صعدة.. من حركة الهادي إلى فتنة الحوثي
بعد ظهور جماعة الحوثي بصعدة عام 2004م، كثر الحديث عن هذه المدينة، ولذلك رأينا كتابة هذا البحث للتعريف بها، وتلمس أهم العوامل التي تقف وراء ظهور تلك الجماعة فيها، وغير ذلك، مما نرى أنه سيجيب على العديد من الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع.
المعلومات الجغرافية والبشرية
صعدة مدينة يمنية يرجع تاريخها إلى العصور القديمة، فقد كانت معبراً لقوافل اللبان والطيب في الجاهلية، ثم قوافل الحجيج بعد الإسلام. قال الهمداني في صفته: «كانت تسمى في الجاهلية جماع، وكان بها في قديم الدهر قصر مشيد، فصدر رجل من أهل الحجاز من بعض ملوك البحر، فمر بذلك القصر وهو تعب فاستلقى على ظهره وتأمل سمكه فلما أعجبه قال: لقد صعده، لقد صعده، فسميت صعدة من يومئذ». هذا عن صعدة القديمة، أما صعدة الحديثة فيقال إن الذي اختطها هو الهادي يحيى بن الحسين، وذلك في أواخر القرن الثالث الهجري، وهي تقع على بعد ثلاثة كيلومترات من صعدة القديمة، التي كانت قائمة عند سفح جبل تلمص. وتقع صعدة شمال صنعاء، وتبعد عنها 250 كم، ويحدها جنوباً محافظتا حجة وعمران، وشرقاً الجوف، وشمالاً وغرباً السعودية. وهي تتميز بطبيعة جبلية وعرة في أغلب جهاتها، ويتراوح ارتفاع جبالها بين 1500 و2500م عن سطح البحر، ففي الشمال والغرب جبال جماعة ومنبه وغمر وخولان ورازح، وفي الجنوب جبال النظير والقلعة وسحار وجبل الصمع، وفي الشرق جبال همدان مثل جبل براش. وقد اكتسبت تلك الجبال مسمياتها تلك من أسماء القبائل التي استوطنتها وعمرت القلاع والحصون فوقها منذ القدم، مثل قلعة السنارة، وقلعة الصمع، وقلعة رازح، وحصن العبلا، وحصن أم ليلى. وتتخلل تلك الجبال وديان تجري فيها السيول في موسم المطر (الصيف)، والتي تغذي قاع صعدة الزراعي، وهو أحد القيعان الخصبة في اليمن، حيث تكثر فيه زراعة الفواكه، كالعنب، والرمان، والخوخ، والمشمش. واشتهرت صعدة بصناعة السيوف، وأدوات الحراثة والدباغة، ولا تزال صناعة الأواني الحجرية (الحرض) والصياغات الفضية، وصناعة الخزف والأواني الخشبية قائمة حتى الآن. ويتقاسم النفوذ فيها قبيلتان كبيرتان هما: همدان بن زيد، وتتفرع منها قبائل وائلة، وآل سالم، والعمالسة، والمقاش. ثم خولان عامر: وتتفرع منها قبائل سحار، وجماعة، وخولان. ويبلغ عدد سكانها ٦٩٥ ألف نسمة (إحصاء 2004). ويشكلون (3.5%) من إجمالي سكان اليمن، ولا يتعدى سكان صعدة عاصمة المحافظة 60 ألف نسمة.
الهادي الرسي بصعدة
كانت جبال صعدة الشاهقة بؤرة للتمرد الدائم من قبل هذه القبائل ضد الحكام منذ أن عرفت اليمن نظام الحكم المركزي قبل الإسلام، وهي لذلك قد أغرت بمناعتها الطبيعية، وببعدها عن بغداد مركز الخلافة العباسية، يحيى بن الحسين، للوصول إليها لإعلان دعوته منها، فقد كان لقبائل صعدة دور في الصراعات السياسية في عهد الأمويين، ثم نتيجة للفراغ السياسي، الذي سببه ضعف الدولة العباسية، التي تكالب الخارجون عليها، عادت هذه القبائل لتتناحر فيما بينها على الحكم وعلى الموارد الشحيحة، ولذلك مالت إلى إعطاء السلطة لطرف ثالث ليقوم بدور تحكيمي بينها، وكان هذا الطرف هو يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي. وكان وصوله إلى ديار خولان سنة 284هـ، فبايعوه على الطاعة، فأعلن نفسه خليفة علوياً، فاطمياً، هاشمياً، مستقلاً عن الخلافة العباسية، وسمي بالإمام الهادي إلى الحق، وضربت السكة باسمه، ثم ساروا معه إلى صعدة، فملكها واتخذها عاصمة لدولته. وللترويج لفكره قام الهادي ببناء مسجده بصعدة، والذي لا يزال قائماً حتى اليوم، كما أقام عدداً من الهجر، خارج صعدة في الأماكن التي خضعت له. وكان شيوخ قبائل صعدة، عمود أمره، ونظام دولته، وكانوا كذلك لأبنائه، برغم أن هؤلاء الأبناء ميزوا أنفسهم عن بقية الشعب على أنهم السلالة الهاشمية الحاكمة. بل إن الهادي نفسه دشن فكرة شرط البطنين في الإمامة، أي حصرها في ذرية الحسن والحسين دون سواهم، أي جعل الإمامة حقاً إلهياً، وهذا يعتبر تجاوزاً لمذهب الإمام زيد، الذي أجاز اختيار الخليفة من خارج بيت فاطمة، إذا كان في ذلك تحقيق المصلحة العامة للمسلمين، بحسب رأي الشيخ أبي زهرة في كتابه «الإمام زيد»، وهو المبدأ الذي يعبر عنه فقهياً بـ«حكم المفضول في وجود الفاضل». ولقد أشار الدكتور عبد الله الشماحي، أستاذ التاريخ الإسلامي، بجامعة صنعاء في مقابلة له، إلى أن «ثقافة الإمام الهادي العامة جزء من الثقافة الزيدية المشرقية الفارسية، التي انتقل بها إلى اليمن، ومن ثم أعلن هذه الفكرة [فكرة حصر الإمامة في البطنين]، وهي كما يرى فكرة دخيلة على المذهب الزيدي، وهي من أهم ملامح تأثر الفكر الزيدي بالفكر الفارسي، ونظرية الحق الإلهي. ليس هذا فحسب، كما يقول، بل عندما جاء إلى اليمن جاء معه كثير من أصحاب المشرق يناصرونه، وهم الطبريون.. بل وزوج بعضاً منهم من بناته».
تداعيات الفتنة الزيدية بصعدة
لما كانت سلطة الأئمة الزيديين مستمدة من البنى القبلية القائمة في تلك المنطقة، ولأن النظام القبلي يقوم على التنازع، فقد وجدت طموحات الإمامة ملاذاً لها في هذه البيئة، فقد ضمن الأئمة حكم اليمن بإثارة الخلافات بين القبائل، إلى جانب تكريس التقسيمات السلالية والمناطقية للمجتمع اليمني. ذلك أن الإمام الهادي لم يقدم إلى صعدة لنشر علم الإمام زيد أو علم غيره من علماء آل البيت، وإنما قدم إليها لهدف سياسي بالدرجة الأولى، وهو إيجاد نواة لخلافة علوية تكون نقطة انطلاق للزحف على بغداد واحتلالها وإقامة خلافة بديلة للخلافة العباسية، غير الشرعية بنظره. ومن هنا فلم تأت الزيدية إلى اليمن لتوحيد الصفوف التي كانت منقسمة على نفسها إذ ذاك، وإنما جاءت لتحقيق هدف سياسي، ولذا فقد صاحب قيام الدولة الزيدية زيادة اضطرام الصراعات السياسية والمذهبية والقبلية في اليمن، والذي كانت تحكمه غداة تأسيس هذه الدولة عدة دويلات كالزيادييين في تهامة، وكاليعفريين في شبام، وكالدعاميين في همدان، وكعلي بن الفضل في مذيخرة. كما أدى قيام حكم الهادي وانتشار كتبه إلى انبعاث الجدل المعاكس من قبل الأطراف الأخرى، وكان لصعدة دور خطير في الصراعات والحروب المتواصلة التي شهدتها اليمن في تلك الفترة، حيث شهدت الصراع الدموي العنيف بين الزيدية والإسماعيلية على الحق الإلهي المزعوم للعلويين في الخلافة، والذي يدعيه كل منهما. ولما قامت الدولة الصليحية، كامتداد لأصول الباطنية الإسماعيلية وعلى أساس الارتباط المذهبي مع الحكم العبيدي في مصر، واتخذت من جبلة بوسط اليمن عاصمة لها، ظل الجدل الدعائي متعالياً، بين صعدة وجبلة، لاختلاف المذهبين الشيعيين، ولحب الاستئثار بالسلطة، فشنعت صعدة حكم جبلة، كما نددت بحكم مذيخرة من قبله، مثلما شنعت بعد ذلك بحكم تعز والمقرانة في عهد الرسوليين والطاهريين.
قبائل صعدة ذخيرة الإمامة الزيدية
كانت جبال صعدة الشاهقة وبيئتها القبلية المحاربة على مدى قرون ذخيرة الإمامة الزيدية في حروب الدولة المركزية في صنعاء أو زبيد أو تعز. وفي كل حروب الأئمة الزيديين، وحروبهم كلها ضد المسلمين، أو بين بعضهم البعض. وكانت قبائل صعدة وقبائل شمال الشمال هي الخزان الكبير لوقود هذه الحروب، وكانت في الوقت نفسه الحصن الذي يحتمي بداخله الأئمة عندما يهجم خصومهم عليهم، أو حتى في الحروب التي كانت تنشب بين بعضهم البعض، بسبب صراعاتهم المستمرة على السلطة، وذلك لتعدد العائلات الحاكمة، ولشعور كل بيت هاشمي، بأحقيته بالخلافة، واستيفائه الشروط المكتسبة شخصياً، وذلك لغياب فكرة التوارث في الفقه الهدوي، لأن الخلافة عندهم اكتسابية، لا وراثية كالملكيات. وكان ذلك الصراع يتم تحت مبدأ الخروج على الإمام الظالم، وهو مبدأ ثوري وظفته الإمامة للتمرد الدائم ضد الدولة المركزية، ولتبرير الاستيلاء على السلطة، ونهب المدن والمناطق الزراعية، ثم بعد ذلك وظفه الأئمة لتبرير الخروج على بعضهم البعض، واشتدت الحروب فيما بينهم، وبصورة مأساوية أحرق الأئمة أنفسهم واليمن معهم. وقد كانت تلك الطبيعة الجبلية الوعرة، إلى جانب البيئة القبلية المحاربة، والعمل من قبل الإمامة على استرضاء النزعة الاستقلالية لتلك القبائل، من أهم العوامل التي حافظت على استمرارية الإمامة بشكل متقطع لأكثر من ألف عام (من 898 إلى 1962م)، وذلك برغم انعزالية المذهب الزيدي، وبرغم قصر منصب الإمامة على سلالة بعينها. فالدولة الزيدية، هي الدولة الوحيدة التي استمر وجودها فترة طويلة، وعاصرت جميع الدول اليمنية، التي قامت في العصر الوسيط، ولعبت دور المعارض لها، ودخلت معها في حروب كثيرة، وذلك بسبب نعرتها السلالية، والطائفية، وتغذيتها للنزعة العصبية، والاستقلالية، لقبائل صعدة، وقبائل حاشد وبكيل. وظلت منطقة صعدة دوماً حجر عثرة في طريق توحيد اليمن، منذ قدوم الهادي في أواخر القرن الثالث الهجري، وحتى القرن الرابع عشر. وقد استعصت هذه المنطقة على اليعفريين والحاتميين والصليحيين والأيوبيين والرسوليين والطاهريين. وعُرف الزيدية في تاريخهم الطويل بقدرتهم على التكيف مع الظروف، فهم يكمنون عندما يتم تضييق الخناق عليهم، لكنهم يعاودون البروز مرة أخرى، مهتبلين أي فرصة تسنح لهم بعد فترة زمنية قد تقصر أو تطول. وعند سقوط الدولة الطاهرية، وهي آخر دولة سنية حكمت اليمن، على أيدي المماليك عام 1517م، سيطر الأئمة الزيديون على جميع المنطقة الجبلية الشمالية، بما فيها صنعاء. وتلا ذلك تدشين أعنف هجمة زيدية ضد المناطق السنية في تهامة، وقد توجت تلك الهجمة باحتلال تعز سنة 1535م، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها الزيديون تعز.
صعدة والصراع بين أئمة الزيدية
برغم أن صعدة احتضنت الفكر الزيدي، وكانت ولا تزال أهم معقل للجارودية، إلا أنها لم تكن برداً وسلاماً على أئمة الزيدية، بل كانت أحياناً تتمرد عليهم، خاصة على أولئك الذين يعلنون عن إمامتهم، في معاقل أخرى للزيدية بعيدة عن نفوذ قبائل صعدة. ذلك أن ظهور الزيدية بصعدة قد أدى إلى ازدياد هجرة الأشراف من البطنين ومن الهاشميين إلى هذه الجهات واتخاذها موطناً لهم. فهذا، بجانب تزايد العائلة الهادوية بالتوالد، أدى إلى تكاثر أعداد من تنطبق عليهم شروط الإمامة، ومن ثم زيادة التنافس على الإمامة، وكثرة الخارجين عليها من الهاشميين. لأن كل بيت أصبح يرى نفسه الأحق: إما لكثرة مرشحيه، أو لقربه من عهد المؤسس. ولذلك شهد التاريخ الزيدي صراعات عنيفة، بين الأخوة والأقارب، وأحياناً بين الابن وأبيه، وكان تولي الإمام غالباً ما يرافقه استخدام العنف وسفك الدماء. وخلال عهود الهادويين، والقاسميين، والمتوكليين، شهد شمال اليمن ظهور عدد كبير من الأئمة، الذين أعلنوا دعوتهم لأجل ابتزاز الأموال، وللوصول إلى السلطة، بذريعة مبدأ الخروج على الظلمة الذي تم توظيفه لخدمة الأطماع الشخصية، وجرّ ذلك إلى تناحرات شديدة بين الأئمة القائمين، والأئمة المنشقين عنهم، فضلاً عن احتدام الخلافات الفكرية القوية بين المدراس الزيدية، والتي كانت تنتهي أحياناً بالاحتكام إلى السيف، وكانت صعدة هي البؤرة الأشد عمقاً لتلك الصراعات الفكرية. وحين لمع نجم الإمام المتوكل شرف الدين، بعد انهيار الدولة الطاهرية، وحاول بسط سيطرته على الهضبة الشمالية، كانت صعدة أهم المعترضين على إمامته، وكان ذلك إيذاناً بنشوب حرب ضروس بين الطرفين، انتهت باستلائه عليها في 940هـ، بعد 15 عاماً من الحروب، وكذلك وقف أشراف صعدة في وجه ابنه المطهر، الشخصية الإمامية الدموية، أثناء حروبه ضد العثمانيين، ولم يفلح المطهر في الاستيلاء عليها إلا بعد تقريب أشرافها إليه بعد أن وقفوا ضده لمدة طويلة. وحين شهدت الأيام الأخيرة للدولة المتوكلية تراجعاً بسبب الخلافات الداخلية، وتراجع الحكم العثماني في مطلع القرن العشرين، برز الإمام يحيى حميد الدين، بوصفه شاباً مؤهلاً يحظى بإجماع فقهاء الزيدية، لكن صعدة وحدها هي التي خرقت الإجماع، إذ ادعى أحد الهاشميين بضحيان أحقية الإمامة، مما دفع إلى إجراء مناظرة بين المرشحين انتهت لصالح الأول بحيلة. واستقرت الأمور لهذا الإمام نتيجة لعدم وقوف جبهات زعامة قوية بوجهه، وأيضاً لعدم خروج أقارب عليه، كالمعهود في سائر الفترات. ومع ذلك، فطوال فترة حكم الإمام يحيى (1908- 1948م) وابنه أحمد (1948- 1962م) ظل الاثنان يختاران الرهائن من أبناء مشائخ قبائل صعدة بعناية، كغيرهم من مشائخ قبائل اليمن، وذلك ليضمنا استمرار أولئك المشائخ في الولاء للدولة الإمامية.
صعدة في مواجهة الجمهورية
بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962م، والإطاحة بالنظام الإمامي، لجأ إلى صعدة محمد بن الحسين بن الإمام يحيى (عم البدر)، وكان فيها مقر قيادة الإمام المخلوع، محمد البدر، وكان هذا المقر في أحد كهوف جبل قارة، وقد حظي البدر بتأييد قبائل صعدة في حربه ضد النظام الجمهوري الوليد. وقد عانت القوات المصرية التي قدمت لنصرة الثورة اليمنية فيها معاناة لم تعانيها في أي منطقة أخرى. وبعد انسحاب القوات المصرية عام 1967م، حاولت الإمامة انطلاقاً من صعدة حشد قبائلها الزيدية لاجتياح صنعاء، وسرعان ما أحاطت هذه القوات بصنعاء إحاطة السور بالمعصم، ولكنها فشلت في ذلك، بسبب صمود المقاومة الشعبية، وأسلحة الوحدات العسكرية الجديدة، كالصاعقة والمظلات والمدفعية والمشاة، والتي كان أغلب المنتسبين إليها من أبناء السنة. ولم تلتحق صعدة بالجمهورية رسمياً إلا بعد ثماني سنوات من قيامها، وبعد حروب طاحنة أكلت الأخضر واليابس، وكانت حرب الثماني سنوات تلك قد عزلت صعدة عن التطورات العامة في اليمن كلها، فقد ظلت صعدة، كما أراد لها الإمام البدر، بعيدة عن التعليم الحديث، وكان البدر في آخر رسالة لعمه الحسن، في أسبوع قيام الثورة عام ١٩٦٢م اقترح عزل صعدة وحجة والجوف، حتى لا يصلها تأثير العلم الحديث والأفكار القومية. وفي العام 1970م سقطت صعدة بيد قوات الملكية، التي كانت قد ضعفت، وقد فسر البعض هذه العملية بأنها كانت مدبرة ومقصودة لتبرير المصالحة مع الملكيين. والمهم أن صعدة كانت هي آخر مدينة تضع السلاح في مواجهة الثورة، بعد تلك المصالحة، التي ضمنت المشاركة في الحكم لفلول الإمامة (السادة)، والقبائل المتمردة عام 1970م. ومن هنا فقد ظلت الإمامة موجودة كفكرة لدى قطاع من اليمنيين في شمال الشمال، برغم الثورة، وبرغم تغير النظام السياسي.
الحكومة تتخلى عن سيادتها على صعدة لزعماء القبائل
برغم انضمام صعدة للجمهورية إلا أنها لم تندمج في إطار الحكم الجديد، وخلال الفترة من 1971 إلى 1990م، العام الذي توحد فيه الشطران، لم تحاول الدولة تعزيز سلطتها فيها. ذلك أن النظام، الذي استولى على الحكم في 1967م ترك السلطة داخل كل قبيلة لشيوخها، وترك لكل قبيلة حرية الاحتفاظ بأسلحتها، وكانت هذه القبائل، مع نهاية الحرب الأهلية قد أصبحت أكثر قوة وتسليحاً من أي وقت مضى، كما كانت سلطة بعض المشائخ قد اتسعت بسبب قيامهم بحشد المحاربين وتوزيع النقود في فترة تلك الحرب، وقد حاولت الدولة، وخصوصاً بعد مقتل الرئيس الحمدي (1973-1977م)، اتباع السياسة التي اتبعها الأئمة تجاه القبائل، وهي عدم التدخل في شئونها، ما دامت تدين بالطاعة، وتدفع ما عليها من التزامات، مع الفارق الكبير، وهو أنه في عهد الإمامة، لم تكن تقع خصومة بين قبيلتين، إلا وتدخلت حكومة الإمام بفض تلك الخصومة، وكان أي خلاف بين القبائل والإمام يحل لمصلحة الإمام، وليس لمصلحة القبيلة، إضافة إلى نظام الرهائن الذي كان حجر الزاوية في نظام الإمامة، ولم يكن الإمام يسمح لشيوخ القبائل بممارسة سلطة إدارية أبعد مما يعطيهم العرف القبلي. أما في العهد الجمهوري، فقد أُطلق الحبل على الغارب للقبائل، بحيث صارت فيه بعض قبائل الشمال، ومنها قبائل صعدة، دولة داخل الدولة. فلأن النظام الحاكم كان نظاماً جمهورياً قبلياً بلباس عسكري، وأيضاً لكون أغلب رموزه كانوا ينتمون للقبائل الزيدية، فقد تم توظيف هذه القبائل كقوة معادلة للجيش، وتجييشها إلى جانبه لإرهاب سكان المناطق الوسطى، الذين كان التململ يسود بينهم، نتيجة لما آلت إليه الجمهورية من سيطرة الأقلية الزيدية عليها، ومقابل ذلك أغدق ذلك النظام الأموال، على مشائخ تلك القبائل، من خلال مصلحة شئون القبائل، والتي حولت مشائخ القبائل إلى وكلاء للحكومة، وقوت وضعهم داخل قبائلهم، وعززت من دورهم كمحكمين، ووسطاء، تمر عبرهم كل المصالح والدرجات الوظيفية، وخاصة في عهد الرئيس علي عبد الله صالح. وكانت معظم ألوية الجيش مرابطة في مناطق الوسط والجنوب، بينما كانت الفوضى تحكم المدن ذات الغالبية الزيدية في الشمال، وبدت هذه المدن، وفي مقدمتها صعدة، وكأنها تتمتع باستقلال ذاتي، ولم يكن يجرؤ عسكري أو رجل أمن أن يدخل إلى منطقة بصعدة، إلا بعد موافقة شيخ القبيلة، كون هذا الشيخ يعتبر السلطة العليا في كافة المسائل التي تخص أبناء القبيلة. ناهيك عن إهمال الدولة لانتشار السلاح فيها بشكل فوضوي، بل ظلت صعدة حتى وقت قريب مركزاً لبيع مختلف أنواع الأسلحة، من البندقية إلى الرشاش، إلى المدفع، وتهريبها إلى مختلف أنحاء اليمن، وإلى دول الجوار.
صعدة في ظل دولة الوحدة
مع قيام الوحدة اليمنية في مايو 1990م، وإعلان التعددية السياسية، دشنت الأحزاب عملها بافتتاح المقرات في عموم محافظات الجمهورية، ومنها صعدة، ومن الأحزاب التي حظيت بنفوذ فيها المؤتمر الشعبي، بوصفه حزباً للرئيس صالح، والتجمع اليمني للإصلاح، وحزب الحق، ذو الخلفية الزيدية الجارودية، وقد فسر البعض تأسيس هذا الحزب، بأنه جهد الزيدية المنظم الوحيد لاستعادة النفوذ، الذي فقد بعد الثورة. وكان الشيخ بدر الدين الحوثي (الهاشمي)، وهو أحد مراجع الزيدية بصعدة، في رأس قيادة الحزب «الهيئة العليا»، ورأس نجله حسين الدائرة السياسية للحزب. في غضون ذلك باشرت صعدة إحياء الاحتفال بالمناسبات الشيعية، التي كانت قد توقفت بعد الثورة، وأهمها عيد الغدير، وصارت هذه المناسبة مناسبة للتجمهر في العراء، ولإلقاء الخطب التي تؤكد حق آل علي في الخلافة، وإطلاق النار في الهواء، برغم ما كان يصحب ذلك الاحتفال أحياناً من اعتقالات، وخاصة منذ العام 1995م. بيد أن المظهر الأهم من مظاهر التعددية، التي جاءت بها الوحدة، هو خروج منتدى «الشباب المؤمن» إلى النور، في صعدة، متمثلاً في سلسة من المراكز العلمية، التي تم تأسيسها في بداية التسعينات، برئاسة كل من محمد بدر الدين الحوثي، ومحمد يحيى عزان، مع بعض المساعدة من حزب الحق. كما نشط عزان في تحقيق المؤلفات الزيدية وطبعها، وأسس معهداً لتدريب المعلمين بصعدة، سماه «معهد الشهيد السماوي»، نسبة إلى محمد بن صالح السماوي، الذي عرف بابن حريوة، وكان خصماً لدوداً لشيخ الإسلام الشوكاني، في القرن التاسع عشر، وأعدم بأمر إمام الزيدية آنذاك، إلا أن محمد عزان انفصل عنهم بعد ذلك، لخلافات داخلية، وكانت مرجعية الشباب المؤمن الدينية للعلامة بدر الدين الحوثي، والد حسين. ومن خلال مشاركته في الانتخابات، تبين أن حزب الحق لا يتمتع بأي نفوذ سياسي في الواقع، فلم يفز في انتخابات 1993م إلا بمقعدين أحدهما فاز به حسين الحوثي، الذي سيصير الأب الروحي لتنظيم الشباب المؤمن. في حين لم يفز هذا الحزب بأي مقعد في انتخابات 1997م، الأمر الذي دفع الحوثي الأب، والحوثي الابن، للاستقالة منه، وذلك تعبيراً عن انشقاقهما عن الزيدية، من جهة، ولأجل التفرغ لقيادة «الشباب المؤمن» من جهة أخرى.
تنازل صالح عن صعدة للحوثي
تجدر الإشارة إلى أنه في حرب ١٩٩٤م، غادر بدر الدين الحوثي صعدة إلى إيران، إلا أنه عاد إليها في 1996م، بعد دعوة رئاسية، وكان ذلك تمهيداً للدور الذي سيلعبه تنظيم الشباب المؤمن، الذي شرع الرئيس بدعمه مادياً ومعنوياً، في إطار الخطة التي رسمها هو ومستشاروه لتحجيم نفوذ حزب الإصلاح، الذي فض الشراكة مع الحزب الحاكم، وانخرط في صفوف أحزاب المعارضة (اللقاء المشترك). والأخطر من ذلك، أن الرئيس صالح ترك أكثر نواحي صعدة إقطاعية لهم، وترك لهم حرية العمل التعليمي والفكري بين أهلها، وخاصة الأطفال، ووفر لهم الحماية، ولم يجعل لرقابة الجهات المختصة أي سبيل عليهم. وأكثر من ذلك، فقد كانت المخابرات اليمنية تعلم بلجوء الحوثي إلى تجنيد الشباب وتدريبهم وإقامة معسكرات ومتاريس وحفر خنادق، في جبال صعدة، والعمل على إنشاء «جيش سري» عقائدي، باسم «الشباب المؤمن» منذ العام 1997م فضلاً عن معرفتها بارتباطهم بنظام ولاية الفقيه في إيران وحصول بعضهم على دورات تربوية وعسكرية هناك أو في لبنان. إلا أن الود لم يستمر بين الطرفين، وجرت الرياح على عكس ما كان يشتهي الرئيس صالح، هذا الأخير، الذي فوجئ في 2002م بأن الشباب بدأوا يتخذون منحى جديداً، وهو استلهام شعارات الثورة الخمينية، وما يسمى حزب الله في لبنان، وخاصة شعار «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام»، بل ومحاولة إدارة الظهر للدولة، وتزايد نبرة العداء في صفوفهم للرئيس صالح، ونظامه، واتهامه بالفساد والعمالة للأمريكان، ثم تميزت بإقامة التظاهرات بعد صلاة كل جمعة في الجامع الكبير بصنعاء، ومساجد صعدة، وخصوصاً مع اقتراب الغزو الأمريكي للعراق أواخر 2002م. وكان ذلك حصاد التنشئة العقائدية المكثفة، لأولئك الشباب، التي قام بها الحوثي على مدى سنوات، من خلال الدروس الدينية في الفترة الصيفية، والتي كانت تقدم في إطار برنامج يومي مكون من ثلاث فترات: فترة صباحية، وفترة الظهيرة، وفترة المساء. ومن خلال الخطب والمحاضرات في الجمع والمناسبات، إلى جانب أنشطة أخرى متنوعة، كالرياضة، وتعليم الخطابة، والأناشيد، والمسرحيات. وقد تطورت الأمور بعد ذلك إلى أن انفجرت الفتنة في يونيو 2004م، والتي تطورت إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.