أزمة الخليج الرابعة .. هل تعيد الصراع بين الفرس والروم..؟!
كثيراً ما تختلط الأمور، وتختلف التفاسير،
وتتعدد الاحتمالات في قضية من قضايا الأحداث المعاصرة، حتى يذهب الناس بسبب ذلك
إلى تصور " سيناريوهات " متناقضة وضرب تخمينات متعارضة، تحت التأثر بتحليلات مرتجلة أو تسريبات
متعمدة، وعند ذلك؛ ربما يكون الحل للوصول إلى رؤية أقرب للصواب، أن يلتجئ الباحثون
إلى أمهات الحقيقة قبل بناتها، وإلى أصول الطريق بدل بُنَيَّانها، وإلى الثوابت
والأصول قبل المتغيرات والتفريعات، حتى لا نتشعب في شؤون القضية أو نتيه في
شجونها.
وقد مرت في العقود القليلة الماضية قضايا
وأحداث كثيرة من هذا القبيل، تضاربت آراء الناس حولها من عامة وخاصة، حتى ضربت
الأحداث الجميع بما كان الأكثرون لا يتوقعون ولا يصدقون، ومن ذلك على سبيل المثال
ما كان في حرب الخليج الأولى بعد الثورة الإيرانية، وما كان في حرب أفغانستان
الأولى بعد الانسحاب الروسي، وما كان في حرب الخليج الثانية بعد الغزو العراقي
للكويت، وما كان في حرب أفغانستان الثانية بعد أحداث سبتمبر، وما كان في حرب
الخليج الثالثة، بعد الإرجاف بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل؛ فقد كان الناس
في كل مرة يتساءلون بقلق: أتقع الحرب أم لا تقع...؟ أتثبت
الأطراف على مواقفها أم تتراجع...؟ أيحدث الدمار والاحتلال، أم يتغلب العقل
ويسود السلام...؟
واليوم تتجدد ظروف مشابهة، في أحوال مقلقة،
تتعلق بكل من القضية الفلسطينية بعد فوز حماس، والقضية العراقية بعد بشائر الهزيمة
الأمريكية، والمسألة الإيرانية بسبب ما استجد في ملفاتها النووية، وقبل ذلك كان
الانشغال بالقضية السورية بعد اغتيال الحريري، لكن الشاغل الأكبر، والتساؤل
الأخطر، تفرضه تداعيات الأزمة الإيرانية؛ لأنها باتت تمثل خطراً يفوق ما سبقه من
الأخطار، أياً كانت الاحتمالات في الحرب أو تأجيلها أو حتى في إلغائها.
والظاهر أن الأزمة - ولا أقول الحرب - سيطول
الجدال حولها، ولهذا فلا بأس من إطالة النَّفَس حول الغوص في خلفياتها؛ لمحاولة
استجلاء مستجداتها وتداعياتها؛ فالقضية ليست تصعيداً ثنائياً بين طرفين يمكن أن
تقتصر عليهما الأضرار والأوضار، ولكنها قضية ذات مخارج ومداخل إلى غيرها من
القضايا والساحات.
ولا بد من العودة - كما سبقت الإشارة - إلى
أصول المواقف وثوابتها لدى الأطراف، مع الإلمام بخلفياتها العقدية أو العنصرية
والمصلحية، والإلماح إلى تطوراتها التاريخية.
والأزمة الإيرانية الحالية، لها أطراف
متعددة؛ فالطرف الرئيسي فيها بعد إيران هو الولايات المتحدة الأمريكية، والطرف
الثالث هم العرب، وبخاصة دول الجوار الإيراني، والطرف الرابع هو دولة اليهود
(إسرائيل )، والطرف الخامس هو ما يسمى بـ (المجتمع
الدولي )، وأبرز أعضائه فيما يتعلق بتلك الأزمة هو
أوروبا و روسيا و الصين.
* نظرة في الخريطة الاعتقادية والعنصرية:
بالعودة إلى ثوابت المواقف في ضوء ذلك
سنراها على ما يلي:
1 - هناك نِدِّيَّة تقليدية بين كل من الغرب
النصراني والطرف الإيراني، وهذه الندية الضدية تعد امتداداً لما كان في سالف
الزمان من صراع اعتقادي وعنصري بين الفرس و الروم.
2 - أن هذا الصراع بين الطرفين؛ كانت ساحته
التقليدية عبر التاريخ، تمتد على طول المسافة بينهما من أقصى شرق العراق، إلى أقصى
غرب الشام، وما يحاذيهما من أراضي شمال الجزيرة العربية، إضافة إلى ضفافها
الشرقية.
3 - أن الطرفين المتصارعين على الرغم مما
بينهما من بغضاء وعداء على مر التاريخ، كانا ولا يزالان يشتركان في النظر إلى
العرب نظرة دونية، ملؤها الاحتقار، وهاجسها السيطرة والاحتكار، وفق مصالح الطرفين
فقط.
4 - أن هذه الكراهية المشتركة والممتدة عبر
التاريخ للعرب، كانت تمزج دائماً بين الحقد العنصري، والبغض العقائدي. فالفرس
كانوا قبل الإسلام يزدرون العرب عنصرياً، وبعد الإسلام كانوا إلا من طهره الله
بالدين الصحيح يتعالون على العرب دينياً ومذهبياً، ويحاولون أن يجعلوا من أنفسهم
حماة دين الإسلام الذي اختصروه كله في محبة أهل البيت بزعمهم. وأما النصارى
الغربيون، فقد كانوا قبل الإسلام وبعده يجمعون في موقفهم من العرب بين بغض عنصري
وحضاري وبُعد ديني.
5 - وأما الطرف الرابع، وهم اليهود، فلا يشك
أحد في أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، سواء كانوا عرباً أو عجماً؛ غير أن
بغضهم للعرب أشد؛ لأنهم يبغضونهم دينياً كمسلمين، وعنصرياً كعرب، وموقف هؤلاء
المغضوب عليهم من النصارى الضالين معلوم، فهم دائماً يتخذون منهم حميراً تُركب للوصول
إلى مآربهم، وموقف اليهود من الفرس قبل الإسلام كان فيه تقارب بسبب إعادة الفرس
ليهود السبي البابلي إلى فلسطين، وأما بعد الإسلام، فإن بغض العروبة كعنصر،
والسنَّة كمذهب، كان عاملاً مشتركاً بين اليهود وجمهور من الفرس المتشيعين، وهذه
هي الأرضية التي بنى عليها عبد الله بن سبأ اليهودي دعائم المذهب الشيعي، حيث
حملها فئام من الفرس بحماس، وتصدروا لها بإصرار؛ لأنها باختصار تقوم على بغض يهودي
فارسي للعرب، وكل ما يتفرع عن ذلك مجرد تفاصيل.
6 - وأما ما يسمى بـ " المجتمع الدولي " بدوله الكبرى، فإن الكِِبْر يجمعها، والمصالح
تفرقها، وهي وإن تلاقت مصالحها مع العرب حيناً، فإن غلبة العداوة تتغلب عليها
أحياناً، ولا نستثني من ذلك الروس أو الصينيين، فلم يحدث أن أنصفوا المسلمين
عموماً والعرب خصوصاً في أية قضية من قضاياهم المعاصرة، مع كامل قدرتهم على ذلك،
لا بل إن سياسة الروس على وجه الخصوص، كانت دائماً الطعن في الظهر، مع التبسم في
الوجه.
وخلاصة تلك المواقف، هي أن أهل السنة بعامة،
والعرب منهم خاصة، هم مجمع عداء الجميع، وموضع مكر الجميع، في الماضي والحاضر
والمستقبل، وعليهم جميعاً أن يعوا درس التاريخ في ذلك.
* بين
الفرس والروم... إطلالة تاريخية ضرورية:
ربما يحتاج المقام في هذا المقال إلى إعادة
وصفي (الفرس) و (الروم) للتعبير
بهما عن الإيرانيين وأشباههم من جهة، وعن الأوروبيين و الأمريكيين من جهة أخرى،
ولا غضاضة عندنا ولا عند الأطراف المعنية في ذلك، فالإيرانيون لا يزالون ينتسبون إلى
الفرس عنصرياً، وكان الفرس على مرّ الزمان فيهم مؤمنون أبرار، وفيهم منافقون،
وفجار، وكفار، و الإيرانيون اليوم يتيهون فخراً بحضارة فارس، ولغتها، ومقدساتها.
وقد كانت إيران حتى مجيء الشاه رضا بهلوي تسمى (بلاد فارس )،
ولا يزال العالم يستغرب من إصرار إيران على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي.
والعرب قبل الإسلام، كانوا يبادلون الروم
الشعور بالتعالي العنصري، فقد كانوا على ذلتهم وقلتهم يستنكفون أن يصاهروا العجم،
حتى ولو كان العرب أدنى منهم وتحت هيمنتهم، ولما طلب (كسرى إبرويز) إحدى
النساء من أسرة (ابن المنذر) ليتزوجها، رفض النعمان تزويجها لأعجمي،
فاستعظم ذلك من أحد عماله، وعزم على الفتك بالنعمان، فتحالفت القبائل العربية مع
المناذرة ضد الفرس، ووقعت معركة (ذي قار) التي انتصر فيها العرب على الفرس لأول مرة
في التاريخ.
وقد درجت الشعوب على الاعتزاز بأصولها
العنصرية مهما اختلفت أطوارها الاعتقادية، فالفرس سيظلون فرساً، والعرب سيبقون
عرباً، والروم هم الروم، إلا أن الإسلام أراد قطع دابر التدابر والاختلاف والتفاضل
بشأن تلك الانتماءات العنصرية التي لا اختيار للإنسان فيها، ودلَّ الناس على
التنافس بما هو في وسع الإنسان وقدرته. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام. قال راوي الحديث: قلت: الروم؟ قال: نعم! " [1]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون الروم، فيفتحها الله، ثم تغزون
الدجال فيفتحه الله "، قال نافع: يا جابر! لا أرى
الدجال يخرج حتى تفتح الروم " [2]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من
المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ " [3]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " [4] وقال: " ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم " [5].
وأما الروم الأوربيون الغربيون، ومن تفرع
عنهم من الأمريكيين، فوصفهم بالروم قديماً، يبدو أنه سيعاد استعماله كلما تقارب
الزمان، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ستصالحون الروم صلحاً آمناً، وتقاتلون معهم عدواً من غيركم... " [6].
والروم عند العرب هم: الأمة
التي تتكون من اليونان و الرومان، المنحدرين من الأصل اللاتيني، وأول مواطنهم
إيطاليا حالياً بعاصمتها (روما ). وبعد انتشارهم شرقاً وغرباً، كان العرب
يطلقون على سكان أوروبا و آسيا الصغرى اسم الروم، دون نظر إلى الأصل اللاتيني،
وباستمرار اتساع وجود الروم؛ هيمنوا على منطقة الشام، وكان العرب ينظرون إليها على
أنها جزء من سلطان الروم.
وأما الفرس، فموطنهم القديم هو أرض إيران،
فإيران تنسب إلى قبائل (الآريين) التي هاجرت من موطنها الأصلي جنوبي بحر
الآرال إلى الهضاب المرتفعة أسفل بحر قزوين، فإيران معناها: موطن
الآريين.
والجنس الآري والجنس السامي، هما الجنسان
الرئيسان اللذان يعدهما العديد من المفكرين الغربيين أساس تقسيم شعوب العالم،
ويذهب الكثير منهم إلى أن الجنس الآري متفوق على الجنس السامي، عقلياً ونفسياً،
وهذه النظرة العنصرية التي تنطلق من تفوق العرق أو العنصر الآري، هي نفسها التي
كان ينظر بها هتلر والنازية الألمانية، في سلوكهم العنصري المتعالي على البشر، وهي
ذاتها التي كان ينظر بها الفرس إلى كل من: العرب
والروم.
" يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل
لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا
بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " [7].
ولقد كانت الصراعات سجالاً بين الفرس
والروم، وكانت أكثر الأطراف الحاضرة في الصراع القديم هي نفسها الأطراف المتنافسة
حالياً عرقياً ودينياً: فرس، وروم، وعرب، ويهود، ووثنيون، وكانت
ساحة الصراع في الغالب تلك الأراضي الممتدة بين العراق، والشام، و مصر، وشرق جزيرة
العرب.
ولما وقعت المنازلات بين المسلمين والروم في
صدر الإسلام، كانت على أرض الشام، ولما أقبل المسلمون على نزال الفرس كانت المعارك
الأولى على أرض العراق.
فرحى التنافس التاريخي بين الفرس والروم،
كانت دائماً تلك المناطق الثلاث من بلاد العرب، واليوم تكاد تتكرر الصورة، ونرى
العراق أصبح ساحة تنافس بين الفرس والروم المعاصرين، دون أي اعتبار لسكان البلاد
الأصليين، وكذلك تزداد ملامح التنافس بينهما على الشام وشرق الجزيرة العربية لتكشف
أن هناك استقطاباً بين المتحالفين مع الفرس، وبين المتحالفين مع الروم.
ومن العجيب أن فارس والروم سيظلان عدواً
للمسلمين في العراق والشام، حتى إن الحصار الشديد الذي يفرض وسيفرض على المسلمين
في البلدين، سيكون منهما، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين
ذلك؟ قال: من قِبَل العجم، يمنعون ذلك، ثم قال: يوشك
أهل الشام ألا يجلب إليهم دينار ولا مدى، قلنا: من أين
ذاك؟ قال: من قِبَل الروم " [8].
وهناك فصول من التاريخ: قديمه،
ووسيطه، وحديثه تحكي طبيعة ذلك الصراع المزمن، الذي إن تجمَّد مرة بين بعض
الأطراف، فإنه سرعان ما يعود مرات وكرات.
وسأذكر أبرز تلك المحطات بدءاً من الزمن
القديم، مروراً بالوسيط، ووصولاً للعصر الحديث؛ لكي نربط ذلك بعصرنا الراهن، وربما
ما يأتي بعده.
* خضعت قبائل الآريين أو الإيرانيين الأوائل
في البداية لحكم الآشوريين في العراق، ثم لم يلبثوا أن استقلوا عنهم، ثم انقلبوا
عليهم، وبعد نهوض الفرس كدولة قوية، تحولوا في عهد الحاكم الفارسي (قورش الإخميني) إلى
إمبراطورية، تأسست قبل 550 سنة من ميلاد المسيح عليه السلام، وكان اليهود آنذاك في
السبي البابلي في العراق، فأعادهم قورش إلى فلسطين عام 538 قبل الميلاد، بعد أن
كان الملك البابلي (بختنصر) قد أجلاهم من بيت المقدس إلى بابل وهو ما
أنشأ تقارباً بين الفرس واليهود.
* بدأ الصراع المبكر بين الفرس والروم منذ
عهد اليونان، وقد تمكن الفرس من إثارة الفتن بين الروم القدامى من اليونانيين، حتى
تحارب شعبا إسبرطة و أثينا حروباً استمرت نحو 150 عاماً، وظل الفرس إلى سنة 334
قبل الميلاد القطب الوحيد في العالم، قبل أن تنشأ للروم قوة عالمية وثنية مضادة؛
وذلك عندما ظهر الإسكندر الأكبر، كأعظم قائد تاريخي في أوروبا أسس إمبراطورية
كبرى، وأسقط دولة الفرس عام 334 قبل الميلاد، ليصبح الروم هم القطب الأول والوحيد
في العالم.
* بعد موت الإسكندر، ضعفت إمبراطوريته،
وقسمت بين قادته، وصارت فارس تحت هيمنة أحدهم باسم (الدولة السلوقية) التي
ضمت: إيران، والعراق، والشام، وآسيا الوسطى لمدة ثمانين
عاماً، وهو ما اعتبر هيمنة رومية على بلاد الفرس وما حولها. غير أن تلك الهيمنة
زالت على يد القائد الفارسي (أرشك) الذي هزم السلوقيين، وأقام الدولة الأرشيكية
الفارسية التي استمرت نحو خمسة قرون من 247 قبل الميلاد إلى 224 للميلاد.
* قامت بعد الأرشيكيين دولة الساسانيين، بعد
أن أسسها الحاكم الفارسي (أردشير) في عام 224 من ميلاد المسيح عليه السلام،
وقد أحيا ذلك الحاكم حضارة الفرس، وبعث الديانة الزرادشتية [9]، وخلفه في الحكم ابنه شابور الذي قهر
الإمبراطورية الرومنية، وأسر الإمبراطور الروماني عام 260 للميلاد، وفي عهد شابور
ظهرت الديانة المانوية [10]، وقد دان الإيرانيون بعد تلك الديانة القادمة من العراق بديانة أنكر وأكثر
وثنية وهي (المزدكية) الداعية إلى الشيوعية في الأموال والنساء؛
التي ظهرت في عهد الإمبراطور (هرمز) الذي خلف شابور، وقد تسببت تلك الديانة في
انهيار وانحدار الأمة الإيرانية.
* وظل الإيرانيون على ذلك التخلف الحضاري
حتى قُرب مجيء الإسلام، حيث كان على رأس السلطة آنذاك كسرى أنو شروان، حيث قضى ذلك
الإمبراطور على الديانة المزدكية، وحاول أن يعيد الاستقرار إلى إيران، وفي فجر
الإسلام وقعت صدامات كبرى بين الفرس والروم، تغلب الفرس الوثنيون فيها أولاً على
الروم النصارى، ثم كانت الغلبة للروم، كما أخبر القرآن بعد بضع سنين، وقد بعث
النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى بن هرمز برسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، إلا
أن ازدراء الكبرياء الفارسي للعرب، جعله يسخر من الرسالة ومرسلها -صلى الله عليه
وسلم-، فمزق كسرى الرسالة، فدعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يمزق
الله ملكه كل مُمَزَّق [11].
* أجيبت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-،
ومزق الله -تعالى- مُلك فارس، وصار كسرى آخر الأكاسرة الفرس، وصدقت نبوءة النبي
-صلى الله عليه وسلم- عندما قال: " إذا مات كسرى فلا كسرى بعده، وإذا مات قيصر
فلا قيصر بعده "، وقد زالت بالفعل تلك المسميات للحكام، وإن
بقيت الشعوب من الفرس والروم، وولَّى الفرسُ أمرَهم امرأة هي (بوراندخت )،
ثم أختها (أزارمادخت) ابنة كسرى وصدق فيهم آنذاك قول النبي -صلى
الله عليه وسلم-: " ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة " [12]، حيث خنعت تلك النساء للروم، وتعاظم أمر الروم على حساب الفرس مرة أخرى.
* شاء الله أن يكون الاقتتال الأخير في فجر
الإسلام بين الفرس والروم، إضعافاً لوجود الطرفين على أطراف الجزيرة العربية، وهو
ما مهد للمسلمين أن يقاتلوهما معاً على التوحيد، فلم يكد يمضي على وفاة النبي -صلى
الله عليه وسلم- عشر سنين، حتى غزا المسلمون أرض فارس، لينتصر العرب تحت راية الإسلام
على الفرس انتصاراً عظيماً كسر كبرياءهم، وأطفأ نارهم التي كانت تعبد من دون الله،
وذلك في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أصبح اسمه غُصة في حلق كل فارسي
مجوسي، لا يؤمن بالله ورسوله حق الإيمان.
* وبدخول المسلمين المدائن عاصمة الفرس،
سقطت دولة الساسانيين التي استمر حكمها مدة 416 سنة، ودخلت جموع من الفرس في
الإسلام صادقين، إلا أن جموعاً أخرى ظلت حاقدة على الإسلام، رغم دخولها الظاهري
فيه؛ فقد احترقت قلوبهم بسبب انطفاء نار فارس على يد العرب، الذين كانوا بالأمس في
ظل جاهليتهم عبيداً أذلاء، فأصبحوا في رحاب الإسلام سادة أعزاء، وفاتحين أقوياء،
بدؤوا فتوحهم خارج الجزيرة ببلاد فارس بعد الانطلاق من العراق.
* ظل العراق موضع سخط المنافقين من الفرس،
وغدا حلقة جديدة من حلقات الازدراء العنصري للعرب، وخاصة أنه أصبح إحدى حواضر
المسلمين العامرة بعد فتحه، وهو ما أنشأ نوعاً من التعاون بين الحاقدين من الفرس
والحاسدين من اليهود على الدعوة الإسلامية، فانبرى أحد اليهود ذوي القلوب السوداء،
وهو عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، فأطلق دعوة للتفريق بين المسلمين، وبعد
أن أظهر الدخول في الإسلام نفاقاً، سعى بالإفساد والفرقة؛ بالغلو في تقديس بعض
الصحابة من جهة، والغلو في الحط من قدر بعضهم الباقي من جهة أخرى، وكانت دعوى
الانحياز والتشيع لأهل البيت ضد غيرهم من الصحابة، أساس دعوة ذلك اليهودي كما هو
معروف، وقد تفاعلت جرعات السم التي دسها ابن سبأ في الجسد الإسلامي، حتى تفاقمت
الفتن وكان أولها وأشدها، فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
* ساغ لكثير من الفرس أن يعتنقوا المذهب
الشيعي على خلفية البغض للعرب، واكتسى ذلك البغض العنصري بلون ديني، يصور جمهور
العرب بأنهم تآمروا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى أهل بيته، وأصبحت كلمة
(النواصب): أي الذين ناصبوا علياً رضي الله عنه و آل
البيت العداء، معبرة عندهم عن المسلمين من العرب السنة. وظل الشيعة فرساً وعرباً
على الرغم من تعالي فُرسهم على عربهم معادين لكل الخلفاء والأمراء من غير الشيعة
طيلة حكم الدولة الأموية، وقد ساعدوا في إسقاطها؛ تأييداً للدولة العباسية التي
انتسب مؤسسوها إلى أهل البيت.
* بعدما قامت الدولة العباسية نسبة إلى
العباس عمّ النبي -صلى الله عليه وسلم- تغلغل الفرس في أجهزتها، حتى أصبح البرامكة
الفرس من ذوي الشأن والمكانة فيها، ومن وقتها بدأت شوكة الفرس تقوى، وصارت هناك
دويلات مستقلة عن الحكم العربي، منها دولة الطاهريين، ودولة الصفاريين، ودولة
الزياريين.
ثم جاءت دول تحكمها أسرٌ من الأتراك
القريبين من الفرس، كالغزنويين و الخوارزميين، وبالرغم من أن الفرس كانوا طوال تلك
الحقب من أهل القبلة الإسلامية، سواء كانوا في مذاهب سنية أو شيعية؛ إلا أن
الاعتداد بالعنصر الفارسي، لم يفارق الأكثرية منهم إلا من رحم الله، من الذين
عرفوا بحق أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى.
* في حملة الروم الكبرى على الشرق الإسلامي،
والمعروفة في التاريخ بـ (الحروب الصليبية) والتي
بدأت عام 488 هـ 1095م، كانت الشام ومصر خاضعتين لحكم العبيديين الشيعة المسمين بـ
(الفاطميين) وكان بين الروافض وبين أمراء السلاجقة
الأتراك السنة، صراع وتنافس؛ ولهذا شجع الروافض قدوم الصليبيين إلى الشام، أملاً
في تدمير إمارات السلاجقة، وبدأ هؤلاء الروافض يسهلون للصليبيين ويرحبون بقدومهم [13].
* وعندما غزا المغول الشرق الإسلامي بعد
غزوهم للصين، كانت إيران من أوائل المناطق التي اجتاحوها، ثم واصلوا الزحف حتى
العراق، فأسقطوا دولة الخلافة العربية العباسية، وكان مقدم المغول إلى عاصمة
الخلافة غير بعيد عن إغراءات الشيعة لهم بذلك، حيث أرادوا إحلال خليفة شيعي بدلاً
من الخلفاء السنة، رغم تقريب بعض هؤلاء السنة لهم عن غفلة أو تغافل، وقد كان لـ
(نصير الدين الطوسي) الفارسي، و (مؤيد الدين بن العلقمي) وأشباههما
وحلفائهما من الفرس، دور كبير في التغرير بالمسلمين في العراق، وإغراء الأعداء
التتار الوثنيين بهم.
وبعد العراق استباح التتار بلاد الشام، وطفقوا
يستعدون لغزو مصر، إلا أن شوكتهم كُسِرَتْ عند (عين جالوت) سنة
(658هـ )، وارتدوا على أدبارهم، فغادروا الشام ثم
العراق، وأنشؤوا لهم دولة في الشمال الغربي لإيران، وهي (الدولة الإيليخانية) التي
اتخذت (تبريز) عاصمة لها.
* انتعشت الرغبة في الغزو عند المغول مرة
أخرى، بعد دخولهم في الإسلام على دَخَل، فبعد إسلام قائدهم (قازان) حفيد
هولاكو، سيطروا على جزء كبير من غرب إيران ردحاً من الزمن، ثم غزا الحاكم المغولي
التركي (تيمور لنك) بقية بلاد فارس عام (1405م )،
ثم انتقل عبر العراق إلى الشام، واجتاح آسيا الوسطى، وظلت إيران تحت حكم
التيموريين السُنة حتى حدث التغيير الجذري في عهد الصفويين.
* أسس إسماعيل ميرزا شاه الدولة الصفوية عام
914هـ / 1508م، وأعلن المذهب الشيعي مذهباً رسمياً
في إيران، وسميت تلك الدولة بالصفوية؛ نسبة إلى صفي الدين الأردبيلي المتوفى سنة
650هـ، وقد كان هذا الرجل من شيوخ الصوفية التقليديين وكان شافعي المذهب، إلا أنه
تحول للمذهب الشيعي، وصار داعية له، حتى كثُر أتباعه، وتحولت الصفوية من دعوة إلى
دولة، وتوسعت من العراق إلى أفغانستان.
* وقد ناصبت الدولة الصفوية دولة الخلافة
العثمانية العداء، وحاول الصفويون الإيرانيون الاستعانة بغرمائهم القدامى من الروم
الصليبيين على العثمانيين المسلمين السنة، بل كان لهم دور كبير في إيقاف المد
الإسلامي إلى داخل أوروبا، فقد كانت مؤامراتهم سبباً في إيقاف جيوش العثمانيين عند
أبواب فيينا. لكن السلطان العثماني (سليمان الأول) ألحق
بالصفويين هزيمة موجعة عام 920هـ 1514م. لكن الصفويين ظلوا على عهد الشقاق
والمحاربة لجيرانهم من المسلمين السنة، حتى سقطت دولتهم على يد الأفغان بقيادة
(محمود خان) الذي غزا أرض فارس، واستولى على العاصمة
أصفهان (مخرج الدجال )، وقامت بعد الدولة الصفوية الشيعية عدة
دول؛ هي الدولة الأفشارية، ثم القاجارية التي اتخذ حاكمها (آغا محمد خان) من
طهران عاصمة لإيران.
* ثم جاء عصر الاستعمار الأوروبي الحديث،
ليكون حلقة جديدة من حلقات الصراع بين الفرس والروم، حيث تدخّل النصارى الإنجليز،
ومعهم النصارى الروس في شؤون إيران، وأرغموا الإيرانيين على تنازلات وتسهيلات،
دعمت مصالح الإنجليز، ومكنت الروس من السيطرة على بلاد القوقاز (جورجيا، و
أرمينيا، و أذربيجان، و الشيشان ).
* وظلت إيران منطقة تنازع مصالح بين الروس
والإنجليز، حتى مطلع القرن العشرين؛ حيث كانت روسيا تسعى دائماً للسيطرة على
إيران؛ لتنفذ منها إلى المياه الدافئة في الخليج، وهو الهدف نفسه الذي كانت
إنجلترا تسعى إليه.
وقد احتدم النزاع بين الطرفين المتنافسين
إلى درجة إعلان إنجلترا الحرب على إيران للحصول على مصالحها بالقوة رغماً عن
الروس، وبالفعل تمكنت بريطانيا بعد حربها مع إيران من الحصول على امتيازات لإنشاء
طرق المواصلات، والسكك الحديدية، والتنقيب عن النفط والمعادن في إيران لمدة سبعين
عاماً، بدأت من سنة 1872 للميلاد.
* دخلت (روما الجديدة) أو:
الولايات المتحدة الأمريكية على خط الأطماع في (فارس الجديدة) أو: إيران،
ففتحت لها سفارة طهران سنة 1882م، ونشأ في إيران جيل مستغرب جراء تغلغل الثقافة
الغربية في بلاد الفرس، وبعد الحرب العالمية الأولى سادت إيران موجة من الفوضى،
حيث كانت قد قسمت إلى مناطق نفوذ بين الروس والإنجليز. لكن إيران لم تخضع كلياً
للاحتلال في العصر الحديث مثلما حدث لمعظم بلدان المسلمين؛ التي وقعت فريسة للغارة
الغربية على العالم الإسلامي، فالنصارى الإنجليز احتلوا العراق، واحتلوا بالتقاسم
مع الفرنسيين أرض الشام في غياب الغريم التاريخي في أرض فارس.
* بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بعامين،
قام أحد ضباط الجيش الإيراني وهو: (رضا بهلوي) بانقلاب
استولى فيه على السلطة، ثم أعلن نفسه ملكاً على البلاد عام 1925م، ولقب بـ (الشاه) يعني: الملك.
وقد عمل على تخليص إيران من النفوذ الغربي،
وتقويتها اقتصادياً وعسكرياً، وكانت إيران حتى ذلك العهد يجري التعامل معها على
أنها بلاد فارس، إلا أن رضا خان اختار لها اسم (إيران )،
كاسم رسمي للدولة البهلوية، ولما قامت الحرب العالمية الثانية رفض أن ينضم إلى
الحلفاء: (إنجلترا، و فرنسا، وروسيا )،
فاضطره الإنجليز أن يتنازل عن العرش، ويغادر إيران إلى جنوب إفريقيا، وظلّ فيها
حتى مات سنة 1940م.
* خلف الشاه (رضا خان) ابنُه
الشاه (محمد رضا بهلوي )، بعد سماح الغرب له بذلك. وبعد تعيينه
بعام، حسم الغرب نزاعه مع الروس في إيران، بأن ضغطت أمريكا المنتصرة في الحرب على
روسيا للانسحاب من الأراضي التي كان احتلها (ستالين) في
الشمال الغربي من إيران أثناء الحرب العالمية الثانية، وحاول الشاه الشاب أن يسير
خطوات أخرى نحو استقلال إيران، حيث أممت الحكومة الإيرانية في عهد رئيس وزرائه
(محمد مصدق) البترول الإيراني الذي كانت إنجلترا تحتكر
السيطرة عليه بامتيازات سابقة، لكن إنجلترا ردّت بتجميد أرصدة إيران في بنوكها،
وفرضت حظراً تجارياً على إيران، أدى إلى انهيار الاقتصاد الإيراني، وتحالفت أمريكا
مع بريطانيا لإسقاط حكومة مصدق؛ كي تؤمن النفط ضد التأميم من جهة، وأن تَحُول دون
تَحَوُّل إيران إلى الشيوعية من جهة أخرى.
* بعد إسقاط حكومة (مصدق )،
بدأت إيران فترة من الارتماء في أحضان الغرب، واستغل الشاه تلك الفترة في إعادة
بناء البلاد على أسس حديثة في ظل انتعاش اقتصادي، لكن هذا الانتعاش الاقتصادي،
واكبه انهيار ثقافي وأخلاقي؛ بسبب الغزو الفكري الغربي لإيران، وهو ما استغلته
القيادات الدينية الشيعية بزعامة " آية الله " الخميني، الذي قاد ثورة دينية شيعية أطاحت بالحكم الملكي عام 1980م، وحولت
إيران إلى جمهورية إسلامية شيعية فارسية؛ لتبدأ حلقة جديدة من الصراع بين الفرس
والروم تحت شعارات دينية، وعلى أراضٍ عربية.
* حرب الخليج الأولى وبواكير الصراع الجديد:
بدأت دورة جديدة من الصراع بين الفرس والروم
بمجيء الخميني، فبعد أقل من عام على بدء الثورة، اقتحم الطلبة الإيرانيون
(الطالبان الشيعة) سفارة أمريكا في طهران واحتجزوا 52 رهينة من
الأمريكيين، وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية تحريرهم بالقوة في عملية عسكرية
خاطفة، إلا أن العملية فشلت، وتسبب فشلها في إسقاط الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي
كارتر) في الانتخابات الثانية، وقطعت الولايات
المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، وبدأت تمارس عليها ضغوطاً اقتصادية شديدة،
فرد (الخميني) بإعلان ثورة ثقافية؛ لتخليص إيران من آثار
الحقبة البهلوية التي أغرقت البلاد في التغريب، وقد اقتضت هذه الثورة أن تغلق
الجامعات والمعاهد العليا لمدة عامين، ريثما تتغير البيئة التعليمية ليعاد بناؤها
على أسس شيعية فارسية صرفة، وهو ما أنشأ جيلاً كاملاً حاملاً للتعصب الشيعي
بخلفيات فارسية عنصرية.
وقد أثارت الأحداث الملتهبة للثورة
الإيرانية، موجة من الحماس في العالم الإسلامي مع تلك الثورة، إلا أن الوعي العام
للأمة لم يكن كافياً لإدراك أن تلك الثورة " الإسلامية " لم تكن إلا ثورة مذهبية شيعية، تعمل لحساب
الشيعة فقط؛ بل لحساب الشيعة الفرس فقط، وهذا ما أثبتته الأيام والوقائع، ولا زالت
تثبته.
شاء الله -تعالى- أن تكون إلى جوار تلك
الدولة الفتية الناشئة على القومية الفارسية بغلو ظاهر، دولة أخرى تحاول تَزَعُّم
العرب تحت راية القومية العربية بغلو لا يقل عن غلو الفرس في قوميتهم. وحاول الروم
استغلال نتن الجاهليتين: الفارسية والعربية، غير مغفلين تأجيج
الخلافات المذهبية للإيقاع بينهما في حرب ضروس، تستنزف أرواح، وأموال، ومقدرات
البلدين، بل ما حولهما من البلدان.
وفي وقت كان فيه (صدام حسين) أحد " عمال " الروم في بلاد العرب، أغرت أمريكا (صدام) بالتحرش
بإيران، فاستغل (صدام) بعض النزاعات الحدودية، وهاجم غرب إيران في
22 سبتمبر 1980م؛ لتبدأ بعدها حرب طويلة بين العراق وإيران، كانت صورة مصغرة من
الحروب القديمة بين الفرس والروم، حيث وقف الروم بكل ثِقَلِهم وراء العرب، أو
بالأحرى وراء الضغط على العرب؛ لكي يحرز الروم الجدد انتصاراً ضد الفرس الجدد،
بدماء وأرواح العرب والمسلمين وفي أكثر بلدانهم ثراء ورخاء. واستمرت الحرب في
شدّتها وحدتها مدة ثمانية أعوام؛ لتكون أطول حروب القرن العشرين.
وبما أن العرب والفرس معاً كانوا ولا يزالون
من ألد أعداء الروم على التاريخ، فقد حرصت الولايات المتحدة على ألا تسفر هذه
الحرب عن انتصار أحد من الطرفين؛ بل كانت سياستها المعلنة أن يُهلك كل من الطرفين
الآخر، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي اليهودي الأسبق (هنري كيسنجر) عندما
قال: " استراتيجيتنا في هذه الحرب، ألا تنتصر
إيران، وألا يهزم العراق ". وظل الأمريكيون يؤججون نيران هذه الحرب
بأشلاء ودماء الضحايا من الطرفين، حتى زاد عدد قتلاها عن مليون قتيل، والسلاح الذي
كان يتقاتل به الطرفان كان يأتيهما من أعداء الأمس، روسيا وأمريكا، فأمريكا كانت
تدعم العراق بسلاحها، وروسيا كانت تدعم إيران. بل كانت الولايات المتحدة تمد
الطرفين معاً بالسلاح، في فضيحة اشتهرت بفضيحة " إيران كونترا ".
وقد تسببت تلك الحرب في تعطيل المد الثوري
الإيراني، وتفنن (صدام حسين) في كسر كبرياء الشيعة الفرس، وهو ما أمد
شياطين الفُرقة بطاقة رهيبة من البغضاء والحقد، صبوها مباشرة في أفئدة الشيعة في
العالم على كل ما يمت إلى العرب السُّنة بصلة؛ مع أن السنة والعروبة بريئان من تلك
العنجهية الجاهلية التي قاتلت باسم القومية العربية ضد القومية الفارسية لحساب
الروم.
وانتهت حرب الخليج الأولى بلا غالب ولا
مغلوب كما أحب الأمريكان، وتجرع (الخميني) مرارة
الهزيمة التي عبر عنها أثناء توقيع الهدنة بأنها: أسوأ من
كأس السم؛ ليضاف ثأر آخر من ثارات الشيعة أو " ثارات الحسين " التي ظلت تنتظر ظرفاً مناسباً تنفّس فيه عن
نفسها.
وقد خرج (صدام حسين) من
هذه الحرب أقوى مما كان قبلها، برغم عدم إحرازه نصراً حاسماً على إيران، ولم تكن
هذه القوة العراقية الجديدة داخلة في حسابات الأمريكان، فأغروا (صدام) بمغامرة
أخطر من مغامرته ضد إيران، بأن أعطوه ضوءاً أخضر لاحتلال إحدى أكثر الدول دعماً له
أثناء حربه مع إيران وهي الكويت، وعندما ألمح الرئيس العراقي (صدام حسين) للسفيرة
الأميركية في بغداد (أبريل جلاسبي) بأنه: قد يقوم
بعمل ضد الكويت لاعتدائها على نفط العراق، ألمحت تلك السفيرة له بأن: هذا شأن
عربي داخلي، لا شأن لأمريكا به!! والتقم (صدام) الطعم
طائعاً، وسارع إلى تحريك قواته لغزو الكويت، فدخل عاصمتها في شهر أغسطس 1990م.
ووفر بذلك فرصة نادرة للولايات المتحدة؛
لتحشد حلفاءها من الروم، والعرب، والعجم؛ كي تقضي على قوة (صدام) التي
أنفقت لبنائها مئات المليارات من ثروات العرب والمسلمين.
وكان طبيعياً أن تفرح إيران بتلك الحرب،
وتستغل أجواءها وأصداءها.
وقد حاول (صدام حسين) أن
يحسِّن من علاقته مع إيران، فأمر بالإفراج عن آلاف الأسرى، ثم أرسل عدداً من
الطائرات الحربية المقاتلة لتأمينها في إيران من القصف الأمريكي، غير أن إيران
صادرتها ولم تُعِدْها للعراق.
وبعد حرب الخليج الثانية، وإخراج (صدام) من
الكويت، بدأت الولايات المتحدة مرحلة من التحرش بالبلدين معاً، وبدأت استراتيجية
احتواء مزدوج لهما، ففرضت على العراق حظراً جوياً، وبحرياً، وتجارياً، استمر حتى
حرب الخليج الثالثة عام 2003م. وتسبب الحصار في إعادة العراق إلى حالة من الفقر
والتخلف لم تمر عليها قط، وتسبب أيضاً في قتل الآلاف المؤلفة من العراقيين لعدم
توافر الدواء، وكان منهم نحو نصف مليون طفل عراقي.
وفرضت أمريكا أيضاً حظراً على جميع أنواع
التجارة مع إيران في 6 مايو 1995م، وبعد ذلك بعام أصدرت قانوناً يعاقب أي شركة في
العالم تستثمر في إيران، وبدأت أمريكا في الوقت نفسه تدعم توجهاً بدا مسالماً
للغرب داخل إيران، وهو التيار الإصلاحي الذي جاء بـ (محمد خاتمي) إلى
السلطة في 23 مايو 1997م. وقد وقعت إيران بعد مجيئه في حالة استقطاب بين: من
يرغبون في التهدئة مع الغرب وهم الإصلاحيون، ومن يرغبون في التشدد معه، لكن أجواء
الأحداث العالمية غلبت صوت المتشددين، خاصة بعد أن وضعت الولايات المتحدة
الأمريكية إيران كضلع ثانٍ في محور الشرِّ الثلاثي: العراق،
وإيران، و كوريا الشمالية، وهو محور يرمز إلى عداوة الفرس، والعرب، والصينيين، أشد
الأعداء مع الأمريكان من النواحي الدينية والعنصرية، وبدا أن الولايات المتحدة
التي قضت على الضلع الأول من المحور وهو العراق من خلال حربي الخليج الثانية
والثالثة، تريد أن تهيئ لحرب خليج رابعة، تقضي فيها على الضلع الثاني من محور الشر
كما أسمته.
وقد أفرز هذا الجو المشحون، مجيء قيادة
إيرانية ثورية، أعادت الصراع بين إيران والغرب بقيادة أمريكا إلى المربع الأول...
ليبدأ الفصل الأكثر إثارة وجسارة، وربما خسارة بين الفرس والروم المعاصرين، غير
بعيد عن أرض العرب، وثروات العرب، وشعوب العرب.
فما هي الاحتمالات؟ وما هي
الاستعدادات؟ وما هي التداعيات؟
هذا ما سوف نتناوله في عدد قادم بإذن الله.
:: البيان تنشر - مـلـف
خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)
(1)
أخرجه مسلم - كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 5160، وهو في حكم المرفوع، لأنه لا
يقال من قبل الرأي.
(2) رواه مسلم 2900.
(3) رواه مسلم 2897.
(4) رواه مسلم 2998.
(5) رواه أبو داود بسند صحيح 4292.
(6) أخرجه أبو داود كتاب الجهاد رقم
2386 و ابن ماجه كتاب الفتن رقم 4079 و أحمد رقم 16222.
(7) صحيح الترغيب والترهيب 2964.
(8) رواه مسلم 2913.
(9) الزرادشتية: هي ديانة المجوس بعد
التعديلات التي أجراها (زرادشت) الذي عاش في الفترة التقريبيه (247 ق م إلى 224
للميلاد) وقد دعا (زرادشت) إلى عبادة إلهين هما: إله الخير (أهورامازادا) وإله
الشر (أهريمان) وكانت الزرادشتيه ديانة دنيوية تركز على الاستمتاع بمباهج الحياة،
وتعظيم زرادشت للنور تفرع عنه تعظيم النارل؟ أنها مصدر النور في الظلام.
(10) المانوية: التي تدعو لثنائية
الآلهة أيضا، ولكنها كانت تعود للزهد والتقشف.
(11) انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم
رقم (64).
(12) أخرجه البخاري 7099.
(13) يلاحظ أن الروافض على مر التاريخ،
تحركهم مرجعيات دينية فارسية، مهما كانت انتماءاتهم القطرية، فالإيرانيون يحتكرون
منذ ألف عام مناصب المرجعيات الدينية، وهم ينشؤون (طلاب العلم) في قم بأن العربي
بحكم تكوينه العقلي، لا يصلح أن يكون قائدا دينيا، ولهذا نلاحظ أن أكبر مراجع
الشيعة في العالم - حتى في العراق العربي - من الفرس، ومن تأمل في ذلك وجد العجب.