• - الموافق2025/09/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الخيط الدقيق بين الاستبدال والتمكين

المشهد العالمي يكشف تصاعد الهيمنة الصهيونية والأمريكية عبر الإعلام والاقتصاد والعسكر، فيما تقف الأمة أمام خيار مصيري بين الاستبدال أو التمكين، مع وعدٍ إلهي بنصرٍ قريب بعد الابتلاء.


الحمد لله الذي أمره بالكاف والنون، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ومع ذلك فلحكمة أرادها -سبحانه وتعالى- أهبَط إبليس وآدم من الجنة إلى الأرض، ورسم العلاقة بينهما عداوةً مستمرةً حتى تنتهي المهلة وتقوم القيامة الكبرى؛ {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 24].

 وقد بيَّن الله -سبحانه وتعالى- على لسان إبليس حِقْده وحِرْصه وإصراره على إضلال الناس بكل سبيل ممكن؛ قال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17]، وقال: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 119- 121].

نعم، إنها معركة مستمرة نعيش في هذا الزمان أحد فصولها الدامية التي ارتفع فيها صوت الباطل، وكثر ضجيجه في صورةٍ ترسمها الآية الكريمة ببلاغة معجزة؛ {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64].

ويُلاحَظ في الآيات الكريمة، وما قبلها، أنه مع تنوُّع أساليب الشيطان في التوجيه والإغواء؛ فإنها قائمة على أمرين أساسيين في إضعاف مقاومة الضحية حتى تستجيب باختيارها؛ {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 21]؛ وهذان الأمران مذكوران في قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء: 120]؛ فهذا دَيْدَنه وأساس وسوسته، ولذا تكرر وصف وَعْد الشيطان بأنه غرور ووَهْم يُورِد المهالك ليس للأفراد فقط، بل للأمم والجماعات والأحزاب والدول بكلّ مُكوّناتها؛ فالله -سبحانه وتعالى- عدَّد أدوات التأثير حتى إن القارئ يتخيَّل ما يُسمَّى حاليًّا بالحرب الشاملة؛ ففيها الصوت، وهو ما يُطلَق عليه حاليًّا سلاح الإعلام، وبعده قال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}[الإسراء: 64]، وهو ما يدل على بَذْل الوُسْع في تجميع كلّ القوى العسكرية.

وأتبعها بوصف جامع للتدخل الإبليسي في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية بقوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَاد} [الإسراء: 64]؛ فكم من اقتصاد يقوم على المكوس والربا، وكم من منهج توجيه قائم على التحلل والانفلات. ومِن المُلاحَظ أن السياسات الاقتصادية القائمة على إغراق الدول والمجتمعات بحُمَّى الاقتراض الربوي تُفْرَض فرضًا، وكذلك قوانين ما يمكن تسميته بالفوضى القيمية تُفْرَض على الدول تحت مظلة الأمم المتحدة.

ولكنّ الذي حصل أنّ المقاومة الخجولة لكلّ هذه السياسات تحوَّلت إلى تيار رافض لأَبْلَسة العالم، وبدأ التمرد العالمي على السيطرة المطلقة للغرب الذي دخل في مرحلة التفكك السياسي التي ترافقت مع اهتزاز قناعات الشعوب الغربية بالمُثُل والشعارات المرفوعة منذ الثورة الفرنسية التي رفعت شعارات الماسون التي تُبشِّر بعصر الحرية والعدالة والمساواة، وهي شعارات برّاقة وجميلة، ولكن ماذا حصل للعالم عندما صدَّق الوعود والأمنيات؟ فقد أُبِيدَتْ ملايين البشر على مذبح حُبّ السيطرة والاستئثار، وبدأت تنمو في أمريكا بين الناس تساؤلات مهمة تدور حول: هل نحن نسيطر على العالم؟ أم أن أحدًا ما يَستعملنا في السيطرة على العالم؟ وهل الحروب التي نُقَاد لها هي حروبنا أم حروب لآخرين؟ وهل شعار أمريكا أولاً حقيقي أم أن التطبيق العملي يثبت أن «إسرائيل أولاً» هو شعار المرحلة؟

ولذا، فنحن أمام نُذُر فقدان اليهود للقدرة على السيطرة على أتباع اليمين، وحادثة اغتيال الناشط اليميني «تشارلي كيرك»، وتقبّل احتمال دور «إسرائيلي» في تصفيته، يدل على اختلاط الأوراق في أمريكا بشكل يزيد من احتمالات الدخول في مغامرات خارجية القصد منها استعادة هيبة أمريكا، وإشغال الداخل عن واقعه بحروب خارجية مفتعلة لا نهائية، تبدأ بأمريكا الجنوبية، ولا تنتهي بالعودة إلى أفغانستان.

يُضاف إلى ذلك التداعيات غير المحسوبة لتبنّي أمريكا لمشروع توسُّع الكيان اليهودي في فلسطين، فما الفرق بين تصريح «ترامب» بأنّ «إسرائيل» صغيرة، وتصريح «نتنياهو» حول أنه يحمل رسالة روحية وتاريخية لتحقيق حُلم «إسرائيل» الكاملة، التي تعني احتلال أجزاء من مصر والسعودية والشام والعراق وتركيا بالقوة القاهرة، بدلًا من القوة الناعمة بعد سقوط وتهاوي الاتفاق الإبراهيمي نتيجةً لطوفان الأقصى، ولذا فالاعتداء على دولة قطر ما هو إلا بداية لمرحلة جديدة يجب أن تُؤخَذ بجدية؛ فالخيارات صفرية بمعنى أن نتيجة الصراع هي أن تكون أو لا تكون.

ولتحليل الحادثة يجب أن ننظر إلى أمرين مهمين؛ هما معنى الحدث، وآثاره المحتملة.

أولًا: الحدث:

تُمثّل قطر حالة خاصة في المنطقة؛ فهي الوسيط الأمثل بين أمريكا ومناوئيها، خاصةً الذين يرفعون شعارات إسلامية مثل طالبان وحماس، ولذا فالدوحة مَمَرّ أو مَقرّ للمعارضات الإسلامية، وهي كذلك مقر لأقوى جهاز إعلامي في المنطقة، وهي كذلك مقر لأكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، استُعْمِلَت في كل عمليات أمريكا في المنطقة، ضد العراق وأفغانستان وإيران، ويمكن أن تُستخدَم في أيّ مغامرة أمريكية قادمة.

إن قيام «إسرائيل» بضرب هدف داخل العاصمة القطرية بقصد اغتيال الوفد الفلسطيني المفاوض؛ تم بعِلْم أمريكي، وبسلاح أمريكي، وبالتالي فهو بتأييد أمريكي، ولذا فهو وإن فشل في تصفية قادة حماس؛ فقد نجح في اغتيال الدور القطري؛ فقطر ذاتها أحسَّت بالخطر، وأنها في طريقها لأنْ تُصبح هدفًا بحدّ ذاتها؛ فـ«نتنياهو» لم يعتذر عن العدوان، بل هدَّد بتكراره إذا لم تُسلِّم قطر قادة حماس، بل وأنه سيستهدفهم في أيّ بلد كان. ومن هنا كانت الدعوة لقمة إسلامية عربية في قطر ضرورية لمعرفة حقيقة أوضاع العالم الإسلامي بعيدًا عن الشجب والاستنكار.

ثانيًا: آثار الحدث المحتملة

يمكن تلخيص آثار الحدث بالنظر إلى دخول «إسرائيل» في مرحلة تنفيذ «إسرائيل الكبرى»، وما مدى فائدة القواعد الأمريكية للدول المستضيفة، ورد الفعل المحتمل لدول المنطقة المستهدفة:

1- يعيش اليهود حاليًّا هاجس تحقيق الحلم، وأن الدعم الغربي للمشروع مُكلّف للغاية، وغير مضمون النجاح، ولن يستمر طويلًا، فأمريكا مُتقلّبة المزاج، وأوروبا حسمت أمرها بأنها ضدّ تهوُّر مجموعة من المتطرفين اليهود الذين يريدون من الآخرين تحقيق حُلمهم عن طريق القوة المفرطة وغير المنضبطة بأيّ حدود. ومن هنا نفهم تنادي الدول الداعمة للوجود اليهودي في فلسطين إلى الاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، ومُنتَهَكة السيادة، لقطع الطريق على تمدُّد ارتجالي ينتهي إلى احتمالين؛ هما سقوط سريع للمشروع، أو تورط بحرب لا يمكن خوضها بوجود الدبّ الروسي المتربص لفرص التمدُّد واستعادة حدود النفوذ الروسي كما كانت أيام الاتحاد السوفييتي.

2- إن الدور الأمريكي المريب في عدوان الدوحة، يثير مخاوف من دور القواعد الأمريكية التي قد تنقلب في أيّ لحظة من دور الحامي إلى دور المحتل الصريح، وكما استُعملت قاعدة «إنجرليك» في دعم الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، فما المانع من تكرار هذا الفعل في أيّ بلد، بل والأدهى أن الشك بدأ يساور الأوروبيين من الموقف الأمريكي الحقيقي عند أيّ احتكاك مع الروس؛ فتفاهمات «ترامب» و«بوتين» غير مُعلَنة، وما المانع من استعمال القواعد الأمريكية في أوروبا للسيطرة على جرينلاند؛ فالملاحظ أنه بدلًا من تقليص القواعد الأمريكية في الخارج نجد أن التوجُّه هو التوسُّع وبدون مقدمات؛ فقد أصبحت العودة لقاعدة «باجرام» قرب «كابول» هدف «ترامب» المعلن.

3- لقد كانت مخرجات قمة قطر صادمة للمتابعين، ومع وجود بعض المتحمّسين لقرارات فعلية؛ فإن موافقتهم على بيان لا يحمل أيّ صفة إجرائية يدل على استحالة الخروج بقرارات فاعلة. ولذا يمكن القول: إن المؤتمر أفرز حقيقة أن أمريكا و«إسرائيل» كانتا ممثلتين بشكلٍ ما في المؤتمر. ومن هنا نفهم أن الدول الخائفة من الاستهداف المستقبلي تحاول النجاة بسلوك الطريق الذي يسمح به العدو، وهو مسلك خطير يُؤجّل النهاية، ولكنه لا يمنعها.

ولذا فهنا لنا كلمة: إن مستقبل الأيام مخاض لتغيير كبير؛ فالطوفان مستمر ومتجدّد، وإذا كان أسطول الصمود يتقدم إلى غزة يحمل الكثير من الناشطين غير المسلمين، وإذا كانت دول أوروبا تريد البُعْد عن الدخول في معترك الأحداث المقبلة؛ فإن دول المنطقة مُجْبَرَة -شاءت أم أبت- على الدخول في المعترك، وليس أمامها إلا أن تدخل في بؤرة دوامة الطوفان، لئلَّا يحلّ عليها قَدَر الاستبدال؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد: 38]، أو أن تحزم أَمْرها وتَجِدّ في البحث عن سبل الخلاص الحقيقية، بل وتسعى إلى التمكين في الأرض؛ فما يجري من التدافع العنيف بين الأمم فرصة للظهور والتمكين بتحقيق شروطه؛ فالأمر جد وليس بالهزل، فكما أن العقوبات تأتي فجأة، فكذلك النصر يتنزل حال اليأس الموجب لصدق التوجُّه إلى الله تعالى.

وإذا تدبرنا قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]؛ نجد أن الخاتمة نصر للمؤمنين، ولكن لا بد أن يسبقها ابتلاء وتمحيص، ومن النُّكَت اللطيفة في هذا الباب، أن الله يتخذ الشهداء ويصطفيهم؛ فهم وقود النصر والتمكين مع أنهم هم الشهود الغائبون.

 

أعلى