• - الموافق2024/11/10م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
كيف نبني المجمتع المسلم؟

إن التغيير الإيجابي في المجتمعات الإسلامية لتتحول من واقع شِرْكي وبدعي إلى واقع إيماني، ينبغي أن يكون على المنهاج الذي سار عليه الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله تعالى. فهم قدوة المؤمنين وأسوتهم في كل زمان ومكان.


إن الغاية من خلق الإنسان هي طاعة الله تعالى، وعمارة الأرض وَفْقَ المنهاج الذي أنزله الله جلَّ شأنه لحركة الحياة. ومعنى الطاعة: الدينونة الشاملة لله جلَّ ذكره في كلِّ شأن من شؤون الحياة. وهذا يعني تسيير شؤون الحياة وَفْق شرع الله تعالى وأحكامه، وابتغاء مرضاته.

والتكليف يشمل جميع الأعمال الإرادية سواء كانت قلبية أم سلوكية أم قولية. وبذلك يستوعب جميع الشؤون والأعمال التي لها علاقة بالعقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق وأعمال القلوب.

إن الأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن الكريم تهدف إلى بناء المجتمع الصالح للوصول به إلى أعلى درجات الكمال البشري والسمو الروحي؛ لأن بناء الإنسان في الإسلام هو الأهم؛ وذلك ليحفظ المؤمن نفسه ودينه وعِرضه، ويُنَمِّي عقله على الفضيلة والإحسان، ويتعلَّم ما يجب فعله وما يجب تركه، لينفع نفسه وأسرته ومجتمعه.

ومن يقرأ السيرة النبوية الشريفة، يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم  قد تخرَّج من مدرسته جيل فريد من المؤمنين حازوا قصب السبق في ميادين العلم والعمل الصالح معاً، واستمرت سيرتهم امتداداً لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام في الاهتمام بالعلم والعمل به، وفِقْه الدين، ففتحوا القلوب والأفئدة، ونقلوا للناس هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم  ماثلاً. فكانوا بذلك قدوة للتابعين وتابعي التابعين في الاعتقاد الصحيح والسلوك المستقيم. فما انقضى عصرهم حتى أظهر الله جلَّ ثناؤه دينه على العالمين، ودانت لسلطانه أمم الأرض، إلا من اعتصم وراء البحار، وعاش بعيداً في الأحراش والأدغال.

وبذلك صار المؤمنون السابقون رموزاً شامخة، وأعلاماً هادية، وقدواتٍ سامقةً، ينبغي للأجيال المسلمة في كل العصور أن تتأسَّى بهم في ميادين العلم والعمل، والتربية والسلوك، والعقيدة والعبادة، والمعاملات والأخلاق، والصدق مع الله تعالى والإخلاص له.

على أن الفساد المتفاقم اليوم في جميع المجالات والمرافق الحيوية في بلدان المسلمين على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري والأمني والثقافي والإعلامي؛ هو فساد مستشرٍ في الشعوب، ومدعوم من الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي.

وإزاء هذا الواقع القاتم والمظلم، فإن الإصلاح الحقيقي ينبغي أن يُرَكِّز على بناء الأفراد، والأسر، ومن ثَمَّ بناء المجتمعات الإسلامية وفق المبادئ والقيم، والتعاليم والتوجيهات الواردة في القرآن العظيم والسنة الشريفة.

وهذا يحتاج إلى:

غرس مفاهيم الإيمان في النفوس بأبعاده القلبية والقولية والعملية، والعناية خاصة بأعمال القلوب، وما يترتب عليها من رسوخ القدم في الإيمان، وصدق العزيمة، والإخلاص، والشجاعة في الحق، والصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على أذى الخلق، والتزود بالتقوى، والزهد في حطام الدنيا الفاني، والتحصن بمكارم الأخلاق، والتقيد بالمعاملات الشرعية، والوقوف عند حدود الله تعالى فيها، والحرص على ما عند الله تعالى.

وكذلك التركيز على الجانب العبـادي وتكثيفه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يربِّي عليه أصحابه: من قيام الليل والذكر وتلاوة القرآن، والتربية على الزهد في الدنيا، وإنشاء همِّ الآخرة، وانتظار موعود الله تعالى فيها.

والتربية الجادة للنفوس، وإحياء السلوك الإسلامي، وأخلاق السلف الفاضلة، والقضاء على الرواسب والأخلاق الرديئة. وهذا يحتاج إلى صبر طويل وجهد تربوي كبير يتحمله العلماء والدعاة.

وتوسيع نطاق الدعوة إلى الله جلَّت عظمته، والبلاغ العام ليشمل كافة الشرائح والفئات الاجتماعية، وتعرية الباطل باللسان والبيان.

ويحتاج أيضاً إلى تربية المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، والتضحية بالغالي والنفيس ابتغاء مرضاة الله تعالى، وتخليص النفوس من الشح والبخل وحُبَّ الدنيا.

وتخلية قلوب الناس من الولاءات القَبَلية والعشائرية والعرقية والحزبية، وجمعهم حول الإسلام، الدين الذي ارتضاه الله تقدست أسماؤه للمؤمنين.

وإعداد النفوس للجهاد في سبيل الله إذ هو ذروة سنام هذا الدين؛ فالجهاد هو ثمرة الفهم السليم والقصد الصحيح والصبر الطويل، فلا يمكن أن يتخلص المسلمون مما يعانونه من ذلٍّ ومهانة، ووهْن وضعف، إلا أن تحيا معاني الجهاد في قلوبهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم  «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلّاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»[1].

إن التغيير الإيجابي في المجتمعات الإسلامية لتتحول من واقع شِرْكي وبدعي إلى واقع إيماني، ينبغي أن يكون على المنهاج الذي سار عليه الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله تعالى. فهم قدوة المؤمنين وأسوتهم في كل زمان ومكان.

ذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد البدء بدعوة الناس إلى عبادته وتوحيده، وخَلْع كلِّ ما يُعبَد من دونه لا شريك له، حتى إذا امتلأت قلوب الناس بمعرفة الله تعالى وتوحيده وخشيته، جاءت الأوامر والنواهي، والأحكام والنظم، وقد استعدَّت النفوس لقبولها، وأذعنت لتفنيدها: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١].

فمن منطلق هذه السُّنة الثابتة ترتفع وتنخفض المجتمعات، وعلى أساسها يكافئ الله جلَّ ذكره ويعاقب. فهي المدخل لتغيير واقع المجتمعات الإسلامية من سيئ إلى أحسن، وهي مفتاح النصر والتمكين في الأرض.

ولأجل ذلك، فإن عملية تغيير المجتمعات ليست بالسهلة؛ إنها تحتاج إلى وقت طويل وصبر مرير. ذلك أن العلماء والدعاة إلى الله تعالى، وهم يعملون وَفْقَ المنهاج المسطَّر في الكتاب والسنة، ويقومون بتربية الناس على التحلي بالصفات الواردة في القرآن الكريم: من الإيمان، والتوحيد، والسلوك الرصين، وأداء العبادات والمعاملات على الوجه الكامل، والتزُّين بأخلاق السلف الفاضلة؛ لا بد أن يصبروا على العقابيل والشدائد والعوائق التي تعترضهم في هذا الطريق؛ لأن الباطل سيحشد أجناده لصدهم عن سبيل الله، فلا بد أن يضحُّوا بالغالي والنفيس من أجل الدعوة، ويصبروا على ما يصيبهم في سبيلها، والله تعالى المستعان.

إنه لا يمكن إقامة الدولة الإسلامية بمفهومها الشامل، بحيث تكون الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع في كل شؤون الحياة ومجالاتها، إلا إذا استقرت العقيدة الصحيحة في قلوب المسلمين، وتخلصوا من ركام الشرك الأكبر والأصغر بشتى صوره وألوانه، ومن حظوظ النفس والأهواء والمعاصي. إذ لا قيمة لنظام إسلامي يقوم (إن قام) والناس الذين سيحكمهم هذا النظام لم يستعدوا بَعْدُ لقبوله، ولم يتخلصوا من رواسب الجاهلية، والأهواء والشهوات والشبهات، ولابستهم المعاصي والذنوب[2].

فلا مخرج من الواقع المزري الذي يعيشه المسلمون، إلا بالسير في طريق النجاة والفلاح الذي رسمه لنا القرآن الحكيم، وأوجز معالمه في سورة العصر. قال تعالى: {وَالْعَصْرِ 1 إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2 إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: ١ - ٣].

فمن خلال هذه السورة الكريمة يتبيَّن لنا أهمية الاجتماع والتكتل والتراص، والتعاون على البر والتقوى؛ لأن الحق لا ينتشر ولا يسود بين الناس إلا بجماعة مؤمنة محتسبة صادقة مخلصة، تبذل الجهود المشتركة في تعلم الحق ونشره بين الناس، والصبر على تكاليفه؛ لأن هذا الأمر، أمر التمكين للدين يحتاج إلى زمن مديد، وجهد كبير، وصراع مرير مع الباطل وأهله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].

وذلك حتى تتهيـأ النفـوس لنصر الله تعالى في وقتـه الـذي يختـاره جل شـأنه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40].

 


 


[1] عبد العزيز الجليِّل: وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم (متى نصر الله)، 1/235 - 242 (بتصرف). والحديث أخرجه أبو داود في سننه، كتاب البيوع، برقم 3462: 3/274 - 275.

[2] عبد العزيز الجليل: وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم (فبهداهم اقتده)، 3/134 (بتصرف).

 

 


أعلى