مجالات اعتبار المآل في السنة النبوية (العبادات نموذجا)

مجالات اعتبار المآل في السنة النبوية (العبادات نموذجا)


إن المتتبع لنصوص الوحي قرآنا وسنة يدرك تماما أن فقه المآلات يعتبر تجسيدا لواقعية الشريعة في علاقتها بأحوال المكلفين وهو معيار الحكم على العصر والواقع وبه توزن المستجدات ونتائج الأفعال والتصرفات على ضوء المصالح والمفاسد.
فضلا أن اعتبار المآل هو الإطار الموضوعي الضامن لسلامة عمل المجتهد في فهم أحكام الشرع وتكييفها ومن ثم تنزيلها على واقع المكلفين، والتثبت من تحقق مقاصد الشريعة وتحقيق مناطات الأحكام.

ولا غرو أن نجد أكابر علماء المسلمين كانوا على وعي تام بهذا المنهج، إسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويكفينا في هذا المقام، قول الشاطبي رحمه الله:" إن زلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع"

وإذا كان فقه المآل بهذه المنزلة فهو آكد للمفتي والنوازلي سواء في العبادات أو المعاملات المالية القديمة والمعاصرة، لأن إطلاق الأحكام الشرعية والحديث في الشرع دون مراعاة لمآلاته إنما هو نوعٌ من العبث.

والناطر في كتب السنة النبوية الشريفة، يجد نصوصا كثيرة يستفاد منها ماله علاقة بموضوعنا في مجالات كثيرة وبخاصة في المجال التعبدي ومن أمثلته:

أ: منع إطالة الصلاة في الجماعة.

عن أبي مسعود قال: قال رجل يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطول بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال " يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فمن أمَّ الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذو الحاجة".[1]

وفي رواية عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: أقبل رجل بناصحين وقد جنح الليل، فوافق معاذ يصلي. فبرك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ سورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل فبلغه أن معاذا خال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا معاذ، أفتان أنت؟ أو أفاتن أنت؟ ثلاث مرات، "فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها، والليل إذا يغشاها فإنه سيصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة".[2]

 فقه الحديث

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: تجوز شكوى من يطيل الصلاة إطالة زائدة عن الحد المشروع، ذلك أن الإمام لولا أنه لم يزد على صلاة النبي زيادة كثيرة لما شكي ولا تخلف من تخلف عن الصلاة خلفه".[3]

ويقول في الحديث الثاني: "والأظهر أن المراد بالفتنة هاهنا: الشغل عن الصلاة، فإن من طول على من شق عليه التطويل في صلاته فإنه يشغله عن الخشوع في صلاته ويلهيه عنها".[4]

وجه الاستدلال بالدليل على مراعاة المآل:

لقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ما قد يؤول إليه الأمر جراء إطالة الصلاة في الجماعة من مشقة قد ترهق المصلي على اعتبار سنه أو قدرته الجسدية أو غير ذلك من أمور مما قد يؤدي به إلى الانقطاع أو التماطل أو ما شابه ذلك أن المشقة هنا غير معتادة وقد تكلفه جهدا لا يستطيع إليه سبيلا، فالإطالة إذن تنفر المسلم المصلي من الصلاة.

من أجل هذا، سن النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف في صلاة الجماعة لأنه أدعى إلى القبول ومحبة العبادة، سيما عند حديثي العهد بالإسلام، فضلا أنه يحترز به من الوسواس إذ كلما طالت الصلاة كلما استولى الوسواس على صاحبها.

ب: ترك تجديد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم.

الدليل:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا حين بنت البيت، استقصرت وجعلته لها خلفا".[5]

فقه الدليل:

راعى النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤول إليه هدم الكعبة، وسبب ذلك أن القوم حديثو عهد بالإسلام.

يقول القاضي عياض «وفي قول النبي عليه السلام هذا ترك بعض الأمور التي يستصوب عملها إذا خيف تولد ما هو أضر من تركه واستلاف الناس على الإيمان وتمييز خير الشرين وإن سهل على الناس أمرهم ولا ينفروا و    من الأمور على ما ليس فيه تعطيل ركن من أركان شرعهم. وقد اقتدى بهذا مالك رحمه الله في هذه المسألة.[6]

وجه الاستدلال بالدليل على مراعاة المآل

تعتبر الكعبة المشرفة قبلة المسلمين وأقدس أماكنهم وأطهر مساجدهم فهي أول بيت وضع في الأرض يقول الله تبارك وتعالى: {إن أول بيت وضع للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين}[7]

إن تاريخ الكعبة تاريخ طويل من عهد آدم إلى عهد إبراهيم عليهما السلام الذي أمره الله تعالى ببناء هذه الكعبة بمعية ابنه إسماعيل وصولا إلى عهد قريش التي عزمت هي الأخرى على إعادة بنائها لما أصابها من تلف إلا أن هذه المرة كانت بمشاركة النبي صلى الله عليه وسلم.

لقد بنت قريش الكعبة المشرفة بأموالها الحلال فلم تدخل في بناءها لا أموال ربا ولا أموال بغاء... وهذا هو السبب الذي أدى بهم إلى قصر النفقة فقرروا وضع حدود تبين حد الكعبة وهو ما يسمى بحجر إسماعيل.

بعد الفتح ود النبي صلى الله عليه وسلم نقضها وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم، لكنه راعى ما قد تؤول إليه الأمور من فتنة المسلمين الجد من ردة وغيرها.

من هذه الحادثة نستنج المنهاج النبوي الذي يحاول فيه صلى الله عليه وسلم جاهدا المحافظة على المسلمين وعلى أمنهم الروحي المتمثل هنا في أحد مقدساتهم والتي هي "الكعبة".

 

 


[1] صحيح البخاري، كتاب الآذان، باب من شكا إماما إذا طال

[2] نفسه

 [3] فتح الباري في شرح صحيح البخاري/6/229

[4] نفسه

[5]   صحيح مسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها ص199

[6] إكمال المعلم بفوائد مسلم 4/428

[7] سورة آل عمران الآية 96

 

أعلى