خطبة عيد الفطر المبارك (السنن الربانية في الوباء)
الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان؛ أفاض على عباده من جوده وإحسانه، وغمرهم بلطفه ونعمه وامتنانه؛ ففرج كربا، وشرح صدرا، وغفر ذنبا.
الحمد لله القوي القهار، العزيز الجبار؛ ذي العز الذي لا يرام، والملك الذي لا يضام، يُري خلقه شيئا من قدرته ليعرفوا أقدارهم، فلا يجاوزوا قدراتهم، ولا يتعدوا حدودهم، وأين قدرتهم -مهما بلغت- من قدرة خالقهم ومدبرهم، تبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره، سبحانه وبحمده {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1]، نحمده فهو أهل الحمد كله، وله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره، فأهل أن يحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] والله أكبر كبيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حدث أصحابه «فَمَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَهُ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار الأطهار، المهاجرين منهم والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه حق التقوى؛ فإن الدنيا دار عبور وانتظار، وليست دار نعيم وقرار، وإنها إن أضحكت أبكت، وإن أفرحت أحزنت، وإن اكتملت نقصت، ونعيمها مشوب بالمنغصات والمكدرات، ولا أمن فيها إلا بالله تعالى وبطاعته {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2- 3].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]؛ فأحاط علمه بكل شيء.
الله أكبر {قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52] فلا يقف أمام قوته شيء.
الله أكبر {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] قهر أقوياء خلقه بأضعف مخلوقاته.
الله أكبر؛ يحب المؤمنين، ويقبل التائبين، ويغفر للمستغفرين، ويجيب الداعين، ويعطي السائلين، وهو الجواد الكريم.
الله أكبر؛ صام المؤمنون رمضان، وقد لزموا بيوتهم في أكثر الأمصار، ولم يفارقوها إلا في ساعات قلائل، وحرموا المساجد بسبب الوباء، فمنهم من عمر بيته بالصلاة والقرآن، وجمع أهله وولده على ذلك، واستثمروا الأوقات في الطاعات، واليوم عيدهم، ولا ينقص أجرهم بما فاتهم من طاعات منعهم منها الوباء. وقضى آخرون أوقاتهم في اللهو والغفلة، فعليهم أن يتداركوا أعمارهم، ويتوبوا من ذنوبهم، ويئوبوا إلى ربهم؛ فإنه تواب رحيم، وإن الأعمار قصيرة، وإن لذة الحرام حقيرة، وعواقبها أليمة {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الناس: لا شيء أشغل الناس في الأشهر الماضية أكثر من هذا الوباء الذي عمّ الأرض جميعا؛ إذ قطعت بسببه السبل، ومنع السفر، وتعطلت الأعمال، وأغلقت أماكن التجمعات، واستنفرت له الدول كوادرها، وسخرت لمكافحته طاقاتها، ولن تحصى خسائر العالم بسببه؛ إذ فقد الملايين من البشر وظائفهم، وأفلست بسببه شركات ومؤسسات، واستدانت أكثر الدول، وصار له من الأثر ما لم يكن لأشد الزلازل والبراكين والفيضانات، وأعتى الحروب والنزاعات، فهو ينتشر في الدول بهدوء لا صخب فيه، ويتلف من البشر ما تتلفه النار من الهشيم، وقد خاض الناس فيه كثيرا، فتحدثوا في أمده ونهايته، وداكوا في أسبابه وبواعثه، ومنهم من جعله مؤامرة لدول كبرى على أخرى، فيما يسمى بالحروب الجرثومية، ومنهم من جعله خطأ فادحا تحمل العالم كله دولا وشعوبا تكلفته، وعانوا من آثاره.
والمؤمن في نظرته لهذا الوباء يرتكز على أساسين مهمين، هما: سنة الله تعالى في أقداره وأفعاله سبحانه، وسنته عز وجل في الأوبئة الماضية؛ فهي مدونة في التاريخ:
وسنة الله تعالى في قدره وفعله: أن هذا الوباء وقع بأمره وعلمه عز وجل، سواء نتج عن خطأ بشري، أو تعمد بشر تطويره وضرب العالم به، وقد يفعلون ذلك ثم لا يسيطرون عليه، ويرتد عليهم فيدمرهم {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وفي المثل المشهور: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
ومن سنة الله تعالى في قدره عز وجل: أنه لا يقدر شرا محضا، فالشر المحض غير موجود، وكل ما يبدو للناس شرا ففيه خير قد يعلمونه وقد يجهلونه، وفي الدعاء النبوي المأثور «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ».
ومن سنة الله تعالى في الأوبئة العامة: أنها دورة حضارية للتغيير في الأرض؛ كما دل على ذلك استقراء تاريخ الأوبئة الشاملة التي ضربت أكثر الدول، وأفنت كثيرا من البشر. وباستقراء أخبار الأوبئة التي مضت في الأمم السالفة؛ فإن منها ما ينتهي في أيام قليلة كطاعون الجارف، قال ابن الجوزي: «وكان وقوع هذا الطاعون أربعة أيام، فمات في اليوم الأول سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفا، وفي اليوم الثالث ثلاثة وسبعون ألفا، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليلا من الآحاد».
ومنها أوبئة تمكث أشهرا، ومنها ما مكث سنوات عدة كالطاعون الأسود، الذي كان ينتقل بين الدول والأمصار كالمسافر. قال فيه المؤرخ ابن الوردي: «في شهر رجب وصل الوباء إلى حلب كفانا الله شره... وابتدأ خبره من الظلمات، فواها له من زائر، من خمس عشرة سنة دائر» ثم ذكر انتقاله بين الدول والأمم خلال خمسة عشر عاما، وقد مات ابن الوردي فيه.
وإذا أراد الله تعالى رفع الوباء رُفع بأي سبب يقدره عز وجل؛ كتفرق الناس لئلا تسري عدواه فيهم كما فعل عمرو بن العاص حين فرق الناس في طاعون عمواس، أو بتوفيقهم لاكتشاف لقاح له كما كان في لقاح الجدري والكوليرا، أو تقتله حرارة الجو، أو غير ذلك من الأسباب التي يقدرها الله تعالى.
ومن السنة الشرعية في الوباء: اليقين بأنه لا يصيب إلا بأمر الله تعالى، ولا يقتل المصاب إلا بأمره عز وجل، فيعلق المؤمن قلبه بالله تعالى، ويتوكل عليه وحده {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] فلا يجزع من وقوع الوباء، فالجزع أكثر فتكا بأصحابه من الوباء.
ومن السنة الشرعية في الوباء: حفظ النفس منه، واجتناب المصابين به، وسؤال الله تعالى العافية منه، والاسترشاد بوصايا الأطباء وأهل الشأن فيه. فإذا ابتلي العبد به صبر واحتسب، واجتهد في علاجه ما استطاع، فإذا أحس بهلاكه أحب لقاء الله تعالى، واشتاق إليه، ورضي بما قدر عليه، كما فعل الصحابة وأسلاف الأمة حين أصابهم الوباء. «وَمَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» كما جاء في الحديث الصحيح.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
اللهم ارفع الوباء عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم من أصابهم الوباء من عبادك المؤمنين فاجعله كفارة لسيئاتهم، ورفعة في درجاتهم، وعافهم منه. ومن قضوا فيه فاغفر لهم وارحمهم وأسكنهم الجنة، واخلف على أهلهم بخير.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ يحمد في السراء والضراء، وفي العافية والبلاء، وفي الأفراح والأحزان، ولا يحمد في كل حال سواه، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا؛ أفاض علينا النعم، ورفع عنا النقم، وأمرنا بصيام شهرنا، وشرع لنا الفرح بعيدنا؛ فله الحمد لا نحصي ثناء عليه كما أثنى هو على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دل كل شيء في الوجود على قدرته وعظمته وحكمته ورحمته وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ فلا يجحده إلا مكابر، ولا ينكر تدبيره للخلق إلا كافر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يعبد الله تعالى في كل أحواله، وكان يذكره في كل أحيانه، واشتاق للقائه، واختار جواره؛ فكان في الرفيق الأعلى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى في هذا اليوم العظيم وأطيعوه، وواصلوا العمل بعد رمضان؛ فإن الله تعالى يحب من عباده ديمومة الأعمال، وأتبعوا رمضان بصيام ست من شوال؛ ليكون لكم كصيام الدهر، واحذروا المنكرات في العيد؛ فإنه يوم شكر لله تعالى على نعمة رمضان، ولا يليق بالمؤمن أن يقابل نعم الله تعالى بالكفران {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: يكثر الحديث عن ارتدادات الوباء، وآثاره الاقتصادية على الدول والأفراد، ويخاف الناس من القلة والفقر والجوع، ويحرصون على أرزاقهم كما حرصوا في الوباء على بقاء حياتهم. وينبغي للمؤمن أن يكون قلبه سَلَمًا لله تعالى، مستسلما لأمره، راضيا بقدره، مع أخذه بأسباب حفظ حياته، وتحصيل رزقه. وليعلم المؤمن أن الأجل والرزق بيد الله تعالى لا بيد الخلق؛ فليأخذ بالأسباب الشرعية في هذا الباب مع الأسباب المادية؛ وذلك بلزوم طاعة الله تعالى والبعد عن معصيته؛ فإن رزق الله تعالى لا ينال بالمعصية، وليكثر من التوبة والاستغفار فإنه سبب للرزق {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10- 12]. وليكن همه الأكبر حفظ دينه؛ فإنه رأس ماله، وسبب سعادته في الدنيا، وفوزه في الآخرة.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيتها المرأة المسلمة: ابتلاءات الدنيا كثيرة، وقد تبتلى المرأة في نفسها أو في أحبابها من زوج وولد وقرابة، فعليها بالصبر والاحتساب، واليقين بأن عاقبة البلاء خير {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون: افرحوا بالعيد السعيد رغم الوباء؛ فإن الفرح يجلو الأحزان، وإن المنح تستخرج من المحن، والمؤمن دائم الفرح بالله تعالى وبطاعته، دائم الرضا بقضائه وقدره، ومن رضي عن الله تعالى رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].