ حتى يجيءَ صارفُ
الإباحةْ
وليس
مشروعاً من الأمور غير الذي في شرعنا
مذكور [1]
ثم
قال (رحمه الله) معلقاً على ذلك : (وهذان الأصلان العظيمان
ذكرهما شيخ الإسلام (رحمه الله) في كتبه ، وذكر أن الأصل الذي بنى عليه الإمام
أحمد مذهبه : أن العادات الأصل فيها الإباحة ، فلا يحرم منها إلاّ ما ورد تحريمه
... إلى أن قال : فالعادات هي ما اعتاد الناس من المآكل والمشارب ، وأصناف الملابس
والذهاب والمجيء ، وسائر التصرفات المعتادة ، فلا يحرم منها إلاّ ما حرّمه الله
ورسوله ، إما نصّاً صريحاً ، أو يدخل في
عموم
، أو قياسٍ صحيح ، وإلاّ فسائر العادات حلال ، والدليل على حلها قوله (تعالى) : { هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة : 29] ، فهذا يدل على أنه خلق لنا ما في الأرض جميعه
لننتفع به على أيّ وجهٍ من وجوه الانتفاع) [2] .
وإذا
كانت التهاني من باب العادات،فلا ينكر منها إلاّ ما أنكره الشرع،ولذا مرّر الإسلام جملة من العادات التي كانت عند
العرب،بل رغب في بعضها،وحرّم بعضها ، كالسجود للتحية .
حكم التهنئة بدخول الشهر الكريم :
روى ابن خزيمة (رحمه الله) في صحيحه (3/191) عن سلمان (رضي الله عنه) قال : خطبنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر يومٍ من شعبان،فقال: (أيها الناس ، قد
أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك ،شهر فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة
، .... ) الحديث .
قال
ابن رجب (رحمه الله) : ( ... هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضهم بعضاً في شهر رمضان) [3] .
وإنما
تأخر الاستدلال به على مسألتنا لأنه لم يثبت،بل هو حديث منكر كما قال الإمام أبو
حاتم الرازي [4] ،ولذا
: بوّب عليه الإمام ابن خزيمة في صحيحه بقوله : (باب فضائل شهر رمضان ، إن صحّ الخبر) [5].
وفي
سنده (علي بن زيد بن جُدْعان) وهو (ضعيف) [6] .
وذهب
الجمهور من الفقهاء إلى أن التهنئة بالعيد لا بأس بها ، بل ذهب بعضهم إلى
مشروعيتها ، وفيها أربع روايات عن الإمام أحمد (رحمه الله) ،ذكرها ابن مفلح (رحمه
الله) في (الآداب الشرعية) ، وذكر أن ما روي عنه من أنها لا بأس بها هي أشهر
الروايات عنه [7].
(قال
الإمام أحمد (رحمه الله) : ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد : تقبّل الله
منا ومنك .
وقال
حرب : سئل أحمد عن قول الناس : تقبل الله منا ومنكم ؟
قال : لا بأس،يرويه أهل الشام عن أبي أمامة، قيل : وواثلة بن الأسقع ، قال : نعم ،
قيل : فلا تكره أن يقال : (هذا يوم العيد) ؟ ، قال : لا .... ) [8] .
فيقال
: إذا كانت التهنئة بالعيد هذا حكمها ، فإن جوازها في دخول شهر رمضان الذي هو موسمٌ من أعظم مواسم الطاعات ، وتنزل
الرحمات ، ومضاعفة الحسنات ، والتجارة مع الله .. من باب أولى ، والله أعلم .
تحقيق بعض العلماء في المسألة :
ومما يُستدَل به على جواز ذلك أيضاً : قصة كعب بن مالك (رضي الله عنه) الثابتة في
الصحيحين من البشارة له ولصاحبه بتوبة الله عليهما ، وقيام طلحة (رضي الله تعالى
عنه) إليه .
قال ابن القيم (رحمه الله) ضمن سياقه لفوائد تلك القصة :
(وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية ، والقيام إليه إذا أقبل ،
ومصافحته ، فهذه سنة مستحبة ، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية،
وأن
الأَوْلى أن يقال : يهنك بما أعطاك الله ، وما منّ الله به عليك ، ونحو هذا الكلام
، فإن فيه تولية النعمة ربّها ، والدعاء لمن نالها بالتهني بها) [9] .
ولا
ريب أن بلوغ شهر رمضان وإدراكه نعمةٌ دينية
، فهي أولى وأحرى بأن يُهنّأ المسلم على بلوغها ، كيف
وقد أثر عن السلف أنهم كانوا يسألون الله (عز وجل) ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ، وفي الستة الأخرى
يسألونه القبول ؟ ، ونحن نرى العشرات ونسمع عن أضعافهم ممن يموتون قبل بلوغهم
الشهر .
وقال
الحافظ ابن حجر (رحمه الله) : (ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة ،أو يندفع من
نقمة : بمشروعية سجود الشكر ، والتعزية [10] ،
وبما في الصحيحين عن كعب بن مالك ... ) [11] .
ونقل
القليوبي عن ابن حجر أن التهنئة بالأعياد والشهور والأعوام مندوبة .
وقد
ذكر الحافظ المنذري أن الحافظ أبي الحسن المقدسي سُئِل عن التهنئة في أوائل الشهور
والسنين : أهو بدعة أم لا ؟ ، فأجاب : بأن الناس لم يزالوا مختلفين في ذلك ، قال :
والذي أراه أنه مباح ، ليس بسنة ولا بدعة [12] .
خلاصة المسألة :
وبعد
هذا العرض الموجز يظهر أن الأمر واسع في التهنئة بدخول الشهر ، لا يُمنع منها ،
ولا ينكر على من تركها ، والله أعلم .
هذا
، وقد سألت شيخنا العلامة (محمد بن صالح العثيمين) عن التهنئة بدخول شهر رمضان ، فقال : (طيبة جدّاً) ، وذلك في يوم الأحد
8/9/1416هـ ، حال بحثي في هذه المسألة ، والتي أسأل الله (عز وجل) أن أكون قد وفقت
فيها للصواب،فإن كان كذلك فمن الله وحده ، وإن كان ما قلته خطأً فأنا أهلٌ له ،
والله ورسوله منه بريئان ، وأستغفر الله العظيم .
وصلِّ
اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
(1) المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي ، 1/143 .
(2) انظر (الموافقات) للإمام الشاطبي ، 2/212 246 ، ففيه بحوث
موسعة حول العادات وحكمها في الشريعة .
(3) لطائف المعارف ، ص 279 ، ط دار ابن كثير .
(4) علل الحديث للرازي ، 1/249 .
(5) صحيح ابن خزيمة ، 3/191 .
(6) تقريب التهذيب ، رقم الترجمة (4734) .
(7) الآداب الشرعية ، 3/219 .
(8) المغني لابن قدامة ، 3/294 .
(9) زاد المعاد ، 3/585 .
(10) كذا في الموسوعة الفقهية التي نقلت عنها .
(11) الموسوعة الفقهية الكويتية ، 14/99100 ، وانظر ، وصول الأماني
، للسيوطي وقد بحثت عن كلام الحافظ في مظنته ولم اهتد إليه .
(12) وصول الأماني ، 1/83 (ضمن الحاوي للفتاوي) .