"بصمات فرويدية" في صراع الدين والعلمانية
خلال القرن العشرين كان سيجموند فرويد (1856 – 1939)، واحدًا من الشخصيات ذات التأثير الكبير، ليس فقط كمؤسس لـ "التحليل النفسي"، بكل ما أثاره من جدل، بل كمثقف وصفوه كثيرون بأنه أكمل ما بدأه كوبرنيكوس ونيوتن من تحولات شاملة، حاولت قطع كل صلة بين الإنسان و"الخالق"، فضلًا عن السعي للقضاء على عقيدة تكريم الله سبحانه وتعالى: }ولقد كرمنا بني آدم{ [سورة الإسراء 70].
وكان لفرويد (المفكر/ المنظِّر) كتابات خصصها لوضع نظرية في التعامل مع الدين، أولها: "الطوطم والتابو" (1913)، وآخرها: "موسى والتوحيد" (1939)، وبينهما كتابه الأكثر إيغالاً في الهجوم على الدين: "مستقبل الوهم" (1927). وفيه اعتبر الدين "وهمًا". وقد كان فرويد (المولود لأبوين يهوديين) معاديًا شرسًا للأديان السماوية وكان يعتبرها مصدر أحد مصادر العدوانية في تاريخ البشرية.
"تعريب فرويد"
الباحثة المتميزة أمنية الشاكري عضو هيئة التدريس بجامعة كاليفورنيا نشرت (2017) كتابًا مهمًا عنوانه: "فرويد العربي".
(The Arabic Freud: Psychoanalysis and Islam in Modern Egypt)
وفي دراسة لها تكشف عن صفحات من تأثير الفكر الفرويدي على "الفرويديين العرب"، فبين 1920 و1930، في القاهرة، كان يجتمع صباح كل جمعة علماء وطلاب من عدة تخصصات في منزل أستاذ علم النفس يوسف مراد لمناقشة أحدث الاتجاهات الفكرية في علم النفس. ومن خلال مجموعة عمل واسعة طور مراد ما سماه: "علم النفس التكاملي" وقدم اكتشاف فرويد لللاوعي لجمهوره على أنه "ثورة كوبرنيكية"، وقام مع طلابه بإعادة دراسة التاريخ الفكري العربي، ليعيدوا النظر في "مسألة الحداثة"، في سياق غير أوروبي. كان من القضايا الرئيسة حل ما اعتبروه: "التناقض المتوهم"! بين "التحليل النفسي" والإسلام. وبعض أشهر من حضروا هذا اللقاء:
· محمود أمين العالم الذي كان سيلعب دورًا حاسمًا في المناقشات الشرسة حول "الوجودية".
· يوسف الشاروني كاتب القصة القصيرة الناقد.
· مراد وهبة، مؤلف التعليقات الفلسفية على ابن رشد، وكانط، وبرغسون، ومجموعة كبيرة من الأعمال التي تركزت على العلمانية.
· مصطفى سويف، المعروف فيما بعد كأستاذ لعلم النفس بجامعة القاهرة ( والد الروائي أهداف سويف).
· سامي الدروبي، المترجم السوري والسفير اللاحق في مصر.
· صالح الشماع، مؤلف نصوص في لغة الطفولة ومعاني القرآن، ولاحقًا أستاذ علم النفس ورئيس قسم الفلسفة في جامعة بغداد.
أسس يوسف مراد مدرسة فكرية في ذلك الوقت وفرت التدريب لجيل مفكرين تحولوا بعد ذلك ليصبحوا نقادًا أدبيين ومترجمين وأساتذة جامعات ومتخصصين في الصحة النفسية في مصر وسوريا والعراق. وترك بصمة واسعة على علم النفس والفلسفة والمجال الأكاديمي الأوسع للعلوم الإنسانية والاجتماعية. كواحد من طلابه السابقين، أشار فرج عبد القادر طه إلى أن بصمة مراد على علم النفس في مصر كانت عظيمة لدرجة أن غالبية أساتذة علم النفس المصريين لديه دراسة تحت إشرافه، بشكل مباشر أو غير مباشر. بحلول عام 1945، كان يعتبر أمرًا مفروغًا منه، أن مفهوم "اللاوعي" قد تسرب إلى الكتابات العربية
من روافد "فوبيا الإسلام"
مما تشير إليه معطيات الجهد الذي قامت به أمنية الشاكري أن "بذورًا" فرويدية أسهمت بقوة في حالة العداء للإسلام التي انتشرت بين شرائح من هذا الجيل من المثقفين، وتاليًا السعي الدؤوب إقليميًا إلى إعادة صياغة الإسلام كله تحت شعار "مكافحة الإرهاب"، وجميعها تصورات تتأسس على تصور فرويد للدين كـ "وهم"، و"مصدر للعدوانية"، و"حالة عصاب". وقد كتب محللون عن إشكالية التحليل النفسي والإسلام مثل فتحي بن سلامة، الذي اعتبر "الإسلام السياسي" مصدر قلق باعتباره (بحسب القاموس الفرويدي): "عودة المكبوتين". وهذا جانب من "قصة الشبكات المترابطة لإنتاج المعرفة بين العالم العربي وأوروبا". وقد كتب مراد على نطاق واسع عن ابن عربي، واعتمد بتوسع على كتاباته عن "وحدة الوجود"، خلال بحث الدكتوراه في الثلاثينات، ولا سيما أطروحته حول: "الحكم الإلهي للمملكة البشرية"، ويمكن القول بأن اهتمام مراد بابن عربي كان متجذرًا في "الروحانية"، والاهتمام الدائم بالميتافيزيقا الإسلامية المسيحية التي قادته إلى أن يؤمن بـ "الوحدة الروحية الأساسية لجميع التقاليد الدينية". تحول مراد من الأرثوذكسية اليونانية إلى الكاثوليكية الرومانية في أوائل عشرينياته وبقي على اتصال وثيق مع الزعماء الدينيين الدومينيكان والصوفيين في القاهرة طوال الوقت. توجه مراد، في علم النفس كان يتماشى مع الاتجاهات الأكبر داخل الأكاديمية الفرنسية، أي "الروحانية الانتقائية"، التي أسسها فيكتور كوزان، وتعني "الجمع بين أفضل ما في أي مذهب فلسفي".
وبحسب محمود أمين العالم، أثر يوسف مراد على جيل من المفكرين في الفلسفة والأدب وعلم النفس. الضباط الأحرار الشباب الذين قادوا مصر 1952 استوعبوا بسهولة نظرية مراد النفسية، مراد قدم سلسلة محاضرات في الأكاديمية العسكرية العليا ابتداءً من ديسمبر 1946 في مواضيع مثل: أهمية علم النفس التطبيقي، استخدام الاختبارات النفسية في اختيار ضباط الجيش والطيارين. ودخلت الفحوص التفسية لأول مرة للضباط الشباب الذين جندوا مباشرة بعد الثورة في أغسطس وسبتمبر من عام 1952، وتم إدخال علم النفس المخابرات العسكرية، وتم إنشاء عيادات نفسية. ومن السهل أن نفهم لماذا عثر الضباط الأحرار عند مراد على نظريات جذابة، حول استخدام علم النفس في "خدمة الهندسة الاجتماعية السياسية". وفي أعقاب ثورة 1952 عرف النظام نفسه بقوة بلغة العلم والتخطيط العلمي العقلاني، والاعتماد بشكل متزايد على المحرك الاجتماعي، الخبرة العلمية لصياغة وتنفيذ خططها الرئيسة، مثل الإصلاح الزراعي. وتردد الصدى في دعوة الثورة للوحدة الوطنية ورغبتها في إنشاء "أسرة سعيدة من العمال والفلاحين". وخلاصة القول أن ضباط يوليو رفعوا صوت لغة التكامل واستغلوا علم النفس لقضايا: بناء المواطن المنتج والوطنية والاشتراكية.
........
فهل يحظى "بصمات فرويد" على العقل العلماني العربي باهتمام جدي، وبخاصة أن أسماء تلاميذه، تكاد تكون هي نفسها قائمة بعض أكثر العلمانيين العرب تطرفاً؟!