الخليفة الهارب

الخليفة الهارب


بحسب دراسات نفسية، فإن الإنسان عندما يصاب بأزمة ويشعر بفقدان السيطرة، يلجأ إلى إعادة ربط المتغيرات بطريقة مختلفة، وترتيب العالم من حوله في سياق غير واقعي في محاولة لاستعادة الثقة أو للشعور بالاستقرار النفسي.

تنطبق هذه القاعدة على التنظيمات الدينية التي تتبنى العنف أسلوباً ونهجاً، سواء تنظيم القاعدة أم داعش أو غيرهما.

في شهادة منشورة على الإنترنت قبل سنوات، قدم القيادي البارز في تنظيم القاعدة (سيف العدل) وصفاً لما حدث بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان نهاية عام 2001م، هذا الوصف يعكس بوضوح تلك الحالة النفسية.

تحدث (سيف العدل) عن امتلاك زمام الأمور، رغم سقوط دولة طالبان، وتمزُّق تنظيم القاعدة وتهدُّم معسكراته وتشتُّت عناصره وقادته، فضلاً عن قتل واعتقال أعداد كبيرة منهم، مع ذلك تحدث عن الخطة المستقبلية بثقة مفرطة وكأنه يمتلك كل عناصر نجاحها! بل كأن كل ما حدث كان أمراً مخططاً مدروساً بعناية!

قال (سيف العدل) إن تلك الخطة تقتضي الانتشار في العراق، وإرباك الأمريكيين، ثم إقامة الدولة، بل إنه بعدما سقطت دولة طالبان في أفغانستان، قال: «حصل ما كنا نتمناه ونخطط له...»، وعندما تبعثر تنظيمه بين الدول، تحدث عن «ضرورة تفكيك الإمارة والاندماج والانخراط بالواقع الأفغاني من جديد، والعمل على العودة خلال سبع سنوات ضمن خطة مُحْكمة مدروسة»!

إعادة صياغة الأزمة وتفاعلاتها وتداعياتها، هو مسـلك يدمنـه قـادة هـذه التنظيمـات العبثيــة، وهـذا - تحديداً - ما فعله وقصده (أبو بكر البغدادي) ذلك (الخليفة الهارب) المزعوم الذي لا يُعرَف له مقر ولا مستقر منذ أن منح نفسه اللقب السياسي الأعظم في تاريخ الإسلام، الذي كان حامله يملك مشرق الأرض ومغربها، وتنطلق من لدنه الجيوش الفاتحة، وتأتيه الوفود من كل حدب وصوب.

هذا الإخراج المسرحي الركيك لمشهد السيطرة وامتلاك زمام الأمر، الذي قدمه (الخليفة الهارب) في الفيديو الأخير، من خلال حديث عبثي مع أشخاص مجهولين، أو تداول بضعة أوراق مكتوب عليها أسماء بعض الدول، هو ترسيخ لتلك العقلية والثقافة المعتلة التي تخاطب عقولاً بسيطة من خلال ذلك المشهد طمعاً في إنعاش عمليَتَي (التجنيد) و (التمويل) اللتين لا تستغني عنهما تلك التنظيمات.

تكتسب تلك الحركات قيمتها بين أتباعها ومؤيديها من 3 مؤشرات:

 عدد العمليات الناجحة مقارنة بالعمليات الفاشلة.

 الخسارة التي لحقت بالأطراف المستهدَفة.

 الأثر الذي أحدثته تلك العمليات.

كان المؤسس الأول لتنظيم (داعش) أبو مصعب الزرقاوي، هو أول من استخدم أسلوب (الصدمة) في تحشيد الأتباع والمؤيدين. ظهر ذلك في أعمال مثل: استهداف أماكن تجمع المدنيين، واستخدام كميات هائلة من المتفجرات لزيادة الخسائر البشرية والمادية، وتنفيذ عمليات متزامنة أحياناً، وذبح الرهائن مع التصوير والنشر.

إن وضع هدف مثل (توسيع الحرب الدينية) لإثارة الفوضى، ولدفع المسلمين إلى التورط في صراعات عدمية، أسفر عن كوارث متتابعة؛ فالفوضى المستهدفة لا تتطلب تخطيطاً دقيقاً، ولا متابعة أو مراقبة؛ فالمطلوب فقط هو (إثارة الفوضى)، فأي عملية ستعزز مناخ (الفوضى)، وأي هدف مدني يضربه التنظيم، سيطلق سلسلة من التفاعلات والتداعيات التي تحفز حالة (الفوضى).

يعتمد التنظيم (العنفي) بصفة أساسية في صياغة إستراتيجيته ومكانته على عنصرين، (الإرث، والإنجاز):

فهو يستمد شرعية وجوده في البداية من الإرث الذي يربطه بكيانات سابقة أو حالية لها رمزية قيادية في الساحة، وهذا الإرث قد يكون شرعياً فكرياً، وقد يكون تنظيمياً يصل إلى مستوى الارتباط المباشر في سياق تبعية شكلية.

العنصر الثاني، هو الإنجاز، وبقدر تحقق هذا الإنجاز يمكن للتنظيم أن يتخفف من ضغط (الإرث) ليصوغ لنفسه معالم جديدة، وصولاً إلى مستوى الانعتاق من الإرث القديم تنظيمياً وفكرياً.

المرحلة التي يمر بها (تنظيم داعش) حالياً تشبه كثيراً مرحلة البدايات التي يمر بها أي تنظيم مشابه.

فالمرحلة الأولى تكون مرحلة إثبات الوجود واكتساب الشرعية لدى المؤيدين من خلال زخم عملياتي متتابع.

والمرحلة التالية تتضمن الوصول إلى (الذروة العملياتية) بالتزامن مع تفاقم حالة المواجهة نتيجة الدخول في صراعات متعددة.

المرحلة الثالثة هي مرحلة التراجع والانكماش.

المرحلة الرابعة، يمكن تسميتها (المنعطف) أو (إعادة التأسيس): فإمـا أن يفقـد التنظيم زخمـه ويتلاشى عنفوانه ويتقلص تأثيره ليبقى محصـوراً في فضاءات إعلامية زاعقة.

وإما أنه يحاول إعادة التموضع من خلال استنساخ مرحلة البداية، بالبحث عن أهداف سهلة نسبياً، تتعاظم فيها أعداد الضحايا، ليكتسب زخماً ربما يمكِّنه من العودة من جديد.

لا يمكن فهم الأبعاد المتعلقة بتطور تنظيم داعش دون إلقاء الضوء على الدور الذي تلعبه الاستخبارات الغربية في (مطبخ صناعة تنظيمات العنف)، ولعل ذلك يتيسر في مقال آخر إن شاء الله تعالى.

 

أعلى