• - الموافق2024/04/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مشروع للتقبيل!

مشروع للتقبيل!

الحمد لله وبعد، فقد تعودنا أن نرى بعض المحلات التجارية مكتوب عليها «للتقبيل»! (العرض للبيع)، وهذه العبارة تحدث في نفسي أسفًا في بعض الأحيان لكون صاحبها قد خسر في الغالب بعد أن تكلف وأمَّلَ ثم خاب أمله، فالمحلات الناجحة تُشترى وتُطلب بغير تقبيل! ولئن كان هذا الأسف يطرأ على كثير ممن يحبون الخير للناس في مشاريعهم الدنيوية، فلأن نستشعره في مشاريع أخرى أعظم خطرًا أولى وأحرى!

أعني مشاريع الآخرة، وبخاصة المشاريع الدعوية يوم نرى أصحابها يعرضونها للتقبيل!

وقد وجدنا في واقعنا من يعرض للتقبيل مشروعًا دعويًّا مهمًّا قد بُذل فيه من المال والجهد شيء مقدر، بل بعد أن كان صاحبه يعتبره مشروعه في الحياة! وبعد ذلك يعرضه ليتخلص منه! وقد لا يجد من يحمله عنه، فيوقف المشروع ويغلق ويبور!

ولست أعني بحديثي هذا المشاريع الدعوية المؤقتة التي وضعت لأهداف محدودة فهذه من البدهي أن تنتهي أو تتحول بانتهاء وقتها أو تحقيق أهدافها، ولست أعني كذلك المشاريع الدعوية الربحية التي من شأنها أن تعرض وتباع إن حققت ربحًا، وغير داخلة في موضوعي كذلك المشاريع التي تتوقف بقوة خارجة عن إرادة أصحابها؛ إما بقرارات رسمية أو لكوارث وحوادث لا يملك صاحبها لها دفعًا.

لكني أعني المشاريع التي تبنى على أسس دعوية غير ربحية، وتقوم على تبرعات المحسنين، وجهود المحتسبين! فتقدم فيها وعود، وتبذل فيها أموال على آمال، ثم تتفاجأ بأن صاحبها يسألك هل تعرف من يتحمل المشروع ويقوم به عنه؟ وربما يطلب دمجه لمشروع آخر قائم لينسحب بعدها! والسبب من قبل نفسه، دون عذر شرعي يبرر تصرفه.

وفي واقعنا حالات متعددة ترى فيها هذا الصنيع، وما أعظم خطرها، وأشد ضررها على العمل الدعوي وعلى الباذلين فيه، ولو لم يكن فيها إلا الفشل وضعف مردود العمل الدعوي وشماتة الأعداء بالعاملين وضياع الجهود والأموال سدى لكفى! وقد قال ربنا جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92]، فكيف وفي ذلك من تثبيط المحسنين والباذلين ما فيه! فإذا كان الباذل قد جاد بما تشح به الأنفس ثم رأى ذلك التعثر، وهذا التملص من المشروع والتنصل، فما يؤمِّنُه أن تذهب أمواله إن أنفقها مرة أخرى إلى متعثر متنصل آخر؟ فتأمل أثر هذا على أصحاب المشاريع الجادة! وعلى العمل الدعوي عامة!

وفي هذه العجالة أعرض بعض أسباب هذه الآفة (أعني تقبيل المشاريع الدعوية!) لنحذرها، فمن ذلك:

عدم الدراسة العميقة للمشروع قبل الشروع فيه، والذي يستعجل قد لا يدرك التبعة، فإذا أدركها لم يتحملها، وحاول التخلص بعدها! ولهذا لا تبدأ مشروعًا قبل أن تدرسه وتستشير فيه من لهم خبرة.

عدم وضوح الأهداف، فينطلق صاحبه في كل وجه يرى فيه خيرًا، وكلما تراءى له سراب حسبه ماء، إلى أن يكَلَّ ويتعب، ثم لا يجد نفسه قد حقق شيئًا فيحاول التنصل بعد أن تعب وأتعب!

عدم الواقعية في المشاريع، وأذكر بهذه المناسبة أنه قد جاء أحدهم إلى بعض الفضلاء العقلاء وعنده مشروع فرأى أن مشروع ذلك المتحمس كبير يعز عليه أن يجد من يقوم به، فحاول أن يثنيه ويبين له ضعف أعوانه عنه، لكن صاحبه كان مندفعًا إليه، على توسعه فيه! فقال له في الختام كلمة حكيمة ينبغي أن تحفظ! قال: ماذا قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فرد عليه: قال: يا ليتني كنت حيًّا إذ يخرجك قومك! فقال له احفظ هذه الكلمة عني: يا ليتني كنت حيًّا إذ يتركك قومك! وكذلك كان! فبعض الناس يستسهل مشاريع صعبة، يعسر بناؤها وفق معطيات الواقع! قد يكون ذلك جراء عدم تصور العقبات، أو الاعتماد على ما لا يعتمد عليه، أو الاندفاع وراء العاطفة، وإذا كان الشروع في المشروع جراء حماسة أو انفعال وقتي فقريب أن يزول ذلك الدافع!

ومن أسباب التقبيل: إقامة المشروعات على مؤسسين غير متجانسي الطباع، أو مختلفي الأهداف، فينشأ بعد أمد بينهم الخلاف ثم يكون التفرق والانفضاض!

ومن أسباب التقبيل عدم العناية بالدعم المالي، ومن لم يعبأ بهذا في البداية فقد ينفق من «جيبه»، وقد يستدين حتى يعجز فينسحب أو يتوقف، وقد جعل الله عز وجل المال قيامًا للأمور، كما قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: ٥]، فلا بد من رعاية ذلك.

ومن أسباب التقبيل: إغفال المرحلية، والقفز إلى النهايات، والنمو غير المتوازن، فبعضهم يبدأ بخمسة مشاريع! فيتشتت ويضعف عن القيام بها جميعًا، ولا يفلح في إمدادها فتموت! وبعضهم يبدأ بمشروع واحد لكن يفخمه ويتكلف فيه كثيرًا، ولا ينشئه التنشئة الطبيعية المتدرجة شيئًا فشيئًا فينهار!

ومن أسباب التقبيل: قيام المشروع على فرد إما حقيقة أو حكمًا! كأن تكون معه مجموعة صورية لا تريش ولا تبري، فحري بمشروعه أن ينقطع بانقطاعه، وأن يتحمله وحده، مع أن مثل مشروعه يجب أن تتحمله فئة.

ومن أسباب ذلك: ضعف الإخلاص، أو طروء طارئ على النية يفسدها، فينسحب أثر ذلك على تحمل الأعباء والتبعات والتفاني والاحتساب، وقد قيل ما كان لله بقي! وما لم يكن بالله لا يكون، وعلى كل حال ما لم يكن لله فلا ينفع!

ومن الأسباب: طول الأمد، مع قلة المعين وضعف الناصر، وإذا طال الأمد حصل الكلل ودخل الملل، وقست القلوب، وتغيرت الأحوال، إلا إن استعصم العبد واستمسك بالله، ومن الأسباب المعينة على ذلك وجود الرفيق في الدرب، والمعين على العمل.

ومن ذلك: ضعف الحماس، وانعدام روح التحدي، فينتج الاستسلام للضغوط، ولست أعني ترك مراعاة الواقع، أو التزهيد في استعمال المدارة في أحوال، فبعض الظروف تتطلب مدارة وتؤدة ووقفات وهي من جملة الحكمة، لكن المذموم هو الاستسلام! وترك العمل.

ومن ذلك: الانسياق وراء الأوهام والاستجابة لتخويف الشيطان، مع عدم الاستعداد للتضحية! وكم من مشروع كان طيبًا ثم اعتورت صاحبه الأوهام، فخاف وتخلص وتغير لوهم يحاذره! وما أكثر الذين يخوفون الناس بمن دون الله! وعلاج ذلك قوة الإيمان والتوكل على الله وحسن التصور، وإعطاء الأمور قدرها، مع العلم قبل الشروع بضرورة الصبر والاحتساب، والتعلق بالله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

ومن أسباب التقبيل! عدم إعداد أجيال تحمل المشعل بعد الجيل الأول، والاكتفاء بالتخطيط القريب، مع أن الجادين في أمور الدنيا يخططون بعيدًا! أذكر أحد الفضلاء الباذلين الناجحين - رحمه الله - أراد الشروع في مشروع تجاري، فجلب الخبراء فأخبروه بأن موارد المنطقة الفلانية تكفيه لمئتي عام مقبلة! فما كان منه إلاّ أن ضرب يدًا بيد وقال بعفوية: وبعد مئتي سنة هل نغلق المشروع! وكأني بهم وضعوا أيديهم على رؤوسهم تعجبًا من بعد نظره، وإكبارًا له، وهذا المشروع له الآن أكثر من خمسين سنة، ويعد من أنجح المشاريع التجارية الربحية.

ومن ذلك الجهل بفقه الأولويات، فيشرع ثم يبدو له ما هو أولى بأن يصرف همته إليه، إما بالنظر إلى حاله وقدرته، أو بالنظر إلى حاجة الناس، وكل ذلك إغفال للأولويات في الواقع.

ومن ذلك ضعف العبادة والدعاء والاستعانة بالله، وقد قال الأئمة: ما لم يكن بالله لا يكون! ومن توجه إلى الله واعتمد عليه وتوكل أعانه وسدده، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام ففي الحديث: «وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة»[1]، وعلى هذا درج الموفقون، كان أحمد بن المعذل إذا حزبه أمر قام في الليل يصلي ويأمر أهله بالصلاة، ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، ثم ينشد:

أشكو إليك حوادثًا أقلقتني

فتركتني متواصل الأحزان

من لي سواك يكون عند شدائدي

إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني

لولا رجاؤك والذي عودتني

من حسن صنعك لاستطار جناني

وفي التنزيل ذكر الله صفات المسارعين في الخيرات فقال: {إنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ 57 وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 58 وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ 59 وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ 60 أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْـخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]، وقال عن أنبيائه بعد أن ذكر جملة من نجاحاتهم: {إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْـخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

فحري بنا أن نقتفي أثرهم، وأن نستعين بالله عز وجل على مشاريعنا، محافظين عليها، غير ناكلين، أو متعجلين في تقبيل مشروعات أنشأناها لنتقرب إلى الله عز وجل بها، مؤملين أن يبقى أثرها من بعدنا، فأعدوا العدة وخذوا الأهبة، واستعينوا بالله ولا تعجزوا، أسأل الله أن يوفق العاملين لدينه وأن يسددهم، وأن يسبغ علينا وعليهم صبرًا من عنده ورضوانًا، والحمد لله بدءًا وختامًا.

 

:: مجلة البيان العدد  335 رجب  1436هـ، إبريل – مايو  2015م.


[1] رواه أحمد في المسند 4/333، وقال محقق طبعة الرسالة 31/268 (18938): «إسناده صحيح على شرط مسلم».

googleplayappstore

أعلى