تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن مسائل مهمة عن الصيام ،
فأشار إلى حكم الصيام وحكمته وفضله ، وتطرق إلى أحكام الصيام من ثبوت دخوله وشروط
وجوبه وصحة صيامه وفرضه ومفطراته ، وفي هذه الحلقة يتابع مساءل أخرى تهم الصائمين
.
-البيان-
ثامناً : مسائل القضاء :
1- الحائض والنفساء يجب عليهما القضاء بالإجماع [1] ؛ فعن معاذة رحمها الله قالت
: سألتُ عائشة رضي الله عنها فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟
قالت : أحروريةٌ [2]
أنتِ ؟ قلت : لست بحرورية ، ولكني أسأل . فقالت : (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم
ولا نؤمر بقضاء الصلاة) [3] .
2- المسافر يجوز له الفطر ولو لم يكن عليه مشقة بالصيام
لقوله تعالى{ وَمَن
كَانَ مَرِيضاً أََوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أََيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } [البقرة : 185] .
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال : يا رسول
الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح ؟فقال رسول الله : (هي رخصة من
الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) [4] .
3- من أفطر متعمداً في رمضان بغير عذر فهو آثم إثماً
عظيماً ؛ وعليه التوبة إلى الله ، ويجب عليه قضاء ما أفطر على القول الراجح وهو
قول الجمهور [5] .
والدليل على وجوب القضاء :
أ - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله :
(من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ، ومن استقاء فليقضِ) [6] .
ب - قوله -صلى الله عليه وسلم- للمُجامع في نهار رمضان بعد
أن ذكر له الكفارة : (وصم يوماً ، واستغفر الله) [7] .
أما إذا كان الإفطار بالجماع فيجب مع القضاء الكفارة وهي
عتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين .
4- المريض الذي شق عليه الصوم : يجوز له الفطر ؛ بل قد يجب
إذا ترتب على صيامه إلحاق ضرر به ، ويقضي ما أفطر ، ومثله في الحكم الحامل والمرضع
إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما [8]
.
5- العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً كالشيخ الكبير والمريض
مرضاً لا يرجى برؤه ، فهذا لا يجب عليه الصوم ، ويجب عليه أن يطعم مكان كل يوم
مسكيناً ، فعن عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنه يقرأ : { وَعَلَى الَذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة : 184] ، قال ابن
عباس : (ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما
فليطعما مكان كلّ يوم مسكيناً) [9] .
6- الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إذا بلغا الهذيان وعدم
التمييز ، لا يجب عليهما الصيام ولا الإطعام ؛ لسقوط التكليف .
الوقفة الخامسة : سنن الصيام :
1- تأخير السحور ؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن زيد بن ثابت
رضي الله عنه قال : (تسحرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ثم قام إلى الصلاة .
قلت : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية) [10] .
2- تعجيل الفطر لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) [11] .
3- أن يفطر على رطب ؛ فإن لم يكن فعلى تمرات ، فإن لم تكن
فعلى ماء .
لحديث أنس رضي الله عنه قال : كان يفطر على رطبات قبل أن
يصلي ، فإن لم يكن فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء) [12] .
4- لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاءٌ عند
الإفطار إلا ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه : كان رسول الله إذا أفطر قال :
(ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله) حديث حسن [13] .
5- أهم السنن وآكدها أكل السحور لقوله : (تسحروا فإن في
السحور بركة) [14]
، وقال : (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب
أكلة السّحَر) [15].
6- أن يكون في سحوره تمر لقوله : (نعم سحور المؤمن التمر) [16] .
7- أن يقول لمن سابه أوشاتمه : إني امرؤ صائم .
8- والسنّة في عدد ركعات التراويح أن لا تزيد عن إحدى عشرة
ركعة ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : (ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) [17] ، والزيادة جائزة لحديث ابن
عمر رضي الله عنهما قال : إن رجلاً قال : يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف
صلاة الليل ؟ قال : مثنى مثنى ، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة) [18] .
الوقفة السادسة : زاد الصائم :
ينبغي أن يكون شعار المؤمن في رمضان قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة : 197] ، وأن
يقتدي بحال النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان كما في حديث ابن عباس رضي الله
عنه قال : (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في
رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان ، فيدارسه القرآن ،
فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة) [19] .
وإليك أخي المسلم بعض ميادين المسابقة في الخيرات في رمضان
:
1- قيام الليل : فلا تخلو ليلة من قيام ليحصل على الأجر
الوارد في قوله : (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) [20] ،
وأن يصلي التراويح مع الإمام حتى ينتهي
لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال : صُمنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضان
فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت
السادسة لم يقم بنا .
فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل .
فقلت : يا رسول الله : لو نفلتنا قيام هذه الليلة .
قال : فقال : (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسبَ
له قيام ليلة) .
قال : فلما كانت الرابعة لم يقم ، فلما كانت الثالثة جمع
أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح . قال : قلت : وما الفلاح
؟ قال : السحور .
ثم لم يقم بنا بقية الشهر [21] .
وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه ثلاث ليال ولم
يخرج الرابعة خشية أن يفرض عليهم .
وليس معنى ذلك أن يقتصر على صلاة التراويح فقط ؛ فإن أمكنه
أن يصلي من آخر الليل وحده فهو من تمام القيام .
2- قراءة القرآن : قال : (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي
يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) [22] .
وقال عليه الصلاة والسلام : (من قرأ حرفاً من كتاب الله
فله به حسنه والحسنة بعشر أمثالها) [23]
.
3- تفطير الصائمين : قال : (من فطر صائماً كان له مثل أجره
غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً) [24] .
4- العمرة : قال : ( ... فعمرة في رمضان تعدل حجة) وفي
رواية : (حجة معي) [25]
.
5- الصدقة :
والنصوص في فضلها مستفيضة من الكتاب والسنة ، وقد
اختصها الله تعالى ؛ فكأن المتصدق يقرض الله ؛ ومَنْ أعظمُ وأجزل وفاءً من
الله ؟ قال تعالى : { مَن ذَا
الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ
كَرِيمٌ } [الحديد : 11] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :
قال رسول الله : (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله
يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوّه ، حتى تكون مثل الجبل) ،
وهي من أسباب دخول الجنة كما قال : (يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل
النار) [26]
، واعلم أخي المسلم أن الصدقة لا تنقص المال ، كما ثبت من حديث أبي هريرة
مرفوعاً : (ما نقصت صدقة من مال) [27] .
وتأمل معي الحديث التالي : الذي يبين سبب تراجع الكثيرين
وترددهم في الصدقة ؛ فعن بريدة رضي الله
عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (ما يُخرج رجلٌ شيئاً من الصدقة حتى يَفك بها لحيي سبعين شيطاناً) [28] ، وبعد هذا العرض المؤثر من نصوص الصدقة أدعوك يا أخي ألا تترك أيّ فرصة للصدقة : على
فقير ، أو بناء مسجد ، أو طبع كتاب ، أو غير ذلك ، في البيت ، أو المسجد ، أو في
اللجان الخيرية ، حتى تلك الصناديق التي تشاهدها في بعض المحلات التجارية ، ولو أن
تضع شيئاً يسيراً لتدحر بها شياطين الجن والإنس ، وتكفر سيئاتك ، وتثقل موازينك
يوم القيامة ، فتراها كالجبال العظيمة ، وتفوز كل يوم بدعاء الملائكة ؛ كما ثبت في
حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (ما من يوم يصبح العباد فيه
إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم
أعط ممسكاً تلفاً) [29]
.
وما أجمل أن يكون المسلم واسطة خير في الصدقة والزكاة بين الناس ومن يستحقها . عن أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه قال : (الخازن المسلم الأمين الذي يُنفِّذ ما أُمر به كاملاً
موفوراً طيباً بها نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحدُ المتصدقين) [30] .
محاذير وتنبيهات :
1- يمسك بعض الناس قبل الفجر بوقت (عشر دقائق مثلاً)
احتياطاً ، وهذا لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه ؛ فهو غير مشروع
.
2- بعض المؤذنين يحتاط للناس فيؤذن قبل الوقت وهذا خطأ ،
والصواب أن يؤذن عند دخول الوقت ؛ فهذا هو المشروع ، وحتى لا يغتر بأذانه بعض
النساء في البيوت فيصلين قبل الوقت .
3- بعض الناس في رمضان يصلون بعد الأذان بوقت يسير ؛
والأوْلى أن يتأخروا بوقت تطمئن نفوسهم بدخول الوقت ؛ فقد ثبت أن عدداً من
التقاويم غير دقيقة وأنها تسبق دخول الوقت بنحو ربع إلى ثلث ساعة .
4- هذا شهر الصيام وبعض الناس يجعله شهر الطعام ، فتضيع
الأوقات الطويلة وخصوصاً على المرأة في صنع ألوان الطعام .
5- الحذر من الوقوع في المحرمات وخصوصاً ما يتفنن به
شياطين الإنس من أفلام ومسلسلات .
6- ينبغي على المرأة المسلمة أن تحذر الخروج إلى الأسواق
متطيبة ، أو متبرجة ، أو بدون حاجة ، أو بدون محرم ، وكم يتألم المؤمن من امتلاء
الأسواق بالنساء ليالي رمضان وخصوصاً في العشر الأواخر منه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(1) حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع ، ص 47 .
(2) يقال لمن اعتقد مذهب الخوارج : حروري ؛
نسبة إلى حروراء ، وهي بلدة قرب الكوفة ، وكان أول اجتماع للخوارج بها للخروج على
عليّ فاشتهروا بالنسبة إليها ، انظر : فتح الباري ، 1/502 .
(3) أخرجه البخاري ، ح/321 ، ومسلم واللفظ
له ، ح/335 .
(4) أخرجه مسلم ، ح/1121 .
(5) أخرجه أبو داود ، ح/2363 ، وابن ماجة ،
ح/1676 ، وأحمد 2/ 498 ، والدارقطني وقال : رواته ثقات كلهم ، (2/184) وصححه
الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص (1/427) وصححه ابن تيمية في حقيقة الصيام ص 14 ،
وقال أحمد شاكر : (إسناده صحيح) ، (شرح المسند 10/111) وصححه الألباني في الإرواء
(4/51) .
(6) أخرجه أبو داود ، ح/2376 ، وابن ماجة
بلفظ : (وصم يوماً مكانه) ، ح/1671 ، ومالك ، ح/29 وغيرهم ، قال النووي : (رواه
البيهقي بإسناد جيد) (المجموع 3/76) وصححه أحمد شاكر في شرح المسند (6/147)
والألباني في الإرواء (4/90) .
(7) انظر بداية المجتهد (1/302) .
(8) انظر : مجالس شهر رمضان ، ص 33 ، 36 .
(9) أخرجه البخاري ، ح/4505 .
(10) أخرجه البخاري ، ح/922 .
(11) أخرجه البخاري ، ح/1957 ، ومسلم ،
ح/1098 .
(12) صحيح أبي داود ، ح/2356 .
(13) صحيح أبي داود ، ح/2357 .
(14) أخرجه البخاري ، ح/1923 ، ومسلم ،
ح/1095 .
(15) أخرجه مسلم ، ح/1096 .
(16) صحيح أبي داود ، ح/ 2345 .
(17) أخرجه مسلم ، ح/738 .
(18) أخرجه البخاري ، ح/1137 .
(19) متفق عليه .
(20) متفق عليه .
(21) صحيح أبي داود ، ح/1375 .
(22) أخرجه مسلم ، ح/804 .
(23) صحيح الترمذي ، ح/3087 .
(24) صحيح النسائي ، ح/811 .
(25) متفق عليه .
(26) متفق عليه .
(27) أخرجه مسلم ، ح/2588 .
(28) السلسلة الصحيحة ، ح/1268 .
(29) أخرجه البخاري ، ح/1442 .
(30) أخرجه البخاري ، ح/1438 .