• - الموافق2024/12/12م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هدايات سورة المائدة

هدايات سورة المائدة


بطاقة تعريفها:

- اسمها:  سورة المائدة لاشتمالها على قصة نزول المائدة من السماء، وسورة العقود لاستهلالها بالأمر بالوفاء بالعقود، والمنقذة لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب [1] ، وسورة الأحبار لتكرر ذكرهم فيها [2] ، كما تسمى سورة الأخيار  [3].

- عدد آياتها:  مائة وعشرون عند الكوفيين، ومائتان واثنتان وعشرون عند أهل الحجاز والشام، ومائتان وثلاث وعشرون في عد البصريين [4].

- ما اختلف نزولا عن السورة: مدنية كلها [5]

- ترتيبها نزولا: عدت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول،حيث نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة [6].

- فضلها:   تعتبر سورة المائدة من طوال سور القرآن، ومن أجلها منزلة وأعلاها مكانة، وكغيرها من السور المدنية تناولت القضايا التشريعية، كما هو شأن سورة البقرة ، والنساء ، والأنفال، إلى جانب احتضانها موضوع العقيدة ، وقصص أهل الكتاب ، قال أبو ميسرة : "المائدة من آخر ما نزل من القرآن ، ليس فيها منسوخ وفيها ثمان عشرة فريضة، وكذلك يقول ابن تيمية: "سُورَةُ الْمَائِدَةِ أَجْمَعُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( هِيَ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا )وَلِهَذَا اُفْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالْعُقُودُ هِيَ الْعُهُودُ وَذُكِرَ فِيهَا مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا" [8].

 وقد جاء عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: "إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة" [9]. كما جاء من حديث عبد الله بن عمرو قال: "أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها" [10].   وذكر النقاش- في التنويه بإعجاز القرآن عامة وهذه السورة خاصة- أن أصحاب الكندي قالوا له

- ظروف نزولها: نزلت سورة المائدة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وهي الفترة التي بدأت فيها الدولة الإسلامية تشهد هيبتها، ولهذا كان التركيز فيها قويا على بناء فسطاط المنهج الرباني الذي يعصم حملته من الزلل، ويرسم لهم طريق القوة والاستقرار، فاحتوت كثيراً من الأحكام التشريعية خاصة في ميدان العلاقات الخارجية وتصنيف الخصوم والبت في بعض الأحكام للدلالة الواضحة على رسو سفينة الدولة الإسلامية وتشييد أركانها وقيام سلطانها، وفي إطار ذلك أمر الله تعالى المؤمنين بالإيفاء بالعقود بكافة صنوفها سواء كانت إسلاميةً أم جاهلية، وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن حلف الجاهلية فقال : "لعلك تسأل عن حلف تيم الله" قال : نعم يا نبي الله. قال : "لا يزيده الإسلام إلا شدة". وقال صلى الله عليه وسلّم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان : "ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" وكان هذا الحلف أنّ قريشاً تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلوماً بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته ، وسمت ذلك الحلف حلف الفضول[14]. وقد تضمنت السورة أنماطا من معاملة أهل الكتابين،  فنزل فيها تحليل أكل أطعمتهم ونكاح نسائهم، كما بينت حقيقة المسيح عليه السلام وأنه ليس إلا بشرا،  سوى أنه أحد رسل الله  وأنبيائه، لتؤكد وجوب الإيمان بجميع الكتب المنزلة، ثم تشدد على الأمر بالعدل في كل الظروف وفي معاملة كل الناس، ثم تجزم في تحريمها للخمر ولحم الخنزير،  ثم تعلن إباحتها لجميع الطيبات وحظرها لجميع الخبائث،  مختتمة بقصة المائدة التي طلبها الحواريون من عيسى عليه السلام  تعزيزا لصدق نبوته، فنسبت إليها السورة؛ لما فيها من امتنان الله تعالى على عبده ورسوله عيسى عليه السلام، ولما فيها من الإعجاز الباهر والحجة القاطعة[15]
قال القرطبي واصفا الأجواء الربانية لنزول السورة: الأصح "أنها نزلت في يوم جمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت"
[16] ، في تلك الظروف الميمونة وذلك المحيط الإيماني العبق وعلى مشارف انتهاء تلك الرحلة الدعوية المظفرة نزلت السورة المباركة، لتلخص لنا عائشة رضي الله عنها موقف المسلم من التطبيق العملي للواجبات والأوامر الواردة فيها؛ كما نقل عنها جبير بن نُفَيْر، حيث قال: حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: "يا جبير، تقرأ المائدة"؟ فقلت: نعم. فقالت: "فإنها من آخر ما أنزل الله، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه"[17].

مقدمة عامة عن السورة:

استهلت هذه السورة بنداء المؤمنين خاصة، لاشتمالها على كثير من التشريعات التطبيقية المستلزمة للصبغة الإيمانية، تلك الصبغة المبنية على الاستجابة المطلقة والتسليم الكامل اعتقاداً وحركة وعملاً وممارسة. ولذلك تكرر هذا النداء مقرونا بتلك الصفة في ثنايا السورة ستة عشر مرة، تنويها بما على المؤمن من واجب تحمّل مسؤولية التزاماته التعاقدية والتعاهدية، التي لا يجوز له نقضها ولا الانحراف عنها، حتى تتأسس حياته الذاتية والاجتماعية وهي مرتكزة على قاعدة ثابتة من الوفاء بالعهود والمواثيق التي نشأت عن عهده مع الله وهو لا يزال في عالم الذر، ذلك العهد الذي اقتضت بنوده السير على خط الإيمان بالله وحده، وفرضت احترام التعامل والتعاون مع الآخرين، ذلك أن الالتزام الذي تخرج حيثيات الوفاء به عن حيز نطاق التعامل البشري، باعتباره امتدادا لالتزام إيماني يعتقد معتنقه المثول أمام الخالق الديان. الأمر الذي يجعله حريصا على الوفاء طاعةً لله تعالى، وبعيداً عن الغدر وجلا من الوقوع في معصية الله عز وجل، بهذه النظرة يتميز المجتمع الإسلامي بان بناء التعامل فيه على أسس راسخة من تأكيد الثقة والاحترام والثبات وقوة الكلمة، التي ما تفتأ بإيمانيتها أن تتحول إلى قانون يلزم صاحبه شرعاً، فيؤديه وهو يستشعر رقابة الله تعالى، بعيداً عن كل قضايا الخوف والرجاء على مستوى الواقع البشري، فتتكون الشخصية الإسلامية ومدلولها الداخلي على الالتزام بالكلمة والوفاء بالعهد واحترام الأمانة، فيأمنها الناس على مصالحهم ويثقون بها في قضاياهم ويسعدون بها في علاقاتهم، ويقبلون بها شريك وفاء بالشروط والعهود. وهذا من شأنه أن يركز العلاقات التعاقدية والتعاهديّة بين الناس، على قواعد من العدل المؤسسي والإحسان الاجتماعي، بدلاً من معادلة موازين القوّة والضعف، ذلك أن الله تعالى يريد إخضاع مسألة العقود للإيمان والتقوى لتقوية أمر الوفاء بين المسلمين سواء كانوا في مرحلة قوة أو في موقف ضعف، أو كان الشريك مؤمنا أو كافرا، فلا فرق في كل ذلك في وجوب الالتزام بالعهد والوفاء به، كما أنه لا فرق في وجوب الوفاء بالعقد وضرورة الالتزام به بين بقاء المصلحة الشخصية أو زوالها، بل حتى ولو ترتب على الوفاء بالتعاقد ضررٌ شخصيٌ بفعل تغيرات قد تطرأ لسبب ما فإن ذلك لا يجيز نقض العهد، إذ الإسلام حريص على تشييد قواعد الاستقرار وإشاعة الثقة في التعامل مع النّاس كافة.

لقد شيدت السورة الكريمة قواعد العهود وبينت وجوب الالتزام والوفاء، تهيئة لتقديم باقة من الأحكام  تناولت الذبائح، والصيد، والإِحرام، ونكاح الكتابيات، والردة، وقضايا الطهارة، وحدّي الحرابة والسرقة،  وجزاء البغاة وأهل الإفساد، ثم تناولت تحريم الخمر والميسر، وكفارة اليمين، وقتل الصيد في الإِحرام، والوصية عند الموت للمغترب، ثم أجهزت على جوانب راسخة في المعتقد الجاهلي تبطلها تتعلق بالبحيرة والسائبة.
 وفي ثنايا تلك الباقة التشريعية كانت السورة الكريمة تعرض جملة من القصص للاتعاظ والاعتبار، فذكرت تمرد وطغيان بني إسرائيل على شريعة الله تعالى، وما كان من عصيانهم
  وقولهم لموسى- بعد المنن الوافرة التي امتن الله بها عليهم-: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، وما حصل لهم بعد ذلك من التشرد والضياع  والتيه. ثم عرضت قصة ابني آدم لتعالج من خلالها رزمة من الأمراض النفسية الخبيثة كداء الغل والحسد، إنها أمراض شعشعت وفرخت في الذهنية الدينية لحملة الكتابين من قبل، فولدت دجلا دينيا وشعوذة اعتقادية جاءت السورة لتقدم البراهين الساطعة والأدلة القامعة على تهافتها، ثم عمدت إلى تعرية بعض خسائس اليهود خاصة لكثرة دسائسهم وشدة تغلغلهم في المجتمعات، وسردت قبل الختم تلك القصة العجاب، إنها قصة المائدة التي أنزل الله على عيسى ابن مريم وحوارييه بإعجازها ودلالاتها، ثم خلصت السورة الكريمة إلى تصوير نهاية الخلائق وما ينتظر الصادقين من حسن المرجع وكرم المآب.

أهم محاور السورة:

 من الواضح أن محاور سورة المائدة توزعت بعدد النداءات الإيمانية الواردة فيها، والتي بلغت ستة عشر نداء.

- المحور الأول: أمره تعالى المؤمنين بملازمة طريق الوفاء في العقود، والمواساة في المعاملات، والمحافظة على العهود، والإحسان إلى الخلطاء، والاكتفاء بالطيبات من المآكل والمناكح لإقامة أسس الحياة، من غير تجاوز لما أحل الله تعالى إلى ما حرم، أو تقصير فيما فرض، أو تعد على ما حد{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (آية:1).

- المحورالثاني: الأمر بإجلال حرمات الله تعالى وتعظيم شعائر دينه، وإفشاء العدل في معاملة عباده، فهو الذي أكمل دينه وأتم نعمته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (آية:2).

- المحور الثالث: لما كانت الصلاة أول بنود الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل، والتي لم يرعوها حق رعايتها، جعلها الله تعلى من أعظم شعائر هذه الأمة المجتباة، فحدد أحكام الطهارة الواجبة لها بعد أن ذكر الطيبات من الأطعمة والمناكح لبيان الارتباط الوثيق بين هذه الطيبات وطهارة الروح والبدن؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آية:6).

- المحور الرابع: اقتضاء الميثاق المأخوذ على أهل الإيمان بالله تعالى المؤلهين له وحده أن يجسدوا قيم العدل ويبذلوه للعدو والصديق، تلك القيم المثمرة للاستقامة على الحق والحكم والأمر به، اعتصاما من الظلم وتحصنا من اتباع الهوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (آية:8).

- المحور الخامس: تذكيره تعالى لعباده المؤمنين بآلائه ونعمه عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغ شرعه، كما ذكرهم جل شأنه بقبوله منهم الطاعة والإنابة بعد أن رغبهم في قبُول التكاليف وترك العصيان، وامتن عليهم بحفظه لهم من شرور الأعْدَاء الذين يُرِيدُونَ إيْقَاعَ الْبَلاَء بِهِمْ، فكلأهم تعالى برعايته ومنع أعداءهم من إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِمْ، وحثهم على التوكل عليه سبحانه  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آية:11).

- المحور السادس: إن قسوة القلوب من أشر ما يفتك بشعب الإيمان؛ لما تسببه من البعد عن الله عز وجل، تلك القسوة التي حلت ببني إسرائيل حين أعرضوا عن منهج الله تعالى فحاقت بهم لعنته بعدما أدمنوا نقض العهود وتوارثوه، فأراد جلت عظمته لهذه الأمة أن تبتغي وسيلة ترقق القلوب وتعين على الوفاء بالعهود وتقوي نوازع الإيمان، فدعاها إلى التقوى والجهاد في سبيل إعلاء كلمته ونصرة دينه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آية:35).

- المحور السابع: الدعوة إلى أن تكون للمسلمين هوية خاصة بعيداً عن التقليد الأعمى  لليهود والنصارى، وقصدا إلى وصدا باب موالاتهم حذر تعالى عباده المؤمنين بعدما بيَّن لهم أحوال أولائك وما لهم من ذميم الصفات وخسيس الفعال، من اتخاذهم لهم أولياء. ذلك أنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضر المسلمين، بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا لإضلالهم، فلا يتولاهم إلا من استحب الكفر على الإيمان، وتربية القرآن للمسلم على شخصيته المتميزة تأبى له ذلك، وترسيخا لقيم التميز تلك طفقت السورة تبصر المؤمن بعيوب أعدائه وتكشف له حقائقهم، وتجلي له حقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه، وتبين له أنهم لم يعادوه إلا لعقيدة ولم يحاربوه إلا لدين، لا من أجل أرض أو مصالح اقتصادية، إنما هو عداء العقيدة الذي لا يهدأ ولا يتوقف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ  } (الآيات:51-53).

 -المحور الثامن: إخباره تعالى للمؤمنين أنهم إن ارتد بعضهم فإن خزائن الله تعالى تعج بمن هم أفضل وأجل في حميد خصالهم وكريم فعالهم من المرتدين، فمن كمال صفات البدل ذلهم للمؤمنين، وتواضعهم لهم وحنوهم عليهم، وقسوتهم على الكافرين وشدتهم عليهم  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (الآية:54).

- المحور التاسع: بعد وعيد الله تعالى للذين ينقضون العهود بالاستبدال بغيرهم حذر سبحانه المؤمنين من مغبة اتخاذ المستهزئين بدين الإسلام من أهل الكتاب أو من غيرهم أولياء، وقرن ذلك بالتقوى ليؤكد أنه لا مساومة ولا مجاملة ولا تساهل مع من يستهزئ بالدين عقيدة وشريعة وتطبيقاً، أحرى أن يتخذ وليا أو صاحبا، إن مصافاة الساخرين من شعائر الإسلام المستهزئين بالصلاة من السفه والحماقة بمكان؛ لأن السخرية من العبادات واتخاذها مادة للتسلي والضحك! لا تكون إلا من خليع سافل لا يعرف ربه، ولا يرقب ما عنده، فأي نفع يرجى من مصادقته وأي فائدة تنتظر من مخالطته؟؟؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آية:57).

- المحور العاشر: تنبيه فقهاء الأمة وعلمائها إلى وجوب الاحتراز من القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه، والنهي عن استحلال المحرمات؛ ذلك أن التحريم والتحليل من خصائص الله تعالى وحده، ومن المحرمات الخطيرة الاعتداء على حقوق الناس، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه، كتناول الخنزير أو الميتة. وهذا النهي عن الاعتداء في سياق العموم يعم جميع جنسه مما كانت عليه الجاهلية من العدوان، ومنه تجاوز حدود المباحات إلى المحظورات، إذ في ما أذن الله فيه من الطيبات والملاذ غنية عن إتيان الخبائث والمحرمات، فلا بد من الوقوف عند حد الأمر والنهي من غير استنكاف في ذلك أو اعتداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (آية:87).

- المحور الحادي عشر: أن من مقتضيات عهد الله تعالى مع عبده المسلم تركه للموبقات، فلا يجوز له أن يعاقر خمرا ولا أن يتعاطى قمارا ولا يزاول ميسرا ولا يعبد أنصاباً ولا يستقسم بزلم، فذلك مقتضى عهد الإيمان بالله تعالى والتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بشرعه، وحكمة الله تعالى في ذلك بالغة، فكل مسكر يغطي العقل فيفقد الإنسان آدميته، وكل ميسر وقمار ومراهنة تصدٌّ عن ذكر الله وتثمر الغبن وأكل المال بالباطل، وكل تعظيم لنصب بذبح أو غيره يعد عبادة له وتقربًا إليه، الأمر الذي يتنافى مع التوحيد ويؤدي إلى الشرك، كما أن كل استقسام بزلم أو احتظاظ بقدح يفضي إلى الطيرة والاعتياف الذي هو من سمات الجاهلية المنافية للإسلام. فما أحكم هذا الشرع المبارك وما أجل هذا الدين القويم؛ إذ منع كل ما تستقذره النفوس الكريمة، وترفضه العقول السليمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آية:90).

- المحور الثاني عشر:  ينبه الله تعالى المؤمنين إلى حالة قد يسبق فيها حرصُهم حذَرَهم وشهوتُهم تقواهم . وهي حالة ابتلاء وتمحيص، يَظهر فيها مدى تمسّكهم بوصايا الله تعالى، إنها تحريمه عليهم الصيد في حالين: حال كون الصائد محرِماً، وحال كون المصيد من صيد الحرم، ولو كان الصائد حلالاً؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتّخذ لها حمى يفيض حرمة وأمانا، فكانت بيت الله وحماه، وبقعته المحترمة بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيماً، وأمناً للخلق يطال كل شيء حتى يشمل الحيوان العائش في حرمه وكنفه، بحيث لا يرى الناس للبيت إلاّ أمنا للعائذ به وبحرمه، وكان في ذلك امتحان وابتلاء نجحت فيه هذه الأمة، وإن فشل قبلها اليهود حين ابتلوا بالصيد البحري يوم السبت، ولم يكن ذلك بدعا من نجاحات هذه الأمة، ولا بدعا من إخفاقات بني إسرائيل. الذين ما فتئت تلك الإخفاقات والرسوبات تتقاذفهم حتى نزع الله منهم الخلافة في الأرض وائتمن عليها هذه الأمة الناجحة. ومكن لها في الأرض ما لم يمكن لأمة قبلها. ما حالفها النجاح في إقامة منهج الله الذي لم يتمثل تمثلاً كاملاً في نظام واقعي يحكم الحياة كلها كما تمثل في خلافتها يوم أن طبقته شريعة وحياة، وعلمت أنها مؤتمنة على هذه الأمانة الضخمة؛ وأنها وصية على البشرية لتقيم فيها منهج الخالق الديان، لكنها أشعرت في الوقت نفسه بعظم المهانة وشدة العقوبة عند استبدال المنهج أو مخالفته أو التخلي عنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آية:94).

- المحور الثالث عشر: لقد جعل الله تعالى حفظ مكانة الكعبة وحرمتها أصل الحكمة في حرمة الصيد، وتمرين المسلم نفسه على التقوى في كل أحواله، وتعويدها الوقوف عند حدود الله عز وجل فلا تتجاوزها، بل تظل مؤمنة أن مرجعها ومحشرها إلى خالقها وحده، الذي أنزل شرعه لرعاية مصالح تلك النفس بتخليصها من الشرك ودرء المفاسد عنها، وفي ذلك الإطار ورغم هذا التحريم العام للصيد فقد أذن الله تعالى في استئصال شأفة كل ما يؤذي ولو كان من جنس ما حرم، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جُنَاح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" [18]. هذا ولما كان الاصطياد يتم بحشر المصيد إلى حيث يعجز عن الخلاص، وكانت حالة الإحرام أشبه شيء بحالة الحشر في التجرد عن المخيط والإعراض عن الدنيا وتمتعاتها، ذكر الله تعالى عباده بالعرض عليه يوم المحشر والمآب للمواظبة على طاعته والاحتراز عن معصيته ومخالفة أمره، خاصة في منطقة الأمان التي يقيمها عز وجل للبشر في زحمة الصراع في جنبات الكعبة الحرام، والأشهر الحرام، لتطفئ جانبا من أوار المعركة المستعرة في أجواء الخصومة والحرب على فتات فان، ولتلطف جزءا من الصراع والتزاحم على لعاعة من الدنيا، وتضفي على الحياة رونقا من السكينة والدعة يتفيأ ظلاله الأحياء من جميع الأنواع والأجناس، فتحل الطمأنينة محل الخوف، ويحل التآخي محل القطيعة والخصام، وترف أجنحة من الحب والإخاء والأمن والسلام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (الآية:95).

- المحور الرابع عشر: لقد جعل الله تعالى أعظم الناس ذنبا من كان سببا في تضييق أو تشديد لشيء من أحكام الشريعة، كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم المسلمين جرماً: من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" [19] ، فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحاً بمسألته عن حكم ما سكت عنه، فكيف بمن حرم المسكوت عنه أو أحل المحرم بقياسه ورأيه، فلو التزم الناس شرع الله تعالى إباحة وتحريما وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعباده ما كان التشدد، وما احتمل الناس تبعة التقصير والكفران، ولقد ذكر الله تعالى في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة بلا شروط ولا قيود، كانت تجزيهم أية بقرة، وكيف صاروا إلى أعظم الحرج حين أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات تلك الأوصاف، فكان التشديد يأتيهم تباعا كلما غالوا في المسألة، ولو تركوا السؤال لما كان ذلك، وهكذا كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه! . .وقد ظلت تلك سجيتهم دائماً حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم ولغيرهم وعقوبة على تعنتهم، فينبغي أن يحذر المسلم مسالكهم، ولا يضيّق على نفسه أو غيره بالسؤال عما لا يعنيه أو بالتفيهق والتعالم والتقول بما لم يشرعه الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (آية:101).

- المحور الخامس عشر: تأكيد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عكسا لما قد يتوهمه الجاهل من ظاهر قوله تعالى: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} ،  والتي تحمل إشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وهذا في قوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}؛ لأن من ترك الأمر بالمعروف لا يكون مهتديا أبدا، وجملة ما عليه أهل العلم في ذلك أن الأمر بالمعروف متعين متى ما أمل الناصح القبول، أو توقع رد المظالم، ولو بجهد، ما لم يخف ضررًا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، إما بشق عصًا، وإما بضرر يصيب طائفة من الناس، كما جاء عن أبي أمية الشعباني أنه قال:سألت عنها-أي الآية المذكورة- أبا ثعلبة الخشني، فقال لي:سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام" [20]. وبلغ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن بعض الناس تأول الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله أن يعمهم بعقابه، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده" [21] ، فلا وجه لإسقاط تبعة كفاح الشر، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان، وحين يحكم الباطل قبضته تضيق الدائرة، ورغم ذلك لابد من حفظ عهود الله تعالى في خاصة النفس مهما بلغت صولة الضلال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (آية:105).

- المحور السادس عشر: لقد ضمن الشارع الحكيم حفظ الحقوق كافة للأحياء والأموات والأيتام والكبار والصغار والرجال والنساء، فبعد أن نصب بعضا من المصالح العامة كحرمة البيت الحرام والشهر الحرام، أشار إلى أن كبراء الجاهلية لا هم نفعوا أتباعهم في حالهم ولا هم نصحوا لهم في مآلهم، ثم عقب ذلك بحتمية المآل الذي تكون الموت أولى محطاته، ثم ما يكون بعدها من كشف الأسرار يوم العرض والحساب على النقير والقطمير والجليل والحقير؛ وقد نبهت السورة الكريمة على بعض الاستعدادات التي ينبغي أن يعملها العبد لحظات قبل انقضاض المصير الحتمي إرشادا لمن حضرته المنية وهو بعيد عن أهله أن يوصي بما يحضره من المال-حفظاً لحق الورثة-باستحضار شاهدين عدلين من المسلمين إن وجدهما، وتسليمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين. فإن لم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه، جاز له أن يكون الشاهدان من غير المسلمين. فإن ارتاب أهله في صدق ما بلغه الشاهدان من أداء ما استحفظا عليه، فإنهم يوقفونهما بعد أداء الصلاة ليحلفا بالله، أنهما لم يكذبا في شهادتهما ولم يتوخيا بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر، ولو كان ذا قربى، ولم يكتما شيئاً مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما. فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة. وبذلك تبطل شهادة الأولين وتنفذ الشهادة الثانية. فهذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق؛ وأبلغ أثرا لتخويف الشاهدين الأولين من افتضاحهما ورد شهادتهما، وأدعى لحملهما على تحري الحق. ثم ينتهي السياق إلى دعوة الجميع لتقوى الله تعالى، ومراقبته وخشيته، والتزام أوامره  {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ } (آية:106).

وقد تخللت هذه المحاور مجموعة قصص عالجت مواضيع عقدية ووعظية وإخبارية وإعجازية مختلفة، تمحورت في كثير من إشاراتها حول الموضوع الأصلي للسورة، والذي هو الحث على الوفاء بالعهود، وقد شملت السورة إضافة لذلك كافة المقاصد الشرعية من:

حفظ الدين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} .

وحفظ النفس {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} .

وحفظ النسل { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} .

وحفظ الأموال {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا }.

وحفظ العقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

أهم هدايات السورة:

- رغم أن الهدف الرئيس للسورة يتمثل في إلزام المسلمين بالوفاء بالعهود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، فقد ذكرهم الله تعالى فيها بما شرع لهم من الأحكام، التي من أعظمها بيان الحلال والحرام {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ، بعد نعمته عليهم بالهداية إلى الإسلام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، ثم أعقب ذلك الامتنان بما كان له من الفضل والإنعام على أهل الكتاب، الذين نقضوا العهود وخانوا المواثيق {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فنشأت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فكان لذلك دلالة قاطعة على ضرورة الاعتصام بالوحي والاهتداء بنور القرآن، تحصنا من ذلك الزيغ والاستمساك بشريعة الرحمن، لدفع إغواء الشيطان {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

- لما ذكر تعالى استمراء بني إسرائيل للخيانة {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاًٌ مِنْهُمْ} ، وما كان من عصيانهم لأوامر رسل الله {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} ، وجبنهم عن قتال الجبارين {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، أتبع ذلك بقصة ابني آدم، وإقدام "قابيل" على ارتكاب أول أبشع جريمة على سطح المعمورة، تلك هي إزهاقه للنفس البريئة التى حرمها الله، وقد احتذى به اليهود في فظاعته وشناعته، فاقتفوا أثره وكان لهم أسوة في العصيان، فتأصلت فيهم طبيعة الشر التي قلدوه فيها، فاشتبهت قلوبهم بقلبه، فكان هذا مدعاة لتشابه أخبارهم مع قصته من حيث التمرد والطغيان؛ ليبين تعالى من خلال ذلك أن سلامة المجتمعات تقتضي الإجهاز على أهل الشر ودعاة الفتنة وتجار السوء، ومن هذا القبيل أوجب إيقاع حد الحرابة على المحاربين، وحد القطع على السارقين؛ لاستئصال شأفة الخارقين لأمن المجتمع، المفسدين في الأرض الناشرين للرعب والبغي.

- لما ذكر تعالى ما كان من قتل قابيل لهابيل بغياً وحسداً {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، ذكر بعده حنق المنافقين على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم حقداً وحسداً، لكنه جلت عظمته عصم رسوله صلى الله عليه وسلم من شرورهم وحفظه من كيدهم {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، وأمره ألا يحزن لعداوتهم، وبين له أنهم مخذولون بطبيعتهم وإن استفحلت عداوتهم للإسلام ونالت أذيتهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم ولن يضروا بذلك إلا أنفسهم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ....أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}  (الآية:41).

- بعد أن بين الله تعالى إعراض اليهود والنصارى عن التوراة واستمراءهم  للكذب والدجل وأكل الحرام {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} ، بين أنهم أهل جحود وطغيان وردة عن الحق {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} ، ليبين للمؤمنين أن من هذه صفاته وتلك أخلاقه وسجاياه ليس جديرا بالموالاة والمؤاخاة، بل إنه حري بالمعاداة والبغض {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، لقد ذهب هؤلاء بعيدا في جرمهم فتطاولوا على الذات العلية، ونعتوها بأبشع صفاتهم وخسيس مثالبهم فأخزاهم الله ولعنهم {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} ، فلا يواليهم إلا ظالم لنفسه قد أصاب قلبه ما أصاب قلوبهم أهل لأن يحيق به ما حاق بهم {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ, وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} .

- تعرضت الآيات السابقة للتحذير الصارخ والوعيد الشديد لمن أقام وشائج مودة أو علائق ولاء مع اليهود والنصارى، وعدت ذلك الولاء من أسباب الارتداد المفضي إلى الاستبدال بمن يتصفون بصفات الإيمان المقتضية لمجافاة الكافرين والغلظة عليهم ومالاة المؤمنين والرحمة بهم والمجاهدة لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ، فقد استوجب من كفر بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم العداء والبغض، بما أقاموا عليه من حرب الإسلام والوقوف في وجه الدعوة إليه وتبليغه إلى الأنام، تلك الدعوة التي أمر بها كل منتم إلى الإسلام من خلال أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بها {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، ولقد وعد الله تعالى القائمين بها بالحفظ والتمكين من خلال وعده لرسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بالحماية والنصرة {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، وصريح العبارة {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

- وتأكيدا لمبررات منابذة أهل الكتاب وخاصة اليهود طفقت السورة تذكر بتاريخهم المخزي مع الرسل {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ، ثم انتقل السياق إلى كشف عوار النصارى وفضح ما شاع بينهم من انحرافات وضلالات عقدية كتأليههم لعيسى عليه السلام {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} ، وكانت الردود على هذه الترهات والأباطيل صريحة شافية {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} {وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الاَْيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} .

- ما كادت الآيات تنتهي من كشف سوآت اليهود والنصارى وتبيين ما دأبوا عليه من زيغ عقدي وضلال منهجي حتى عادت للتحذير من اليهود بصفة خاصة لتعلن أنهم والمشركين الصرحاء أشد البشرية عداوة للإسلام وأهله {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ، وتظهر في الوقت نفسه جانبا من إنصاف الإسلام وموضوعيته وعدله في حديثه عن الأعداء وتصنيفه لهم، فإذا كان اليهود بذلك المستوى من الغل والحنق فإن من النصارى من لهم صفات حميدة تجعلهم أقرب إلى أهل الإسلام وأكثر احتفاء بهم { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ، بل تتجاوز الآيات ذلك إلى التنويه بما لشرائح منهم من الخشوع والخشية وإجلال الحق والانقياد له {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} ، هكذا تستفرغ السورة قضايا أهل الكتاب لتعود إلى تقديم باقة من الأحكام الشرعية ككفارات الأيمان {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} , وحرمة الخمر والميسر {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ومتعلقات الصيد للمحرم {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} ، ثم أتبعت الآيات أحكام قتل المحرم للصيد بما للكعبة من عظيم المكانة وجليل المنزلة، لتعلن أنها منطقة أمان مطلق، فلا يستنفر فيها صيد ولا يخوف أو يؤذى فيها أحد، فهي مناخ للخير محضن للسعادة الدينية والدنيوية {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ} .

- لقد أمرت الآيات باتخاذ إجراءات احترازية حفظا لحقوق الورثة عند احتضار الموروث كالإشهاد والائتمان على الوصية {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} ، ثم أمرت بإجراءات أخرى عند الشك في صدق المؤتمنين كحلفهم بالله في مجتمع بعد الصلاة؛ لاستجاشة الوجدان الديني حتى ينبعث الخوف من موقف خزي يوم القيامة، وحتى يستنهض عند الشهيدين التحرج من الفضيحة حال ظهور الكذب والخيانة { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، وبعد هذا الحكم المعبر عن نوع من الاستعداد للموت الذي هو أول منازل القيامة يأتي الحديث عن ذلك اليوم المهول، حين يجمع الأولون والآخرون على صعيد واحد للمحاسبة والجزاء، فيتمايزون إلى فريقين أحدهما إلى جنات الخلد والآخر في عذاب السعير.

أبرز الأدلة التي استخلصت منها قواعد فقهية في السورة:

- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : فهذا دليل على أن الأصل في العقود اللزوم؛ لأن المقصود منها أَحْكَامُهَا لَا ذَوَاتُهَا [22].

- {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} : فهذا أصل القواعد المتعلقة بفعل الطاعات وصنع المعروف والإحسان إلى الخلق وكف الأذى عنهم.

- {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} : فهذا أصل الأحكام والقواعد المتعلقة بالاضطرار، كقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات".

- {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} : وتنبني عليها أحكام وقواعد الإباحة الأصلية حتى يرد الشرع بالحظر.

- {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} : وهذا أصل لقاعدة تقديم النادر على الغالب أحيانا، يقول الإمام القرافي: "إن مما قدم فيه النادر ما يصنعه أهل الكتاب من الأطعمة في أوانيهم وبأيديهم. الغالب نجاسته؛ لعدم تحرزهم عن النجاسات؛ ولمباشرتهم الخمور والخنازير ولحوم الميتات، والنادر طهارته، ومع ذلك أثبت الشرع حكم النادر وألغى حكم الغالب وجوّز أكله؛ توسعة على العباد" [23]

قصة وهدف:

عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ" [24]

هذا الحديث يشكل حقولاً من الأهداف التربوية الرفيعة، غير أنه تجدر الإشارة إلى التنويه ببعض أهم تلك الأهداف؛ ألا وهو رفق النبي صلى الله عليه وسلم بنسائه، فهذا الرسول العظيم يوقف ذلك الجيش العظيم في مهمه على غير ماء حتى تبحث عائشة عن عِقْد لها فقدته، إنه ليس قائد جيش فقط، إنه إمام الأمة ومربيها يوقِف الجيشَ رفقًا بزوجته، فتنزل آية التيمم ويكون ذلك الرفق وهذا الحبس للجيش سبب رحمة للأمة وتخفيفا عنها جميعًا.

وقد تضمنت القصة ضمن الباقة العطرة أدباً رفيعاً في ما يجب أن يكون عليه المسلم من توقير النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيمه، ولقد كان الصديق رضي الله عنه في شدة حرصه على التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم مثالاً يحتذى، كما كانت عائشة -رضي الله- عنها في عمق إجلالها له صلى الله عليه وسلم أسوة تتبع، ولقد بلغ تكامل تطابق أبي بكر وابنته رضي الله عنهما في الحرص أن لا يضايق النبي صلى الله عليه وسلم شيء المنزلة التي لا تضاهى، فأبو بكر لا يريد من عائشة أن تؤخر مسير النبي صلى الله عليه وسلم فيضايقه ذلك، وعائشة تضرب ولا تريد أن تتحرك حتى لا ينزعج النبي صلى الله عليه وسلم، إنها القدوة والأدب الجم والمحبة الخالصة.

الخاتمة :

 سورة المائدة هي آخر سورة نزلت متكاملة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حجة الوداع. فهي سورة محكمة، لم ينسخها بعدها قرآن. وهي أول سورة في المصحف استهلت بـ {يا أيها الذين آمنوا} ، وقد تكرر ذلك النداء في طياتها ستة عشر مرة من أصل ثمانية وثمانين في القرآن كله, اشتملت السورة الكريمة على كم هائل  من الأحكام طالت مختلف أوجه التشريع، فتناولت الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والأمر بالتعاون على الخير وتعظيم شعائر الله تعالى، وبيان الأطعمة المحرمة وإكمال الدين وبيان حال وأحكام الضرورة، والمطعومات الحلال، والذبائح، والصيد، والإحرام، ونكاح الكتابيات، وأحكام الطهارة، والديات والقصاص، وحكم من ترك العمل بشريعة الله تعالى، وأصل جاهلية الحكم والردة، وحدي السرقة والحرابة، وقضايا البغي والإفساد في الأرض، وأحكام الميسر والخمر، وكفارات الأيمان، وقتل الصيد في الإحرام، والوصية عند الموت، وتفنيد أمور الجاهلية كالبحيرة والسائبة. هكذا عرضت هذه الأحكام بذلك الأسلوب البياني السلس، الذي تستمع إليه القلوب فيتغلغل داخل أعماقها فتجيش به النفوس وتتداعى إليه الأفئدة، فيباشر شغافها،تلك هي بلاغة القرآن العظيم، وذلك هو تأثير الذكر الحكيم. في مستهلها كما في مختتمها وبين ثنايا أحكامها وقصصها شددت السورة على وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق وضرورة الالتزام بها. والسورة تسمى سورة العقود كما ذكرنا من قبل فلا غرابة إذا تضمنت أنواعا من الإلزام على رأس أحكام العقود،  وذكرت في ذلك الإطار بما استمرأه  بنو إسرائيل من نكث العهود ونقض المواثيق، وتحريف التوراة والإِنجيل، والكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم عرت الكثير من ضلالات النصارى وأباطيلهم التي تجذرت في عقائدهم الزائفة، حيث نسبوا إِلى الله تعالى ما لا يليق به من الشريك والولد، وبعد تعرض السورة لجانب من تاريخ قصص  بني إسرائيل مع أنبيائهم نثرت قصة ابني آدم إشارة إِلى الصراع العنيف بين قوتي  الخير والشر، ممثلة في  الذي كان من قتل قابيل لأخيه هابيل، تلك الجريمة النكراء التي حدثت لأول مرة على سطح الأرض، والتي كانت بدايتها حسدا ونهايتها إراقة الدم البريء الطاهر تجسيدا لأوار نار الحسد تلك، لقد عرضت القصة  نموذجين للبشرية: تمثلا في نفس شريرة أثيمة حاسدة حاقدة، ونموذج لنفس خيّرة كريمة خاشعة مؤمنة. كما ذكرت السورة قصة "المائدة" التي كانت إحدى المعجزات العظيمة التي أيد الله تعالى بها رسوله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد جاءت استجابة وابتلاء للحواريين.

وتحقيقا منها لتوحيد الله تعالى وإبطالا لعقيدة التثليث ذكرت السورة معتنقي النصرانية بذلك الموقف المخزي الذي سيقفونه يوم القيامة بين يدي الله تعالى، فتشيب لهوله رؤوسهم، وتتفطر لقوارعه أكبادهم حين يسأل الله تعالى عيسى بن مريم على رؤوس الأشهاد تبكيتاً لهم وقد عبدوه من دون الله {ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}. في ذلك اليوم العظيم يحشر الناس إلى حساب دقيق يخرجون منه إما إلى سعادة أبدية في جنة عرضها السماوات والأرض، أو تعاسة أبدية في نار وقودها الناس والحجارة.

نسأل الله تعالى الحفظ من مكاره الدنيا والآخرة.

                


[1] الإتقان للسيوطي (1|155)، وقال: "قال ابن الغرس لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب"

[2] لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2|463)

[3] وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني (ص: 121)"يقال:فلان لا يقرأ سورة الأخيار، أي لا يفي بالعهد، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمون سورة المائدة سورة الأخيار.قال جرير:

إن البعيث وعبد آل متاعس ... لا يقرآن بسورة الأخيار"، انظر : التحرير والتنوير (5|5).

[4] إتحاف فضلاء البشر  في القراءات الأربعة عشر للدمياطي ص:  351

[5] على اعتبار أن المدني ما نزل بعد الهجرة؛ لأن قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" نزلت يوم عرفة في حجة الوداع، انظر : اللباب في علوم الكتاب (7|160)

[6] التحرير والتنوير (5|6)، وقد أورد الإمام السيوطي كثيرا من الأحاديث والآثار تدل صريحا على أنها آخر ما نزل من القرآن. انظر : الدر المنثور (3|4)

[7] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6|30)

[8] مجموعة الفتاوى (14|249)

[9] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (27616)، وقال عنه الأرنؤوط : "حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم وشهر بن حوشب"، وكذلك أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (7|13).

 [10] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6643)، وقال عنه شعيب الأرنؤوط: "حسن لغيره وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة وحيي بن عبدالله"، وصححه الألباني في صحيح السيرة ص:107

[11]  اللباب في علوم الكتاب (7|162)، وتفسير البحر المحيط (3|428)

[12] أخرجه الإمام أحمد في المسند(24575) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: "إسناده حسن".

[13] أخرجه الإمام أحمد في المسند(17023)، وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه عليه: "إسناده حسن"، وأخرجه البيهقي في الشعب(2415)، وكذلك في سننه الصغرى(978)، والطبراني في معجمه الكبير(186)، وغيرهم...

[14] تفسير البحر المحيط (3|333)

[15] انظر : تفسير ابن كثير (3|225)

[16] الجامع لأحكام القرآن (6|61)

[17] نفس المرجع (6|31)

[18]  أخرجه البخاري| كتاب جزاء الصيد| باب ما يقتل المحرم من الدواب| ح(1826)، ومسلم| كتاب الحج| باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب| ح(1199).

[19] أخرجه البخاري| كتاب الاعتصام| باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه| ح(7289)، ومسلم| كتاب الفضائل| باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع ونحو ذلك| ح(2358)

[20] أخرجه الحاكم في المستدرك (7912)، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في تعليقه، وأخرجه البيهقي في الشعب (7553).

[21] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (16)، وقال عنه الأرنؤوط في تعليقه عليه : "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وكذلك رواه البيهقي في الشعب (7550).

[22] انظر : غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر (4|488)

[23] انظر: الفروق (4|105)، والقواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير (2|622)

[24] البخاري|كتاب التيمم|باب|ح(334)، ومسلم|كتب الحيض|باب التيمم|ح(367)

 

أعلى