«الصندوق الأسود» للعلاقات الأمريكية الإيرانية
« إن طهران مستعدة للعمل مرة أخرى مع
الولايات المتحدة لضمان الاستقرار في الشرق الأوسط حينما تتلاقى مصالحهما ». من
المناسب أن نبدأ من حيث أنهى السفير الإيراني محمد حسين عادلي كلامه في منتدى
نظّمته وكالة رويترز، وألا ندع عبارة الرجل تمر مرور الكرام؛ فهي بمثابة (الصندوق
الأسود) الذي نستطيع من خلاله تبيُّن المواقف المتعارضة أحياناً والمنسجمة في غير
وقتها أحياناً أخرى، حيث لا يمكن تفسير العلاقات الإيرانية الأمريكية في الخمس
والعشرين سنة الأخيرة إلا من خلال دلالتها. فالولايات المتحدة الأمريكية قدّمت
الدعم المبكر للثورة الخمينية منذ قيامها عام 1979م، ولولا الدعم الأمريكي لما
تهيَّأ لها أن تنجح وتصل إلى حكم إيران.
الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي
الأسبق كارتر قامت بتعمد هادئ وتدبير مسبق بالترتيب للانقلاب حتى أطيح بالشاه الذي
انتهت صلاحيته، واشتركت إدارة كارتر في كل خطوة، ابتداءً من الاستعدادات الدعائية،
إلى تجهيز الأسلحة والذخيرة، ومن الصفقات التي تمت خلف (الكواليس) مع الثوريين في
جيش الشاه، إلى الإنذار النهائي الذي وُجِّهَ للزعيم المقهور في يناير 1979م
لمغادرة إيران بلا عودة.
في المقابل رد الخمينيون - محافظين
وإصلاحيين - الجميل بالجميل، فقدموا بدورهم ضحيتين في صورة كبشين هما أفغانستان و
العراق، اللتان لن تكتمل دائرة الإمبراطورية الكونية الأمريكية إلا بهما، فاعتراف
الرئيس الإيراني السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، بأنّ القوات الإيرانية قاتلت
طالبان وأسهمت في دحرها، وأنّه لو لم تُساعد قوّاتهم في قتال طالبان؛ لغرق
الأمريكيون في المستنقع الأفغاني.
سيد الأدلة وبيت القصيد، يأتي من بعده
اعتراف محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية الأسبق،
ليزيد الطين بِلةً، وينشِّط الذاكرة الأمريكية التي أكل منها الزهايمر وشرب،
ويلوِّح بالموقف الإيراني للحيلولة دون غدرٍ أمريكي تضمره المقاتلات المتحفزة في
الخليج، ويعلن أن بلاده قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربيهم ضد أفغانستان
والعراق، ليس هذا فحسب، بل لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول و بغداد بهذه السهولة!
وقد انتهزت إيران منذ احتلال العراق فعلياً
فرصتها السانحة ولعبت دوراً انتهازياً في المسألة العراقية، وسعت بانتظام إلى جعلِ
دعمها للمحتلين الأمريكيين ودورها هناك، ورقةَ مساومة لامتلاك السلاح النووي؛
فالمسألة النووية الإيرانية لم تعد تحتمل كثيراً من التأجيل.
وتبادلت الدولتان باستمرار التعاون الأمني
من خلال أقسام رعاية المصالح في سفارات باكستان و سويسرا في واشنطن وطهران،
ودشّنتا تعاوناً مخابراتياً وعسكرياً من خلال لندن أقرب حلفاء واشنطن في الحرب على
العراق، وكانت أولويتهما الإستراتيجية المشتركة التي جمعتهما خلال الغزو الأمريكي
لأفغانستان عام 2001م حينما أطيح بنظام طالبان.
يتضح الآن أن السياسة الإيرانية الأمريكية
وعلى مدار 25 عاماً مضت؛ اعتمدت التَّقِيَّة الشيعية أسلوباً متفقاً عليه فيما
بينهما.
ولعله من (شبه) المؤكد أن إدارة بوش توصلت
لاتفاق مع شيعة الإمام الغائب لإقامة قواعد أمريكية دائمة بالعراق تكون آمنة من
صواريخ المهدي المنتظر - فك الله أسره! - المطِلة من طهران، وذلك في غضون الشهور
الأخيرة المتبقية لبوش - قدس الله سره! - قبيل مغادرته البيت الأبيض.
غير أن (شلة) بوش وبذكائهم المعهود فاتهم أن
ثمة فوارق رئيسية بين العراق ودول مثل: ألمانيا و اليابان و كوريا الجنوبية؛ حيث
تحتفظ الولايات المتحدة بقوات عسكرية منذ ما يزيد على نصف قرن، فهذه الدول لا تنظر
لجندي المارينز نظرة عقائدية يحددها الله ورسوله، وحكوماتها معترف بها من جانب
مواطنيها، ولا يوجد بها من يزرع عبوة ناسفة على جنبات الطرق أو يطلق النار باتجاه
مدرعة أجنبية أو يتحدى سلطة حكومته العميلة.
وتقوم إيران - بحكم ما تمليه عليها
استراتيجيتها - بدور مزدوج في العراق؛ فهي ليست راغبة في أن تنجح أمريكا بسهولة في
احتلال موقعه الاستراتيجي وشفط ثرواته وحدها، لكنها في الوقت نفسه ليست راغبة في
أن يخفق الأمريكيون كلياً هناك؛ لأن هذا الإخفاق سيشكل حينذاك تهديداً للأمن
القومي الإيراني، حيث يلتقي الطرفان على قاعدة مشتركة هي الخلاص من أي مقاومة سنية
مسلحة على الساحة العراقية.
في المقابل تطمح واشنطن في استراتيجيتها إلى
الحرص على شراكة إيرانية مدجنة - كما هو الحال مع التنين الصيني آكل العشب - في
الأمن الإقليمي للخليج شريطة أن يظل مِقْوَدُه بيدها، وهو ما وافقت عليه إيران
بالفعل بعد تحطيم قوة العراق وسقوطه من معادلة القوى الإقليمية، لتحاكي الدور
التركي في تحالفه الأمني مع كيان الاحتلال الصهيوني.
لم تكن زلةً - إذن - أن تطلب الإدارة
الأمريكية من حكومة طهران أن تكون وسيطاً مع الأطراف الشيعية في العراق، فالمجال
مفتوح لمن لا يعلَم، والحوارات والجلسات السرية مستمرة بين الولايات المتحدة
وإيران بخصوص ترتيب أوراق المنطقة ومنها العراق؛ والتي تُعقد في الغرف الخلفية في
إيران تارة، وبعض أقطار المنطقة تارة أخرى.
فإيران لها مشروع نووي طموح، يرافقه حلم
إمبراطوري عبّر عنه الرئيس نجاد في
مؤتمر قمة الدوحة الأخيرة بـ « الخليج الفارسي »، على مرأى ست دول خليجية ومسمعهم،
ولن تتخلى عنه بسهولة؛ ولذلك تسعى إيران بكل قوة لامتلاك أوراق عسكرية واقتصادية
تقايض بها استمرارها في بلوغ أهدافها أو الجزء الأكبر منها، ولكن يبقى السؤال: هل
انتهت رغبة أمريكا حقاً في شن الحرب على الحليف العدو؟ وهل ستصنع مسوِّغاً جديداً
لتقوم بالحرب بشكل مفاجئ وسريع؟
لا يوجد نهج ثابت في لغة السياسة والحرب،
فقد يقع هذا بالفعل، لولا أن أطرافاً أخرى في المنطقة - وإن كانت أقل تأثيراً -
بدأت ترى في الوقت الضائع أن حرباً ضد إيران تعني إشعال الخليج وانهياره فوق رؤوس
سكانه؛ فدول الخليج إذا ما اندلعت حربٌ جديدة ستكون الخاسر الأكبر، لأن أي رد إيراني
انتقامي سيكون موجهاً إليها في الدرجة الأولى بعد كيان الاحتلال الصهيوني، وضرب
إيران إن حصل سيفتح شهية واشنطن بعدها لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة، وشنق
النظام السوري بأمعاء قيادات « حزب الله » بعد تجريده من السلاح.
هذا يفسر عدم سعادة بوش بالتقرير الذي أعدته
مخابرات بلاده عشيةَ وصول أحمد نجاد
إلى الدوحة يوم اشترك في مؤتمر القمة الخليجي على غير عادة المؤتمر المذكور، والذي
انتهى إلى أن إيران أوقفت نشاطاتها العسكرية النووية منذ عام 2003م، ولا يهم الآن
أن يكون التقرير صحيحاً تماماً أو كاذباً تماماً؛ فدماء العراق التي أهريقت على
منوال مثل هذا التقرير لا تزال ماثلة ولم تغيِّر من الواقع شيئاً، فلا العراق عاد
حراً، ولا أمريكا سحبت قواتها منه.
مجمل القول: إن سياسة إيران ستعتمد مستقبلاً
- كما كان في السابق - التقدم خطوة إن سحبت أمريكا قدمها خطوة في المقابل كما حصل
في ملفها النووي الآن، وستحاول ألا تعود للوراء مهما كانت التضحيات، إلى أن تتضح
معالم مشاركتها في النظام الدولي الذي تترأسه واشنطن وتلعب فيه دور الأب الروحي
كما هو الحال المعمول به بين عائلات المافيا.
القفزة التي حدثت في الخطاب الأمريكي
المثيرةُ للحيرة والجدل بشأن ملف إيران النووي؛ تستدعي من أطراف المنطقة إعادة
الحسابات فيما يمكن أن تكون عليه المواقف عندما تحين ساعة المصلحة وتتغلب على
غيرها.
حينها يتضح أن ازدواجية الأدوار التي قد
تبدو بين الحين والآخر ما هي إلا نكهة المسرح الدولي الذي يلعب فيه كثير من العرب
دور (الكومبارس) و (الدوبلير) المستعد دوماً لتلقي اللكمات ودفع الحساب نيابة عن
الباقين.
تأتي نقطة أخيرة تهم الطرف الإيراني وتؤرِّق
بعضاً عن مدى مصداقية التقارب الإيراني مع العرب عموماً، والخليج - الذي تصر إيران
على فارسيته - بصفة خاصة، مع بقائها تلعب دور السمسار المستفيد للسياسة الأمريكية.
يزيل هذا الإشكال الإيرانيون أنفسهم؛ فلسان أفعالهم يقول: « شرف لا أدّعيه.. وتهمة
لا أنكرها! ».
:: البيان تنشر - مـلـف
خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)