• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
شتاء مصر الساخن

شتاء مصر الساخن

 


بعد أقل من شهرين من توليه منصبه كرئيس لتحرير صحيفة الجمهورية القومية، أُوقف الصحافي جمال عبد الرحيم عن عمله في أكتوبر الماضي، وتم إسناد المنصب لآخر؛ بعد نحو يوم من نشر خبر كاذب عن قرار وشيك بمنع المشير طنطاوي والفريق سامي عنان من السفر لخارج البلاد، وهو الخبر الذي أغضب القادة العسكريين في مصر، ولم يشفع للصحافي أن نَشَرَ تكذيباً للخبر؛ فقد جاء سيف العزل سريعاً..

ماجت بحور الصحافة والإعلام حينها لفترة، لكن سرعان ما تم تقبّل هذا العزل من الجميع بمن فيهم وسائل إعلام تناصب رئيس مصر العداء، وفي وقت توجِّه فيه سهام النقد والسباب علانية عبر وسائل الإعلام للرئيس المصري نفسه..

بعد أسابيع، أطلق على طريق مهم في القاهرة اسم «محور المشير طنطاوي»، وفي ديسمبر الماضي وجّه رئيس الأركان التحية العسكرية لاسم المشير، وأثنى عليه..

القلادتان اللتان تلقاهما المشير والفريق من الرئيس المصري عند إبعادهما عن السلطة في أغسطس الماضي تكريماً لهما؛ لم تكبحا جماح الظنون بأن ما حصل في مصر حينها كان عنواناً على انفراد الرئيس المنتخب بالسلطة التنفيذية، فالواقع أن للقوات المسلحة وضعها الخاص في مصر، وأنها تظل دوماً حاضرة في المشهد وإن توارى بعض مسؤوليها.

الجميع في الحقيقة يرمقها عند أي منعطف، من في السلطة ومن يتخذون مواقف المعارضة، وحين دعا وزير الدفاع المصري القوى السياسية لحفل غداء وطني، اشرأبّت أعناق معارضين طمعاً في أن تجلب لهم هذه الدعوة تحولاً سياسياً يتطلعون إليه، لكنها حين ألغيت تراجعت حماسة المعارضة قليلاً في مناهضة الدستور.

«القوى المدنية» (العلمانية) ظلت طامحة في أن «تتعسكر» مصر، وصدرت تصريحات متعددة من أقطاب المعارضة تشجع على تغييرٍ ما خارج الاستحقاقات الديمقراطية، لكن المؤسسة العسكرية أبدت تمسكها بالشرعية القانونية والدستورية..

مضت هذه «التطلعات»، وتم إقرار الدستور بنسبة 63.8% من المصوتين، وتعاظم تطلع آخر من قبل «القوى الإسلامية» في أن تنكسر شوكة «مراكز القوى» أو «الدولة العميقة» مع دخول العمل بالدستور حيز التنفيذ، والبعض عقد آمالاً عراضاً على استقرار الأوضاع عقب التصديق على نتائج الاستفتاء، لا سيما مع بند «العزل السياسي» الذي يمنع عودة «الفلول» للعمل السياسي في البلاد، بيد أن تلك الآمال وإن كان لها ما يبررها من قوة الزخم الدستوري الذي أحدث تحولاً هائلاً في رسم خريطة طريق مصر المستقبل؛ إلا أن موازين القوى في الصراع الداخلي المصري لا تتوقف طويلاً عند النصوص المكتوبة؛ فما زالت «الدولة العميقة» أو «مراكز القوى» تضرب بجذورها في كل تربة مصر، ولا تزال عصيُّها توضع في دواليب الحكم وتمنع تحركه للأمام، لا سيما في ملفي الاقتصاد وملاحقة الفساد.

انطلقت مصر ما بعد الدستور، لكن معظم مفاصل الدولة مغلولة عن الحركة بفعل تغلغل مراكز القوى فيها؛ فالقضاء والإعلام والداخلية والخارجية والمحليات؛ بحاجة إلى جهد ضخم في تطهيرها، والمخاطر الخارجية لا تقل تأثيراً عن الداخلية في مساعي تقويض إدارة وحكومة الرئيس محمد مرسي.

استحقاقات تطهير مراكز القوى

والحاصل أن ثمة قاسماً مشتركاً يجعل مهمة تطهير بعض هذه المفاصل عسيرة جداً بالنظر إلى أن نظام مبارك كان حريصاً على إحاطة نفسه بأدوات فاسدة يغريها بالمال والامتيازات من جهة، ويهددها بملفات فسادها من جهة أخرى، ومن ثم صار لدينا عدد كبير من القضاة تبوؤوا مناصبهم بطريقة يرتقي إليها الشك، فالبعض قد جرى تصعيده، بل حتى تعيينه في مناصب النيابة والقضاء، بناء على قرابة أو بعد تقديم رشا، إذ وصل «تسعير» التعيين في بعض المناصب الرسمية إبان حكم مبارك، إلى أرقام فلكية لم يكن قادراً عليها إلا حفنة من المنتفعين، علاوة على أن تدخّل الأجهزة الأمنية في شؤون القضاء في تلك الأثناء جعل من إرضائها سُلّماً للوصول إلى بعض المناصب، حيث كانت تقدم تقارير حتى عن سلوك القضاة ووكلاء النيابة! وبعض الامتيازات تقع تحت يد نادي القضاة..

وعموماً؛ فإن قطاعات مهمة من هذه قد أوجد النظام السابق فيها مناخاً ملائماً للفساد جعل بعض العاملين والمسؤولين فيها يعتمدون كلياً على المخصصات المالية الكبيرة، والرشا المتنوعة، بما جعل من مهمة مكافحتها أو نزع صلاحيات بعض المسؤولين، ضرباً من ضروب الصراع العنيفة. كما أن بعض المسؤولين وغير المسؤولين من المحسوبين على نظام مبارك، ما زالوا يحتفظون بملفات إدانة لأتباعهم بما يضيف بُعداً آخر لتلاقي مصالح هؤلاء وأولئك.

يضاف إلى ذلك حجم الاختراقات التي يتردد الحديث عنها أثناء حكم النظام السابق، حيث لم تكن «إسرائيل» تعد مبارك كنزاً استراتيجياً من فراغ، بل إنه قد هيأ لها ما يمكنها الاعتماد عليه من مقومات التأثير في الداخل المصري، بما أمكن معه مواصلة هذا الدور عبر أدوات أخرى بعد خلعه.

وما يقال عن «إسرائيل» لا يمكن نفيه عن الولايات المتحدة الأمريكية، ولا دول الاتحاد الأوروبي، التي تمتعت بنفوذ هائل في الماضي، ولم تزل، ونسجت علاقات وثيقة في مختلف مراكز قوى مصر، وما رشح عن قضية التمويل الأجنبي التي جرى لملمتها بسرعة وبتدخل أمريكي/ أوروبي، يكشف بوضوح عن جانب من هذه المشكلة.

والواقع كذلك أن الإعلام الفاسد في مصر والذي بلغ حداً غير مسبوق من مسعى الهدم وعرقلة مشروع الانعتاق من زنزانة النظام السابق؛ يترك أثراً بالغ الخطورة، حيث ضُخت به المليارات من أجل إفشال إدارة الرئيس محمد مرسي وانهيار شعبية جماعة الإخوان والقوى الإسلامية المتحالفة معها، وهذا الإعلام الممول من الداخل والخارج يعد ترساً يقف خلفه العديد من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق، والذين لهم مصلحة كبرى في إعادة إنتاجه؛ حيث إن مكافحة الفساد ستترجم آلياً إلى ملاحقتهم قضائياً بسبب الأموال الهائلة التي تحصلوا عليها بطرق غير مشروعة إبان حكم مبارك، وكشف شبكات الفساد المتشعبة في الداخل والخارج، من ثم؛ فإن هذا الإعلام لا يخوض معركته على الهوية فقط لاعتباره يجسد الحالة العلمانية الشاذة والغريبة عن واقع المجتمع المصري، وإنما يخوضها أيضاً لمنع أي محاولة لملاحقة هوامير الفساد في مصر، حتى بعض كبار المستثمرين العرب في مصر الذين مُنحوا امتيازات غير مشروعة.

كما أن دولاً اشتهرت بأنها تسمح بـ «غسيل الأموال» في بنوكها ومصارفها، أعادت تدوير بعض أموال مبارك وزبانيته وعصابته في تقويضٍ لمساعي الرئيس مرسي في مكافحة الفساد والنهوض بمصر.

وما يقال فيما سبق ينسحب على قطاعي الخارجية والمحليات، وكلاهما يسيطر عليهما أنصار النظام السابق والمستفيدون به، والذين ارتبطت مصالحهم ببقائه، وجسّد انهياره صدمة لا يمكن علاجها إلا بإعادة إنتاج ما تبقى منه، والخضوع للجهات المحركة لتقويض حكم الرئيس مرسي من الخارج والداخل.

تحديات المرحلة القادمة

هي في الواقع كثيرة، لكن أهم ما يميزها أنها ناجمة عن عدم توافر الطرف الإصلاحي، وهو الرئيس وحزب الحرية والعدالة والقوى الإسلامية المتحالفة معهما، على قيادات وكوادر سياسية نضجت من خلال ممارسة العمل السياسي؛ إذ كان النظام السابق يحظر على «الإسلاميين» الارتقاء إلى مناصب عليا، كما أنه كان يحارب وجود الإسلاميين في القطاعات الحساسة؛ الأمنية والقضائية والإعلامية والخارجية وغيرها، ومن ثم لم يعد بالإمكان سوى الاعتماد على الطاقات الحالية المتوافرة، وهي في معظمها قريبة من النظام السابق وكثير منها «فلولي»، كما يقال؛ ولذا أضحت الخيارات صعبة في عملية التغيير والإحلال والتبديل..

أيضاً، مع عدم توافر الكوادر الإصلاحية؛ فإنه حتى إن توافرت فلن يمكن تسكينها بسهولة في أماكن ملائمة؛ لسببين، أحدهما: يتعلق بالممانعة الشديدة من الأدوات كافة؛ الإعلامية، والقانونية، و«الجماهيرية الموجهة» (أي ما يوجه إليه الأتباع من الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات الفئوية وغيرها). والثاني: يتعلق بقانونية العزل والإطاحة والإقالة، وهي إجراءات محكومة بضوابط وثغرات قانونية لا يمكن القفز عليها إلا بقوانين استثنائية مستحيلة الحصول في مثل هذه الأجواء المشحونة.

وثالثة الأثافي أن ما يُسعى إليه في هذا السياق يجري في ظل ظروف اقتصادية صعبة تسعى مراكز القوى إلى استغلالها من أجل الإطاحة بالرئيس وأركان حكمه الجديد، كما أن إتمام برنامجه يستلزم نجاح حزبه (الحرية والعدالة) والقوى الإسلامية في الفوز بالانتخابات القادمة لتشكيل الحكومة الجديدة ووضع برنامج النهضة في حيز التنفيذ.

عطفاً على ذلك، فإن الاقتصاد والاستثمار يستلزم مناخاً ملائماً لا يمكن إيجاده في وقت تناهض فيه المعارضة في الداخل اقتصاد البلاد بنشرها القلاقل والعنف والتحريض العلني للدول الغربية والعربية على محاصرة مصر، وهو ما قد تم بالفعل من قبل ألمانيا، وصندوق النقد الدولي، وبعض الدول الغربية الأخرى والخليجية..

كما أن حالة الانفلات الأمني المتعمدة تذهب بأحلام اقتصاديي الحرية والعدالة أدراج الرياح، وتفرغ البلاد من البيئة الحاضنة للاستثمار.

الشهور القادمة

ما تقدَّم ليس مشهداً يدعو إلى التفاؤل، لكن الحقيقة أن الرئيس مرسي وحزب الحرية والعدالة الذي يدعمه إلى جوار قوى إسلامية أخرى؛ قد نجحوا في عدد من معاركهم المهمة، لا سيما تولي الرئيس مرسي نفسه مقاليد الحكم، وإطاحة بعض الرموز القديمة، وكذلك تغيير النائب العام بآخر مشهود له بالاستقلال والنزاهة وبدئه عمله نحو تطهير سلك النيابة، وكذلك تعيين شخصيات نظيفة اليد على رأس بعض الأجهزة الرقابية، والنجاح في تمرير دستور متميز لا يمكن نقضه بسهولة في واحدة من أعنف معارك «الإسلاميين» وأشدها خطورة..

كذلك؛ فإن العديد من الإجراءات والقرارات ستطل في الطريق، وبعض مشاريع القوانين الإصلاحية جاهزة للنظر في مجلس الشورى القائم بأعمال مجلس النواب لحين انتخابه (وهو تهيمن عليه غالبية «إسلامية»)... إلخ.

المأمول هنا جيد، وقد بدا أن معركة الدستور قد قلَّمت أظافر مراكز القوى إلى حد ما، لكن بالطبع ليس هذا كافياً، فما تقدم من تحديات لا يمكن التصدي له عبر حزمة من قوانين أو إجراءات، بل لا بد من خوض معارك ضارية ضد الفساد، وضد المصالح المناوئة للمصالح المصرية، بجسارة وفي زمن قصير نوعاً ما؛ لأن رهان انهيار الحكومة وحكم الرئيس مرسي يزداد لدى معارضيهم كلما تعرقل مشروع النهضة، وعليه فيتوجب الإسراع في فتح الملفات وكسر شوكة مراكز القوى بضربات متوالية؛ على أن العمل في هذا المضمار يستلزم حكمة بالغة توازن ما بين الإسراع بضربات استباقية قوية ومتنوعة تذهب بتوازن الخصوم، وبين استعدائهم مرة واحدة ووضع جميع الخصوم في سلة واحدة تجعل من مهمة تقويض حكم الرئيس ممكنة..

والاعتدال والانتباه إلى الأولويات أمر مصيري، ويحتاج إلى توفيق رباني، وبعده تخطيط مدروس عاقل، كما أنه يستلزم تضافر الجهود الإسلامية وتكاملها في تحقيق مشروع النهضة بكل مفرداته ومحاوره..

وفي الحقيقة، إنه لم يبق على الاستحقاق النيابي وقت طويل، فنحو خمسة شهور فقط تفصلنا عن انتخابات مجلس النواب، وقبل هذا هناك ضرورة ملحة لحل مؤقت لمشكلة الاقتصاد، وكسر احتكار الإعلام، وضرب مراكز القوى بضربات مؤثرة تشل تحركاتها وتشتت تفكيرها ومساعيها؛ وهذا كله يستلزم تعاوناً على المدى الأعلى في تنسيق الجهود، واستدراك معضلة الإعلام، والعمل على إيجاد أكثر من رافد اقتصادي يحقق النمو ويجهض عراقيل النهضة، ولا بد من التفكير جدياً في المشاريع الاقتصادية البديلة التي يمكن أن تعمل عليها القوى الإسلامية بغية وضع قاطرة الاقتصاد على القاطرة الصحيحة، دون انتظار لإجراءات اقتصادية شاملة على مستوى الدولة..

التحديات كثيرة، ويفرضها خصوم الداخل والخارج على المشروع الإسلامي، لكن مع ذلك لا يمكن أن تلقى التبعة فيما يعانيه المشروع على تلك التحديات، فدون «الإسلاميين» مسؤوليات جسيمة لم يوفوها حقها حتى الآن، لا سيما فيما يتعلق بضبط فكرة تصدير الكفاءات، وإحداث الموازنة المتجردة الخالصة بين محددي الثقة والكفاءة، سواء في العمل السياسي العام أو الحزبي الداخلي، وكذلك؛ فإن شتات إعلامهم وهزاله على هذا النحو ليس مرده فقط عائداً إلى قلة الموارد، وإنما أيضاً إلى النمطية وقلة الإبداع وعدم الموازنة السالفة الذكر، والإخفاق في توظيف الأموال والطاقات على النحو الصحيح المنتج.. وهكذا.. وكذلك؛ فإن الانكباب على العمل السياسي المجرد وإهمال الجانب الدعوي في بعض مناحيه، والإخفاق في بناء مؤسسات أهلية ناجحة؛ قد ترك أثره السلبي على المشروع الإسلامي برمته، وحشر «الإسلاميين» في زاوية الفعل السياسي المجرد الذي يمكن تتبعه وانتقاده ونقده ونقضه، بخلاف زوايا العمل الاجتماعي الخيري والأهلي الذي ينهض بالبلاد ويرفع من قدرة الجماهير على الممانعة حيال موجات التغريب والتغييب.

:: مجلة البيان العدد 307 ربيع الأول 1434هـ، فبراير 2013م.

أعلى