آداب تعامل العبد مع الأقدار المؤلمة
مقدمة:
لما كانت
دنيا كانت كثيرة المنغصات {وَقَالُوا الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْـحَزَنَ إنَّ
رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: ٣٤].. دار الدرهم والدينار، حتى قد تأتي الشدة والعناء
من حيث تنتظر الراحة والرفاهية {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [التوبة: ٥٥].
النـــار
آخــر دينــار نطقت به
والهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما
ما لم يكن ورعاً
معذب القلب بين الهـم والنـــار
لذا لا بد
للعبد من أن يوطن نفسه فيها على المنغصات والكروب أو الأقدار المؤلمة.
الإيمان
بالقدر خيره وشره:
هذه سنة
الله في هذه الحياة {كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْـمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْـخَيْرِ فِتْنَةً
وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: ٣٥]، ولذلك من أركان الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره.
حديث جبريل
سبب روايته إثبات القدر خيره وشره.
وهذا الشر
ليس شراً في حق الله، وإنما هو شر في حق العبد، أما الله عز وجل فلم يخلق شراً
محضاً ولم يخلق شراً إلا لحكمة؛ ولذا لا ينسب له الشر سبحانه، فالشر ليس إليه (كما سيأتي) وإن كان هو
خالقه.
كيف نستقبل
أقدار الله المؤلمة؟
لما كان من
القدر ما هو شر ولا بد للعبد من شيء منه، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ
الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ١٥٥]؛ كان لا بد من معرفة العبد لآداب تلقي البلاء أو
القدر المؤلم، ومنها:
• الصبر
والرضا.
• عدم نسبة
الشر إلى الله وعدم النظر له كشر محض، بل يتأمل فيما وراءه من خير أو حكمة.
- عدم اعتقاد
دوامه، بل يعتقد عدم دوام الحال ويتفاءل بتغيّره لخير، فتلك سنة الله في هذه
الحياة الدنيا أن دوام الحال من المحال.
أولاً:
الرضا بالقضاء:
هو مرتبة
شاملة لما هو أكثر من الصبر الذي قال الله فيه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155
الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ}
[البقرة: ١٥٥، ١٥٦].
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: «وأسألك
الرضا بعد القضاء».
• الأعرابي
الذي ماتت له أباعر كثيرة، قال:
والله ما
ســرني أن إبـلي في مباركها
وأن
شـــيـئاً قضــاه الله لم يكن
الفرق بين قبل وقوع القدر المؤلم
وبعد أن وقع:
الرضا
بالقضاء لا يعارض الدعاء بتغييره أو السعي ليخلفه ضده (وباء في
ماشيتك عالجْه)، وتدعو:
- لا يرد
القضاء إلا الدعاء.
- والدعاء
ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
- واستفد
دروساً من المصيبة أو القدر المؤلم.
إنما يعارض
اعتقاد أن لا خير فيه من جهة الله ولا حكمة أو تألم القلب منه وانقباضه والشكوى
للخلق وعدم الأخير ليس بواجب.
قال
الشافعي:
دع الأيام
تفعــــــــل ما تشــاء
وطب نفساً إذا حكم القضـاء
ولا
تجــــــــزع لحادثة الليالي
فما لحـــوادث الدنيا بقـــــاء
وكن رجلاً على
الأهوال جلداً
وشيمتك السماحة والوفـــاء
ثانياً:
اعتقاد أن الشر ليس إلى الله ومن ثم تحاشي نسبته إلى الله:
فكما سبق
لم يخلق الله شراً محضاً، وما في كونه من شر ففي حق العبد، لكن وراءه خير يعم أو
يخص هذا العبد فيما بعد.
فهو سبحانه
يبتليك ليعافيك، ويمرضك لينجيك، ويضيق عليك ليرفعك في الآخرة، وينزل عليك الكرب
ليستخرج عبوديتك له.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «والخير كله
في يديك، والشر ليس إليك».
والقرآن علمنا عدم نسبة الشــر إلى
الله:
1 - {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: ١٠].
2 - {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: ٤ - ٧].
3 - {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ}
[آل عمران: ١٤]، والله خلقها زينة،
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ
الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ٧].
4 - {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِـمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: ٧٩].
{وَأَمَّا الْـجِدَارُ فَكَانَ
لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْـمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِـحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا
وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الكهف: ٨٢].
إذاً الشر
ليس من جهة الله، لكن بالنسبة للعبد.
ثالثاً:
التفاؤل بتغيّر الشر وعدم اعتقاد دوامه:
- ما بين
طرفة عين وانتباهتها
يغير الله
من حال إلى حال
- وكم أمــر
تســاء له صــباحاً
وتأتــيك
المســـرة بالعـشي
قال ابن
عباس
- رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي
شَأْنٍ} [الرحمن:
٢٩]: يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء.
وقال أبو
الدرداء:
من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين.
وعن مجاهد
عن عبيد بن عمير: من شأنه أن يجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويفك عانياً، أو
يشفي سقيماً.
لذلك كان
القنوط من رحمة الله ضلالاً وكفراناً، {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا
الضَّالُّونَ}
[الحجر: ٥٦]، {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا
تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧].
وفي أبيات
الشافعي:
ولا تَجْزَعْ
لحـــادثـة اللَّيــــالي
فما لحــوادثِ الـدنـيــا بَقَـــاءُ
ولا
حُزْنٌ يَــدُومُ و لا سُــــرُور
ولا بؤس عليك ولا رخاءُُ
فدوام
الحال من المحال، والله يغير أحوال العباد من قدر إلى قدر بما لا يفطن إليه عقل،
وربما انعكست الأمور تماماً وأتى الخير من حيث كان الشر، وخرجت المنحة من رحم المحنة،
وانطلق الفرج من مضيق الشدة، فمن ذلك:
- {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلَى مَعَادٍ} [القصص: ٨٥]. وتأمّل
قوله
صلى الله
عليه وسلم وهو خارج من مكة، وحاله لما رجع إليها.
- {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ
أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا
تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْـمُرْسَلِينَ} [القصص: ٧].
- {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن
مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَدًا } [يوسف:
٢١].
- {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ
وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ} [يوسف: ٥٦]، بشرى،
والتمكين الحقيقي بعد: {قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: ٥٥].
- قصيدة
المعتمد خليفة الأندلس لما هاجت الفتن وأسره المرابطون:
فيما مضى كنت
بالأعياد مسروراً
فساءك العيد في أغمات مأسوراً
ترى بنـاتـك
في الأطـمار جــائعةً
يغزلن للنـاس لا يملكن قـطــميراً
برزن نحـوك
للتـســليم خــاشــعةً
أبصـــارهنّ حســيراتٍ مكـاسيرا
يطأن في
الطــين والأقـدام حـافيةً
كأنها لم تـطــأ مـسـكــاً وكـافـورا
بل ربما
حدث تغيّر من الحال إلى الضد في لحظات، وقد سجل بعض العلماء نكتاً تاريخية في ذلك،
منها ما ذكره شمس الدين بن طولون في اللمعات البرقية:
«روى
العلامة بدر الدين الأسدي في أحداث سنة 556 أن نقيب الأشراف بدمشق مرض مرضاً شديداً أيس منه،
ففوض السلطان نور الدين النقابة وما كان بيده من الولايات إلى ولده، واشتغل الولد
بتجهيز والده وترتيب أكفانه، وعقد له قبراً، فاتفق أنه عافاه الله وانطرح ولده
مريضــاً فمات في اليوم الخامس! فجُهّز بذلك الجهاز ودُفن في ذلك القبر الذي بناه لوالده» (الكواكب
الدريّة في السيرة النبوية، ص 159، بواسطة اللمعات البرقية في النكت التاريخية).
«قلت: وشهد بعض
العلماء جنازة ببغداد، فتبعهم نبّاش، فلما كان الليل جاء إلى ذلك القبر، ففتح عن
الميت
- وكان شاباً قد أصابته سكتة -، فلما فتح القبر نهض ذلك الشاب الميت جالساً فسقط
النباش ميتاً في القبر، وخرج الشاب من قبره إلى أهله».
ثم قال
العلامة بدر الدين «في سنة 534 وفيها توفي رجل صالح من أهل باب الأزج (محلة كبيرة
ذات أسواق في شرقي بغداد)، فنودي للصلاة عليه بمدرسة الشيخ عبد القادر، فلما أريد
غسله عطس وعاش، وشهق المُغسّل فمات (الكواكب الدرية ص 110)، وذكره
ابن الجـوزي في المنتـظـم، لكـن بدل موت المغـســل (وأحـضـرت
جــنازة أخـرى فصـلى ذلك الخـلق عـليها) 18/4، وكذا في (البداية
والنهاية)
6 / 216 - 217».
كم مـريـض قـد
عــاش مـن
بعد موت الطبيب والعُوّاد
قد تُصاد
القطا فتنجو سريعاً
ويَحِــلُّ القـضـاء بالصـياد
ومن عجائب
تغيّر الأحوال أن رجلاً اخترع للسلطان آلة للتعذيب، فكان هو ممن عذب بها (محمد بن
عبد الملك صنعها للواثق: تنور خشب به مسامير قائمة عذب به أياماً ومات).
ولو تأملت
انعكاس الأحوال في حياة الناس ثم تأملت صفات الناس أنفسهم؛ لوجدت أيضاً التضاد
والتعاكس في الجمال والقبح، أو الذكاء والغباء، وهذا خلاف أحوال الناس في الجنة (ليس في
الجنة حمقى أو مغفلون).
فمن الأضداد
في الدنيا:
- في الكـرم:
لو لم
يكن في كفِّه غير رُوحه
لجَادَ بها فليتقِ اللهَ سَائلُهْ
- في البخل «يقتر على
نفسه بما لا يوفر له شيئاً»:
يُقتِّر عيسى
على نفسه
وليس بباقٍ ولا خـــالدِ
فلو يســتطـيع
لتقـتيره
تنفَّـس من منخـرٍ واحدِ
جوهر بلا
منظر، ومنظر بلا جوهر: نظر جالينوس إلى رجل عليه ثياب فاخرة يتكلم بكلام فيلحن
في كلامه، فقال:
إما أن تتكلم بكلام يشبه لباسك أو تلبس لباساً يشبه كلامك.
ومما قيل
من طرائف قول تشرشل «رأيت وأنا أسير في إحدى المقابر ضريحاً كُتب على رخامته: هنا يرقد
الزعيم السياسي والرجل الصالح، فعجبت كيف يُدفن الاثنان في قبرٍ واحدٍ؟»، وهذا
مبني على السياسة الحديثة التي أنتجها الغرب وانتهجها العالم، إلا من رحم الله.
وأطرف من
ذلك ما رواه أنس، حيث يتفل النبي صلى
الله عليه وسلم في القصعة فيبارك في الطعام ويكفي المئات، ويبصق
مسيلمة في بئر لما ادَّعى النبوة فتيبس، ومسح على رأس صبي فذهب شعره.
ومن
المناسب أن نختم بأبيات من الشعر لعلي بن الجهم، جمعت الآداب الثلاثة التي ذكرناها
في التعامل مع الأقدار المؤلمة: الصبر والرضا، وأنها ليست شراً محضاً، وأن دوام الحال من
المحال:
قالت:
حُبِستَ. فقلتُ: ليس بضائري
حبسي،
وأيُّ مهنــَّـدٍ لا يُغــمــدُ
أوَ مَا
رأيتِ الـلــيـث يـألــف غِــيلَـه
كِبراً،
وأوباشُ السّـِــباعِ تـردّد
والشــمـسُ
لـولا أنـها مــحـجــوبـة
عن
ناظريكِ، لما أضاء الفرقـد[1]
«الرضا»
وَالزاعِــبـِيَّـةُ[2] لا
يُـقــيـمُ كُـــعــــوبَـها
إِلّا الثِـقــافُ[3] وَجَـــذوَةٌ
تَـتَــوَقَّــدُ
وَالنـارُ
في أَحـجــــارِها مَـخــــبـوءَةٌ
لا تُصطَلى
إن لَم تُثِرها الأَزنُـدُ[4]
«النظر
للخير الكامن في المحنة والشدة»
وَالغَيثُ
يَحصُــرُهُ الغَـمامُ فَــما يُرى
إِلّا
وَرِيِّـــقُــهُ يُــراحُ وَيَــرعُـــدُ
كَـم مِـن
عَــليلٍ قَد تَـخَـطّـــاهُ الرّدى
فَنَجــا
وَمـاتَ طَـبـيـبُهُ وَالعُــوَّدُ
«عدم دوام
الحال»
::
مجلة البيان العدد 321 جمادى الأولى
1435هـ، مارس 2014م.
[1] النجم
الصغير.
[2] نسبة إلى
زاعب: رجل أو بلدة.
[3] ما تسوى
به الرماح، وهي حديدة تكون مع القواس والرماح يقوّم بها الشيء المعوج، ويفعل ذلك
بالرماح وهي على النار.
[4] الزَّند
والزندة خشــبتان يسـتقدح بهما، أي: تستخرج النار، فالزند العود الأعلى الذي
يستقدح به النار، والسفلى زندة، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ،
أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ}، وكذا حك الزلط
وضربه.