تركيا والفرصة السانحة

تشير معظم المؤشرات، على أن الخطوة التركية أو المفاجأة التي تنوي اتخاذها كما يسميها الصحفي قراغول، أنها تتعلق بتوسيع تركيا المنطقة الآمنة التي ترعاها في سوريا والتي يأوي اليها أهل السنة في سوريا فرارا من مذابح بشار لهم


"انتهى عصر الصبر ستتخذ تركيا خطوات تاريخية تركيا هي مفاجأة القرن الواحد والعشرين"

هذه تعليقات الصحفي التركي الشهير والمقرب من أردوغان إبراهيم قراغول في صفحته على تويتر، معلقا على القرار الذي ينوي أردوغان اتخاذه في الشريط الحدودي التركي مع كل من العراق وشمال سوريا بعد أن هددت أمريكا تركيا في الأيام الماضية.

وأضاف قراغول أن الولايات المتحدة وأوروبا تديران مشروع يعمل على توحيد المعارضة تحت سقف واحد وجمعها بالتنظيمات الإرهابية، مفيدا أن الهدف من هذا هو تحويل عام 2023 لحرب أهلية.

وتتعدد مظاهر تفجر العلاقة بين الولايات المتحدة زعيمة تحالف الناتو، وبين تركيا عضو الناتو وثاني أكبر قوة عسكرية فيه، فقد سربت الصحافة الأمريكية تصريحا سريا لمستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان في أثناء لقاء مع إحدى لجان الكونجرس، عن أن الولايات المتحدة تنتظر من يخلف اردوغان حتى تمرر صفقات الطائرات اف 16 واف 35، ولعل الإدارة الأمريكية هي التي سربت تلك التصريحات لممارسة مزيد من الضغوط على أردوغان، لإجباره على الخضوع لرغباتها.

ومما يؤكد صحة تلك المعلومة البيان الذي أصدرته السفارة الأمريكية بخصوص مسيرة أطلقت عليها المعارضة التركية صوت الأمة، والتي نظمها حزب الشعب الجمهوري ردا على الحكم بسجن أمينة حزب الشعب الجمهوري جنان كفتناجي أوغلو أمينة حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول، وأوضحت السفارة الأمريكية خلال هذا البيان أنه جرى استخدام الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه ومقذوفات غير قاتلة في تلك المسيرة في إسطنبول، وناشدت المواطنين الأمريكيين الابتعاد عن المسيرة، وقد استدعت الخارجية التركية السفير الأمريكي، وأبلغته أن بيان السفارة يحتوي على معلومات لا أساس لها، ولم تكتف الخارجية التركية بذلك، بل أنها أصدرت تحذيرًا مشابها لمواطنيها في الولايات المتحدة، حيث طالبتهم بالابتعاد عن التجمعات الكبيرة والمظاهرات وأرجعت تحذيرها إلى استخدام الغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية من جانب مسؤولي إنفاذ القانون الأمريكيين في حوادث سابقة.

ولكن هذه التجاذبات والتوترات في تلك العلاقات لم تمنع من أمر مهم، وهو أن تركيا ترى في الظروف الراهنة والحرب التي تجري الآن فرصة تحقق بها تركيا أهدافها، وهو حاجة الأطراف المتنازعة لتركيا في تلك الحرب.

ولكن لماذا ترى تركيا نفسها أنها الكارت الذي يحتاجه الجميع لضمان الانتصار في هذه الحرب؟

هناك عدة عوامل تجعل تركيا تمثل الحصان الفائز في ذلك السباق:

أولا الجغرافية السياسية التركية: فالموقع الجغرافي يتيح لها دورا مؤثرا، ليس فقط في الحرب بشكل مباشر من سواحل تركيا الطويلة على البحر الأسود، وتحكمها في مضيق البوسفور وهو الممر المائي والمنفذ الوحيد الذي يربط بين البحر الأسود والبحر الأبيض، ولكن أيضا بسبب تأثير تلك الجغرافيا على الأطراف المشاركة في الحرب، فحدودها تشترك مع جنوب القوقاز والبلقان ​​وسوريا والعراق، وتتداخل تلك المناطق مع روسيا وأوكرانيا بشكل مباشر ومع الولايات المتحدة بطريق غير مباشر.

ثانيا طموح النظام التركي وهي الحكومة التي يشكلها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان والذي يضع في غلاف رؤية الحزب لعام 2023 شعاري الشعب العظيم -القوة العظمى.

ثالثا القدرات السياسة التي يتمتع بها أردوغان وقدرته على المناورة الاستراتيجية، والتي يستغل فيها الفراغات الاستراتيجية الموجودة في مناطق العالم المختلفة ليتمدد فيها، فضلا على قدرته في تصفير المشاكل مع الجيران حيث يختار اللحظات التي يحددها، مع عدم التورع عن التدخل العسكري إذا تطلب الأمر.

وتتجلى قدرات أردوغان الاستراتيجية في تصريحاته المتتالية برفض انضمام فنلندا والسويد للناتو بحجة دعمهم للانفصاليين الأكراد، فاستغل حاجة الغرب لتوسيع الناتو وتهديد روسيا، وعمل على أن يكون رفضه لدخول الدولتين في الحلف، كورقة تركية للضغط على الغرب وتلبية طلباته بخصوص الأسلحة التي تمنعها أمريكا عنه، بل أكثر من ذلك في القبول بما سوف تنتويه تركيا أن تفعله في الأيام القادمة.

أما العامل الرابع في نجاح تركيا فهي قدراتها العسكرية المتنامية وتسخيرها لخدمة الأهداف الاستراتيجية التركية، وكمثال على أحد أهم الأسلحة التي أنتجتها تركيا هي طائراتها المسيرة المشهورة بالبيرقدار، فمنذ شهرين كشف تحقيق قامت به مجلة التايم الأمريكية الشهيرة عن أن طائرات بيرقدار التركية بدون طيار أثبتت قدرتها ليس فقط في أوكرانيا، ولكن أيضًا في إثيوبيا وأذربيجان وليبيا وسوريا، ولعل أبرز تلك الأدوار قدرة تلك الطائرات على حسم الصراع بين أذربيجان وأرمينيا في عام 2020، فقد كانت العامل الحاسم في انتصار أذربيجان على أرمينيا حليفة روسيا، وبذلك كما تقول المجلة فأنه يُنظر إلى الطائرات بدون طيار على نطاق واسع على أنها ذراع للسياسة الخارجية التركية. 

ولكن ما هي المفاجأة والتي تعتزم تركيا البدء فيها ولم تحدث حتى كتابة هذه السطور.

تشير معظم المؤشرات، على أن الخطوة التركية أو المفاجأة التي تنوي اتخاذها كما يسميها الصحفي قراغول، أنها تتعلق بتوسيع تركيا المنطقة الآمنة التي ترعاها في سوريا والتي يأوي اليها أهل السنة في سوريا فرارا من مذابح بشار لهم، وحملات التطهير العرقي التي يقوم بها بمساعدة والتحالف مع إيران وأذرعها في المنطقة.

فتركيا ترى أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو فرصة لتحقيق تقدم لها في سوريا.

والتقدم التركي في سوريا يهدف لتحقيق شيئين: الأول طرد المسلحين الأكراد والقضاء على التنظيمات الكردية المسلحة وتحطيم أي مشروع لدولة كردية تهدد بانفصال أكراد تركيا.

والأكراد قوم يسكنون المنطقة الجبلية الممتدة على حدود تركيا، والعراق، وسوريا، وإيران، وأرمينيا، ويتراوح عددهم ما بين 30 و40 مليونا. ويعدون رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، لكن لم تكن لهم أبدا دولة مستقلة طوال التاريخ.

وقد حاول الغرب بعد سقوط الدولة العثمانية افتعال المسألة الكردية دائما، واتخاذها ورقة من بين أوراق عديدة للضغط وتحجيم الدولة التركية الناشئة واشغالها بمشاكلها الداخلية، حتى لا ترجع وتفكر في أحلامها العثمانية مرة أخرى، لذلك شجع قيام حركات التمرد الكردية والتي بلغت ذروتها في عام 1978، عندما أسس عبد الله أوجلان حزب العمال الكردستاني، الذي نادى بتأسيس دولة مستقلة في تركيا. ثم بدأ الحزب الصراع المسلح بعد ست سنوات من تأسيسه. ومنذ ذلك الحين، قتل أكثر من 40 ألف شخص من الأتراك والكرد.

ونجح الجيش التركي في نقل الصراع مع الأكراد خارج الحدود التركية، فانتقلت المنظمات الكردية الى مناطق الاكراد في العراق وسوريا، ودعمتها بعض الأنظمة التي تخشى النموذج التركي، ونجحت آلة الدعاية الأمريكية والغربية في تصوير الأكراد وكأنهم يذبحون ويتعرضون للإبادة الجماعية فيها وان تركيا تمنع حمايتهم عسكريا.

أما الهدف الثاني التي تحاول تحقيقه تركيا بعملياتها المرتقبة في سوريا، فهو توسيع المنطقة الآمنة لتشمل أدلب وربما حلب لإعادة توطين المهجرين السوريين في تركيا في هذه المناطق.

ووفق ما أعلنه وزير الداخلية التركي سليمان صويلو منذ شهرين، فإن حوالي 3.7 مليون سوري يعيشون في تركيا تحت الحماية الدولية وأن أكثر من 700 ألف طفل سوري ولدوا في البلاد، وفق ما نقلته صحيفة حرييت المحلية.

وقال صويلو إن حوالي 37 ألف مهاجر سوري متورطون في جرائم في عام 2020، والرقم المقابل كان 50.231 العام الماضي.

واندلع شجار عنيف في أغسطس 2021 في المنطقة بين السكان المحليين واللاجئين السوريين، حيث قُتل رجل تركي يبلغ من العمر 18 عامًا حتى الموت واعتقل العشرات.

وبحسب صويلو، فإن حوالي 8 ملايين مهاجر محتمل مستعدون دخول تركيا، بما في ذلك 5 ملايين أفغاني في إيران، مليونان منهم على الحدود التركية، وأشخاص في أجزاء مختلفة من سوريا، ولفت وزير الداخلية التركي إلى أنه في السنوات الخمس الماضية، منعت تركيا 2.5 مليون شخص من دخول البلاد من حدودها الجنوبية والشرقية وأعادت 306 ألف شخص، معظمهم من الأفغان والسوريين والباكستانيين والصوماليين والبنغلاديشيين.

ويشعر أردوغان بأن ملف اللاجئين تستخدمه المعارضة لتأليب الناس عليه، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات العام القادم، لذلك يرغب بانتزاع تلك الورقة التي تؤجج مشاعر الغضب عند الأتراك، ببدء عملية في سوريا وتوسيع المناطق الآمنة التي قد تشمل حلب أكبر المحافظات السورية لإعادة توطين ملايين السوريين بها.

 

 

أعلى