• - الموافق2024/12/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ضَعْفُ الْمُقْرِئِين فِي الْإِقْرَاء:  أَسْبَابُهُ وَعِلَاجُهُ (1-2)

لما كان الأصل في تلقّي القرآن الكريم وتعلُّمه وتعليمه هو المشافهة، والعرض والسماع، وهو المنهج الذي سار عليه القراء والمقرئون في الأمة عبر العصور؛ كان المقرئون على قَدْر كبير من القوة العلمية والأهلية في الإقراء، وبهم ينتفع الطلاب في كل زمان ومكان


الحمد لله الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأعجَز الثقلين عن الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، فهو كما قال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَت آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت مِنْ لَدُن حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]؛ أنزله قرآنًا عربيًّا غير ذي عوج على سبعة أحرف للتسهيل والتيسير، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي أُوتي جوامع الكلم والسبع المثاني والقرآن العظيم، وأُنزل عليه ﴿ذَلِكَ نَتلُوهُ عَلَيكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكرِ الحَكِيمِ﴾[آل عمران: 58]، وعلى آله وصحبه الذين فازوا باتِّباع سَننه القويم، وصراطه المستقيم.

أما بعد: فلما كانت تلاوة القرآن الكريم عبادة من سائر العبادات، كان لزامًا على الإنسان أن يُؤديها على وجهها المشروع، وبالكيفية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي ما ترك شيئًا من الدين إلا حثَّ أُمّته عليه، وبيَّن لهم فَضْله، وأوضح لهم كيفيته، حتى بيَّن لهم أيسر الأمور، ولذا جاء في الحديث عن أبي ذر -رضي الله عنه-، قال: «تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه عِلْم»[1].

وفي حديث سلمان -رضي الله عنه- حين قال له أحد المشركين مستهزئًا: «قد علَّمكم نبيكم كل شيء، حتى الخراءة! قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم»[2].

وكما تعبَّدنا الله -عز وجل- بفهم كتابه والعمل به وإقامة حدوده، تعبَّدنا أيضًا بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه، على الصفة التي نزل بها على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتلقَّاه بها عن جبريل الأمين عن رب العالمين -جل وعلا-، وبتلك الصفة تلقَّاه عنه صحابته الكرام، ونقلوه لمن بعدهم، وما زال الأئمة القراء، ومشايخ الإقراء، ينقلونه لمن بعدهم، جيلاً بعد جيل، ولا يزال كذلك يُنْقَل ويُتلقَّى إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بغاية الدقة والإتقان، وبمنتهى التحرير والإحسان، كما تلقَّاه كل مقرئ عن مَن سبقه.

المبحث الأول: أهمية التلقي عن المقرئين المتقنين

تلقَّى النبي صلى الله عليه وسلم  القرآن الكريم عن جبريل -عليه السلام-، عن رب العالمين -جل وعلا-، عن طريق المشافهة والعرض والسماع؛ إذ يقرأ جبريل -عليه السلام- ما ينزل به من القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم  يستمع له، ثم يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم  ما سمع من القرآن الكريم على جبريل -عليه السلام-.

أخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يُحرّك شفتيه -فقال ابن عباس: فأنا أُحرّكهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما-، وقال سعيد: أنا أُحرّكهما كما رأيت ابن عباس يُحركهما، فحرَّك شفتيه؛ فأنزل الله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﯾ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 16-17]؛ قال: جمعه في صدرك وتقرأه؛ ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾[القيامة: 18] قال: فاستمِعْ له وأنْصِتْ، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾[القيامة: 19]؛ ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم  كما قرأه[3].

فكان النبي صلى الله عليه وسلم  في ابتداء الأمر إذا لُقِّنَ القرآن نَازَعَ جبريل -عليه السلام- القراءة، ولم يصبر حتى يتمّها؛ مسارعةً منه إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، كما قال الحسن وغيره، فأنزل الله -تعالى- هذه الآيات، وآية سورة طه: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وُقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَا﴾[طه: 114].

فبيَّن الله في الآيات من سورة القيامة لنبيه صلى الله عليه وسلم  طريقة تلقّي القرآن وآداب تعلُّمه، وأن عليه أن يصبر ويستمع ويُنْصِت لقراءة جبريل -عليه السلام- حتى ينتهي.

وتلقّي القرآن يشمل حِفْظ نصّه، وتعلُّم صفة قراءته، وهيئة أدائها، وهو معنى قوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ أي: قراءته[4].

ففي هذه الآيات ثلاثة أمور؛ أولها: حفظ نص القرآن وهو المنصوص عليه في قوله: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾؛ أي: في صدرك فتحفظ نصّه، وثانيها: القراءة وكيفيتها وصفة أدائها، وهو المنصوص عليه في قوله: ﴿وَقُرْآنَهُ﴾؛ أي: وعلينا تعليمك قراءته، فالقرآن هنا مصدر بمعنى القراءة وليس عَلَمًا، وثالثها: معرفة ما في القرآن من العلم والعمل، وهو المشار إليه بقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾؛ أي: علينا تعليمك حلاله وحرامه، كما علّمناك قراءته.

وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ فلرسول الله صلى الله عليه وسلم  أجود بالخير من الريح المرسلة»[5].

قال العيني: «(فيدارسه) من المدارسة، من باب المفاعَلة، من الدَّرْس، وهو القراءة على سرعة وقدرة عليه... قال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ﴾[الأنعام: 105]؛ أي: قرأت على اليهود وقرأوا عليك، وهاهنا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم  وجبريل -عليه السلام- يتناوبان في قراءة القرآن؛ كما هو عادة القراء، بأن يقرأ هذا عشرًا، والآخر عشرًا؛ أتى بلفظ المدارسة، أو أنهما كانا يتشاركان في القراءة؛ أي يقرآن معًا، وقد عُلم أن باب المفاعلة لمشاركة اثنين»[6].

وفي حديث فاطمة -رضي الله عنها-، قال صلى الله عليه وسلم : «إن جبريل كان يُعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارَضَني العام مرتين»[7]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم  القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبِضَ فيه»[8].

وفي رواية أخرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، بلفظ: «كان النبي صلى الله عليه وسلم  أجود الناس بالخير، وأجودُ ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة»[9].

فيُؤخَذ من هذه الروايات أن جبريل -عليه السلام- يعرض القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم  يسمع، ثم النبي صلى الله عليه وسلم  يعرض القرآن وجبريل يسمع.

وهذه هي الطريقة النبوية التي تلقَّى بها النبي صلى الله عليه وسلم  القرآن، وهي الطريقة التي أقرأ بها أصحابه، فقرأ عليهم القرآن، وقرأ القراء من أصحابه القرآن عليه صلى الله عليه وسلم .

وبها جرت عادة القراء وسُنتهم في إقراء القرآن الكريم، في سلسلة متصلة السماع، من كل طالب وقارئ للقرآن عن شيخه بهذه الطريقة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أمين الوحي جبريل -عليه السلام-، عن رب العالمين -تبارك وتعالى-.

ولما بيَّن الإمام ابن الجزري وجوب قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة مجودة؛ علَّل لذلك بقوله[10]:

لِأَنَّهُ بِهِ الْإِلَهُ أَنْزَلَا

وَهَكَذَا مِنْهُ إِلَيْنَا وَصَلَا

فقراءة القرآن الكريم قراءة مجودة كما أُنزل أمر واجب؛ لأن الله أنزل القرآن بهذه الكيفية، ونُقِلَ نص القرآن وأداؤه، ووصلنا من الله بسلسلة الإسناد المتصلة، نقلاً متقنًا مجودًا، بالهيئة والصفة الأدائية المعروفة لدى القراء المتقنين المسندين، كما نُقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم [11].

ومن هنا فلا بد من تلقّي القرآن الكريم بهذه الصفة والطريقة النبوية المعتَبَرة، ليكون الإنسان متحققًا من نقل القرآن الكريم نقلاً صحيحًا، وليكون أهلاً لنقل القرآن إلى مَن بعده، وتعليمه على الوجه الصحيح.

وهذا يُحتِّم على طالب القرآن الكريم أن يحرص على أخذ القرآن وتعلّمه ممن هذه حاله في تعلّم القرآن الكريم وتلقّيه، فلا يأخذه عمَّن لم تكن لهم الأهلية التامة، والمعروفين بالضعف في الإقراء، لأيّ سببٍ من الأسباب؛ كما سيأتي في المبحث التالي.

المبحث الثاني: أسباب ضعف المقرئين في الإقراء

لما كان الأصل في تلقّي القرآن الكريم وتعلُّمه وتعليمه هو المشافهة، والعرض والسماع، وهو المنهج الذي سار عليه القراء والمقرئون في الأمة عبر العصور؛ كان المقرئون على قَدْر كبير من القوة العلمية والأهلية في الإقراء، وبهم ينتفع الطلاب في كل زمان ومكان.

ولكنْ يُلاحَظ أن ثمة نماذج من المقرئين ظهرت منهم ملامح ضعف في الإقراء، وعدم قدرة على الإفادة، وبمحاولة استجلاء أسباب ذلك الضعف ومظاهره يتبيّن لنا جملة من الأسباب المؤدية لذلك، ومنها:

1-  عدم العناية بتلقّي القراءات بالطريقة الصحيحة، بالأخذ عن شيوخ الإقراء، بالتلقّي والمشافهة، والاكتفاء بدراسة القراءات دراسة نظرية، دون تطبيقٍ وعَرْضٍ وتلقٍّ على المقرئين.

2- التلقي عن مقرئين غير متقنين ولا مدققين: وهذا من أخطر الأسباب؛ لأنه يجعل القارئ الذي يتلقى القرآن وقراءاته -وربما يحصل على الإجازة-، لا يفطن لحقيقة حاله، ويظن أنه قد بلغ درجة من الإتقان، وهو ليس كذلك، ولم تتحقق له الأهلية التامة لتلك الإجازة؛ وذلك لعدم دقة المقرئ وإتقانه، فيكون القارئ بعدم عنايته بالتلقي عن المقرئين المتقنين المدققين قد تسبَّب بنفسه في ضعفه في هذا الجانب.

قال الحافظ أبو عمرو الداني: «وكل مَن يحفظ القرآن من المصحف أو تلقَّنه مِن مُعلّم عامٍّ ليس له معرفة بالقراءة، ولا دراية بتجويد الألفاظ، إذا لم يعمل نفسه في طلب ذلك من أهله القائمين به المشهورين بمعرفته المضطلعين بتأديته، فهو غير تالٍ له على صوابه، ولا مُقِيم له على حدّه، وإن مهَر في حفظ سواده، ومتشابه قصصه، لأنه غير عالِم بالأصول التي بمعرفتها يُوصل إلى حُسن الأداء لتلاوته، وبها يوقف على اليقين من صواب قراءته.

وعِلْم ذلك لا يتحصل، ومعرفته لا تتحقق إلا لمن احتذى ما وصفناه، واستعمل ما ذكرناه من المواظبة للدرس، وكثرة العرض على مَن تقدَّم وصفه من المقرئين المختصين بمعرفة ذلك المؤتمنين على نقله وأدائه تلقيًا عن أئمتهم وسماعًا عن مشيختهم، وكل مقرئ متصدّر إذا اعتمد فيما يقرئ به على ما يحفظه من الصحف المبتاعة في الأسواق من غير أن يرويها، ولا يدري حقائق ما فيها مِن جَلِيّ العلم وخفيّه، ولم يجالس العلماء ولا ذاكَر الفقهاء، ولا أكثر العرض على القراء والمتصدرين من أهل الأداء، ولا سأل عما يجب السؤال عنه، مما يدقّ ويعزب من الأصول والفروع، مما لا بد لمن تعرَّض للتصدر ورواية الحروف من السؤال عنه، والكشف عن حقيقته، ولم يكن معه من الإعراب ما يُقيم به لسانه، ويعرف به خطأه من صوابه، فليس بمقرئ في الحقيقة، وإن كان لقب الإقراء جاريًا عليه، واسم التصدر موسومًا به لغلبة الجهل على العامة، وأكثر الخاصة»[12].

3- الاستعجال في تلقّي عِلْم القراءات، فذلك مما يؤدي لضعف التلقّي على الوجه الصحيح، فما أتى سريعًا يذهب سريعًا.

والاستعجال في العلم بشكل عام، وعلم القراءات بشكل خاص، يمكن أن يؤدي إلى عدم إتقان أصوله وقواعده، وعدم القدرة على ضبط الخلاف في مسائله، فضلاً عن عدم التمكُّن من ضبط النطق الصحيح لأوجه القراءات المتنوعة، ولا سيما العسيرة، ويقلل من الارتباط بمشايخ الإقراء، والإفادة منهم، والتطبيق العملي للقراءات، ويُضعِفُ الاستفادة من مصادر العلم الأصيلة، فتكون المعرفة محدودة، والمهارات الأساسية ضعيفة.

4- دراسة القراءات دراسة قاصرة دون استيفاء، وعدم تطبيقها في القرآن الكريم كاملاً، والاكتفاء بنماذج من بعض السور[13].

5- ضعف مَلَكات المقرئ في الإقراء، رغم أهليته وتمكُّنه العلمي، وهذا يحدث غالبًا عند مرض الشيخ وكبر سِنّه.

فمَن تلقَّى القرآن عن مقرئ ضعُفت ملكاته وقلَّ ضبطه لكبر سِنّه أو مرضه؛ فإن ذلك يؤثر على إتقانه وجودته في الإقراء؛ إذ يكون عُرضة للوقوع في بعض الأخطاء من حيث لا يشعر، لا سيما في تطبيق بعض القواعد والأحكام الدقيقة والمسائل المشكلة، كما أنه قد يشعر بالارتباك وعدم الثقة في قراءته، مما يُؤثّر سلبًا على أدائه وثقته بنفسه عند الإقراء.

وهذا العامل ليس فيه أيّ مأخذ على المقرئ، فالمرض والكِبَر أمور جِبِلِّيَّة تعتري الناس جميعًا، ولكن المأخذ يتّجه لمن يقرأ على مَن هذه حاله، ممن ضعف ضبطه، لمثل تلك العوامل، فهذا مما يحول دون استفادته كما ينبغي، لا سيما إن كان ممن لم يبلغ درجة عالية من الإتقان، ولم يحظَ بالقراءة على بعض المقرئين الضابطين المدققين، فوقوع مثل هذا يُعدّ سببًا من أسباب الضعف في الإقراء.

6- الخروج بالقراءة عن قَدْرها الصحيح، والمبالغة في تطبيق أحكام التجويد على غير وجهها: وهذا مما حذَّر منه العلماء، ولم يَعُدّوه من الإتقان، بل من التنطُّع والخروج بالقراءة عن حدّها، والانشغال بذلك قد يكون مؤثرًا على القارئ وعلى جودة قراءته، ويضيع على القارئ ضبطها وإتقانها على الوجه الصحيح.

قال أبو موسى الخاقاني[14]:

وَإِنْ أَنْتَ حَقَّقْتَ الْقِرَاءَةَ

زِيَادَةَ فِيهَا وَاسْأَلِ العَوْنَ ذَا

فَاحْذَرِ الزْ زِنِ الحَرْفَ لَا

القَهْرِ فَوَزْنُ حُرُوفِ الذِّكْرِ

تُخْرِجْهُ عَنْ حَدِّ وَزْنِهِ

مِنْ أَفْضَلِ البِرِّ

وقال علم الدين السخاوي[15]:

يَا مَنْ يَرُومُ تِلَاوَةَ القُرْآنِ

وَيَرُودُ شَأْوَ أَئِّمَةِ الإِتْقَانِ

لَا تَحْسَبِ التَّجْوِيدَ مَدًّا مُفْرِطًا

أَوْ مَدَّ مَا لَا مَدَّ فِيهِ لِوَانِ

أَوْ أَنْ تُشَدِّدَ بَعْدَ مَدٍّ هَمْزَةً

أَوْ أَنْ تَلُوكَ الحَرْفَ كَالسَّكْرَانِ

أَوْ أَنْ تَفُوهَ بِهَمْزَةٍ مُتَهَوِّعًا

فَيَفِرَّ سَامِعُهَا مِنَ الغَثَيانِ

لِلْحَرْفِ مِيزَانٌ فَلَا تَكُ طَاغِيًا

فِيهِ وَلَا تَكُ مُخْسِرَ المِيزَانِ

إلى أن ختمها بقوله[16]:

رَتِّلْ وَلَا تُسْرِفْ وَأَتْقِنْ وَاجْتَنِبْ

نُكْرًا يَجِيءُ بِهِ ذَوُو الْأَلْحَانِ

وقال ابن الجزري[17]:

مُكَمَّلًا مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ

بِاللُّطْفِ فِي النُّطْقِ بِلَا تَعَسُّفِ

7- الأخذ ببعض طرق الإقراء غير المعتمدة لدى القراء، التي لا يتحقق بها ضبط القراءة وإتقان الأداء، لعدم اعتمادها على منهج العرض والتلقي، وتلك الطرق هي:

- الإجازة بالسماع من لفظ الشيخ، دون العرض عليه، ولم يأخذ بها أحد من القراء، ولا تكفي في تأدية القرآن الكريم صحيحًا كما نزل، فليس كل من سمع لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته، وأما الصحابة فكانت فصاحتهم وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء، كما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم  لأنه نزل بلغتهم[18].

- والإجازة بأحرف الخلاف، وهي: تلقّي الحروف المختلف فيها عن القراء مجردة عن التلاوة؛ لأنها تكون بلفظ الطالب على الشيخ، والعكس[19].

- ورواية الحروف، وهي: أن يسند الراوي عن شيخه بأن فلانًا قرأ بكذا، من غير قراءة عليه ولا عرض ولا سماع، بل هو تحديث بالمروي المقروء[20].

والإجازة بهذه الطرق في هذه الأزمان المتأخرة فيها تساهُل، يجعل القارئ ضعيفًا في مستواه وتحصيله، وبالتالي يكون ضعيفًا في إقرائه.

8- الاكتفاء بعرض بعض القرآن والإجازة بالباقي، دون تثبُّت من إتقان القارئ، وكونه أُجِيزَ قبل ذلك من أحد مشايخ الإقراء.

وعرض بعض القرآن على الشيخ، وإجازة الشيخ له بالباقي اكتفاءً بما عرض عليه، سواء كان في رواية، أو قراءة، أو في القراءات السبع، أو في العشر، وإن كان نوعًا من أنواع الإجازات المعروفة لدى المقرئين السابقين، إلا أنهم لم يكونوا يُجيزون أحدًا بتلك الطريقة؛ إلا إذا بلغ درجةً كبيرةً في الإتقان، وعُرف بالقراءة على بعض المقرئين المتقنين، وبناءً على ذلك كان المقرئون يُجيزون مَن عرفوه بهذا الوصف، وتحقق فيه هذا الشرط، وليس كما يحدث في هذا الزمان[21].

فمَّما يُؤسَف أن نجد الآن مَن لم يقرأ القرآن على شيخ قراءة كاملة من أول القرآن إلى آخره، بل غاية أمره إجازات من مشايخ أحسنوا الظن به، تراه يصير شيخ الشيوخ، وعلم العلماء، مع أن أسانيده كلها بالإجازات المجردة عن العرض والسماع[22].

ولذلك نجد أن القراء لأمانتهم وديانتهم إذا أجازوا أو أُجيزوا كانوا يتحرّون الصدق والأمانة، فمن ختم القرآن صرح بذلك فيقول: «قرأت القرآن كله»[23]، ومن وصل إلى سورة معينة؛ ذكَرها، ونصَّ عليها.

ومن أمثلة ذلك: ما ذكره الإمام ابن الجزري عند ذِكْره لإسناده بالشاطبية ومضمنها، وقد ذكر ضمنه قراءة أبي الحسن علي بن شجاع المصري الشافعي صهر الشاطبي شيخ الإقراء بالديار المصرية، إلى أن قال: «إلا أن صهر الشاطبي بقي عليه من رواية أبي الحارث عن الكسائي من سورة الأحقاف، مع أنه كمل عليه تلاوة القرآن في تسع عشر ختمة إفرادًا، ثم جمع عليه بالقراءات، فلما انتهى إلى الأحقاف تُوفِّي، وكان سمع عليه جميع القراءات من كتاب التيسير، وأجازه غير مرة، فشملت ذلك الإجازة»[24].

ومثله ما ذكره ابن الجزري أيضًا من قراءته على شيخه أبي بكر عبد الله بن أيدغدي الشمسي الشهير بابن الجندي، بمضمن كتابه البستان في القراءات الثلاث عشر؛ حيث قال: «أخبرني به مُؤلّفه المذكور إجازة ومناولة وتلاوة بمضمنه خلا قراءة الحسن من أول القرآن إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ من سورة النحل، وأجازني بما بقي، وعاقني عن إكمال الختمة موته -رحمه الله-»[25].

ومثله قوله أيضًا في ترجمة أحمد بن إبراهيم ابن الطحان: «قرأت عليه نحو ربع القرآن لابن عامر والكسائي، ثم جمعت عليه الفاتحة وأوائل البقرة بالعشر، واستأذنته في الإجازة، فتفضَّل وأجاز، ولم يكن له بذلك عادة»[26].

ومثله قوله أيضًا في ترجمة أحمد بن يوسف الكواشي: «وسمع تفسيره والقراءات منه محمد بن علي بن خروف الموصلي، وأبو بكر المقصاتي؛ سوى من الفجر إلى آخره، وهما شيخا شيوخنا»[27].

ومثله قوله أيضًا في ترجمة الحسن بن عبد الله السروجي: «شيخي وشيخ والدي -رحمه الله-، وُلِدَ قبل السبعمائة، وتلا على الرقي، ولقّن والدي القرآن، ثم إنه بقي حتى صرت مراهقًا، فجعل يتردد إليَّ، فحفظت عليه من الشاطبية إلى أواخر الإدغام، وهو الذي عرفني الرموز والاصطلاح، وقرأت عليه بحرف أبي عمرو، إلى آخر المائدة، في سنة ثلاث وستين»[28].

ومثله قوله أيضًا في ترجمة محمد بن أحمد الأصبهاني: «ودخل الروم فلقيني بأنطاكية متوجهًا إليَّ إلى الشام، فقرأ عليَّ للعشرة بعض القرآن وأجزته، ثم توجَّه إلى مدينة لارندة فأقام بها يقرئ الناس»[29].

وقد نقل ابن الجزري رأي مَن يطلق القراءة دون تقييد بما إذا كانت للقرآن كله أو لبعضه، فقال: «ورأْي الإمام ابن مجاهد وغيره جواز قول بعض مَن يقول: قرأت برواية كذا القرآن، من غير تأكيد إذا كان قرأ بعض القرآن... وهذا قولٌ لا يُعوَّل عليه، وكنت قد ملتُ إليه، ثم ظهر لي أنه تدليس فاحش، يلزم منه مفاسد كثيرة؛ فرجعتُ عنه»[30].

فهذا هو صنيع علماء الإقراء في دقتهم وأمانتهم وبيانهم لما قرؤوا، فكيف بمن يقطع بعدم قراءته إلا مواضع يسيرة من القرآن، ثم يُجيزه الشيخ بما بقي، ولم يكن ذلك القارئ معروفًا بالأخذ عن الأكابر، ولا مجازًا منهم!!

ولا يخفى ما في ذلك من الخلل البيِّن، لعدم أهلية بعض أولئك المجازين، وعدم اطلاع الشيخ المقرئ المجيز لهم على ضبطهم لأصول الروايات، وإتقانهم لمواضع الخلاف المنتشرة في سور القرآن الكريم، وإدراك كيفيات القراءة في الكلمات العسيرة، والمواضع الفريدة التي لا يُوجَد لها مثيل في القرآن الكريم، وكل ذلك لا يُضْبَط إلا بالمشافهة، والإخلال بشيء من ذلك وعدم إتقانه يكون سببًا من أسباب الضعف في الإقراء ولا ريب.

9- رغبة بعض المقرئين لا سيما من تقدَّمت بهم السن في إقراء أعداد من الطلاب، ومنحهم الإجازة بسماع بعض الآيات فقط كالفاتحة وخمس آيات من أول البقرة، بغرض علوّ الإسناد، حتى رأينا بعض المقرئين الكبار إذا سافروا إلى بعض البلدان، أقبل عليهم عدد من طلاب القراءات للحصول على الإجازة منهم بهذه الطريقة، حتى مَن لم يسبق لهم أن أُجيزوا من أحد المقرئين، ولا يخفى ما في هذا من الدفع نحو ضعف الإقراء، بحصول أعداد من مثل هؤلاء على إجازات في الإقراء من مقرئين معتبرين بمثل هذه الطريقة، دون الحصول قبلها على إجازة بقراءة كاملة يتحقق بها تمام الضبط والإتقان.

10- الرغبة في الحصول على عطاء مقابل الإقراء والإجازة، سواء كان مالاً أو منفعة، وسواء كان ممن يقرأ عليه أو من جهة تُرتب له ذلك[31]، لا سيما حين يكون المقرئ معوزًا وذا حاجة؛ فيحرص على كثرة الإقراء والإجازة، لما يرجو من النوال، ويصحب ذلك شيء من التساهل في منح الإجازة، وهذا الأمر إنما هو لدى قلة؛ إذ الأصل في مشايخ الإقراء الأمانة، والورع، واحتساب الأجر على الإقراء، والحمد لله.

يُتبع في العدد القادم بإذن الله.


 


[1] صحيح ابن حبان 1/267 برقم (65)، ومسند البزار 9/341 برقم (3897)، والمعجم الكبير للطبراني 2/155 برقم (1647)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 4/416 برقم (1803).

[2] صحيح مسلم 1/223 برقم (262).

[3] صحيح البخاري 1/6 برقم (5).

[4] الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري 1/48.

[5] فتح الباري 1/30.

[6] عمدة القاري 1/75.

[7] صحيح البخاري، 3/1326 برقم (3426).

[8] صحيح البخاري، 4/1911 برقم (4712).

[9] صحيح البخاري 4/1911 برقم (4711) وصحيح مسلم 4/1803 برقم (2308).

[10] المقدمة الجزرية ص3، البيت رقم (28).

[11] ينظر سنن القراء ومناهج المجودين، ص28.

[12] شرح قصيدة الخاقانية للداني ص29.

[13] وقد وقفت على مقررات القراءات في بعض الجهات الأكاديمية التي تدرِّس القراءات لطلابها، فلاحظت أنها تدرس القراءات في ساعات دراسية محدودة، لا يمكن أن تدرس فيها القراءات على الوجه الصحيح، ولذلك فإنها اقتصرت على اختيار عدد من السور للتطبيق عليها، ومع قلة عدد الساعات المخصصة لها؛ صار من غير الممكن تطبيق القراءات وعرضها في تلك السور المحددة.

[14] القصيدة الخاقانية ص13، البيتان رقم (25، 26).

[15] عمدة المفيد وعدة المجيد في معرفة التجويد ص25، الأبيات رقم (1-5).

[16] المصدر السابق 30، البيت رقم (60).

[17] المقدمة الجزرية ص4 البيت رقم (32).

[18] ينظر: الإتقان 2/634، وإقراء القرآن الكريم، ص162.

[19] ينظر: الموضح في وجوه القراءات وعللها 1/177، وإقراء القرآن الكريم، ص164.

[20] ينظر: غاية النهاية 1/257، 258، وفوائد ولطائف القراء، ص27.

[21] ينظر: إجازات القراء، ص50، وفوائد ولطائف القراء، ص9، وإقراء القرآن الكريم، ص160.

[22] ينظر مقال (الفرق بين الإجازة العلمية وإجازة الرواية) ليوسف بن أحمد علاوي، على شبكة الإنترنت، على الرابط:

https://alhadyalzahry.yoo7.com/t726 -topic

 [23] كما فعل أبو عمرو الداني، وابن الجزري، عند ذكرهما لأسانيدهما، ينظر: التيسير، ص111-121، وتحبير التيسير، ص125-181، والنشر في القراءات العشر 1/99-190.

[24] النشر 1/63.

[25] النشر 1/97، وينظر غاية النهاية 1/180.

[26] غاية النهاية 1/33.

[27] المصدر السابق 1/151.

[28] المصدر السابق 1/219.

[29] المصدر السابق 2/64.

[30] منجد المقرئين ص54.

[31] وقد اطلعت على جهة قائمة على دعم الإقراء والإجازة في بعض الجامعات العريقة، وكان منهجها أن تمنح المقرئين عطاءً ماليًّا على كل إجازة يمنحونها للطلاب، فصار بعض المقرئين يحرصون على إنجاز طلابهم للقراءة ومنحهم الإجازات، دون تحقق من أهلية أولئك الطلاب للحصول على الإجازة، وقد شاركت في تقييم عدد منهم بعد حصولهم على الإجازة؛ فتبين عدم تمكنهم، وظهر منهم خلل في بدهيات أحكام التلاوة وأصول الرواية، فضلًا عن ما هو أدق من ذلك من دقائق الأحكام، وخصائص الرواية.

 

 

أعلى