• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عمران خان ومواجهة الأزمة البنيوية في باكستان

وجدت باكستان نفسها وحيدة في مواجهة الدولة القارة التي خرجت واستقلت عنها. ووجدت إلى جوارها دولة أخرى -الصين-، وهي الأضخم سكانًا في العالم، وقد كانت ضمن المعسكر الاشتراكي في ذلك الوقت


لم يكن وصول عمران خان للحكم، وإقصاؤه عنه بعد ذلك، حدثًا عاديًّا من أحداث اللعبة السياسية التي طالما جرت في باكستان منذ استقلالها، ووصلت في حالتين حدّ اغتيال رئيس الوزراء.

وسواء انزوى عمران خان في المرحلة الحالية، وانتهى دوره، أو عاد للحكم -وكثير من رؤساء الوزراء خرجوا من الحكم، ثم عادوا مجددًا؛ فنادرًا ما أكمل أحدهم مدته الدستورية-؛ فإن أهم ما نجح فيه خان، أنه طرح أمام المجتمع والرأي العام، ووضع اليد على الأزمة البنيوية للحكم في باكستان، وكشف عُمق تلك الأزمة الاستراتيجية التي لازمت الدولة الباكستانية منذ استقلالها عن الهند في عام 1947م، كما أنه طرَق بداية التغيير في الدولة ليتناغم مع التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وتحديدًا وبصورة دقيقة؛ لقد أدخل عمران خان الجمهور العام طرفًا فاعلًا في عملية تغيير الوضع الراكد والرتيب الذي وصل حدّ الخطر خلال حالات تداول السلطة.

لقد صنع عمران خان معادلات جديدة؛ من خلال إدخال قوة جديدة تُزاحم المراكز التقليدية للسيطرة على القرار، وهو تطوُّر سينتهي في الأغلب إلى كسر القواعد التي حكمت الحركة السياسية وإدارة الحكم في هذا البلد منذ استقلاله وحتى الآن.

لقد شق طريقًا وأدخل البلاد في مرحلة جديدة من التطور السياسي. وفي ذلك، يجب فَهْم ما قام به عمران خان من مظاهرات حاشدة عبر المدن؛ باعتبارها حركة تغيير -لا مجرد إحدى حالات الصراع الحزبي التنافسي-، ولكونها تُؤسِّس لتغيير يتوافق مع فكر قطاع من النُّخبة الجديدة في قضية إدارة الدولة، وأنها بداية تحوّل وانتقال إلى وضعيةٍ يلعب فيها المجتمع دوره، ويأخذ بيده زمام المبادرة في قيادة البلاد.

كما يجب النظر لها كمرحلة ثانية طبيعية، بديلة للمرحلة الأولى التي كان طبيعيًّا فيها أن تسيطر القوات المسلحة وممثلو الأسر ومراكز النفوذ الاجتماعي التقليدية، على قرارات إدارة الدولة مع إشراك شكلي للمواطنين الباكستانيين، عبر انتخابات تقوم على العصبيات الجهوية أو التعصب الولائي للأسر والأفراد.

ويمكن القول بأن ما يجري هو سياق طبيعي؛ إذ الرجل قادم إلى حكم البلاد من خارج النُّخَب التي شاركت في عمليات تدوير المقاعد بينها عبر تاريخ باكستان، وهو قادم من خارج المكونات الاجتماعية والجهوية التي لعبت دورًا تاريخيًّا في إدارة البلاد. وهو شخصية شعبوية ظهرت وفق معطيات غير تقليدية في العمل السياسي الباكستاني؛ إذ اعتمدت على تشكيل سمعتها الجماهيرية في الإطار الوطني العام لا من خلال الاعتماد على قطاع جهوي. وهو شخصية صراعية أثبتت قدرتها على البحث عن التغيير في مواجهة المعادلات التقليدية القديمة التي لم تعد تتناسب مع التغييرات الحادثة في الاقتصاد والمجتمع والثقافة.

لقد كان طبيعيًّا -بل ضروريًّا- أن يكون للجيش وأصحاب النفوذ الاجتماعي والجهوي الدور الحاسم في إدارة البلاد بعد الاستقلال؛ بسبب ظروف نشأة باكستان، والتحديات التي تعرضت لها؛ إذ هي دولة تشكَّلت عبر الانفصال عن دولة أخرى، وحملت كثيرًا من ملامح الحالة التي كانت قائمة قبل التأسيس.

لكنَّ تغييرات اقتصادية واجتماعية وثقافية حدثت في باكستان مثل غيرها من دُوَل العالم، وباتت تتطلب تغييرًا في نمط إدارة الحكم.

لقد عاشت باكستان فور استقلالها وضعية الدولة المُهدَّدة دومًا.

كانت دولة يُخيِّم عليها تهديد الخطر الوجودي المُقدَّم على كل شيء آخر، وهو ما جعل كل قرار في السياسة الخارجية والداخلية بمثابة خطر يجب وزنه بميزان المخاطر لا المصالح فقط، وهو ما جعل القوة الأساسية الجاهزة للتصدي للمخاطر هي القوة العسكرية التي لعبت الدور الأكبر في الاستقلال الذي تحقَّق عبر معركة عسكرية.

وتلك الأجواء أو التحديات كان لها انعكاساتها على قادة البلاد؛ وهو ما طبع فكر قادتها في جهاز الدولة أو قلب الدولة بأنهم هم وحدهم القادرون على دَرْء الخطر الوجودي، وهو نفسه ما جعلهم يشعرون بواجب الحراسة الدائمة للحركة السياسية والمجتمعية؛ حتى لا تتفكك البلاد وتضعف أمام العدو، وربما هو ما دفعهم إلى عدم الثقة في الساسة المدنيين، بل حتى إلى اعتبارهم مجرد ديكور خارجي أو مظهر مجتمعي لا أكثر ولا أقل.

بل كان طبيعيًّا أن لا يُجري هؤلاء القادة أي تغيير اقتصادي واجتماعي كبير، وأن يعتمدوا ما هو قائم -سواء كانوا راضين عنه أو لا-؛ إذ لم تسمح الظروف الضاغطة بإجراء أي تغيير.

وضعية الدولة المُهدَّدة

لقد وُلِدَتْ دولة باكستان ولادة قيصرية، وخاضت حروبًا متتالية مع الهند التي كانت دولة في داخلها، فما أن استقلت بحرب في عام 1947م، حتى دخلت حربًا ثانية في عام 1965م مع الهند أيضًا. ولم تمر سوى بضع سنوات حتى تعرَّضت باكستان لحرب جديدة فُرِضَتْ عليها في عام 1971م، ونتج عنها تقسيم البلاد، وظهور دولة بنجلاديش من داخل دولة باكستان. وهو ما زاد الشعور بالخطر الوجودي، وأضعف الاهتمام بالتغيير الاجتماعي أو بالحركة السياسية. وهو تهديد أصبح نوويًّا فيما بعد.

وقد وُلِدَت باكستان على أساس أنها دولة المسلمين الذين تحركوا للاستقلال تحت وقع المجازر، لكنها وجدت نفسها وحيدة ومعزولة عن العالم الإسلامي جغرافيًّا واستراتيجيًّا؛ إذ كانت كثير من الدول الإسلامية في صفّ الهند بسبب انضمامهم معها في تكتل حركة عدم الانحياز.

وجدت باكستان نفسها وحيدة في مواجهة الدولة القارة التي خرجت واستقلت عنها. ووجدت إلى جوارها دولة أخرى -الصين-، وهي الأضخم سكانًا في العالم، وقد كانت ضمن المعسكر الاشتراكي في ذلك الوقت.

ولم تجد باكستان ما يجاروها مباشرةً سوى أفغانستان التي اعتبرتها باكستان عُمقها الاستراتيجي في مواجهة الدولة القارة التي تُعاديها، لكن أفغانستان تحوَّلت بسبب الصراعات والحروب وأعمال الاحتلال إلى نقطة إضعاف استراتيجية وجبهة صراع مفتوحة وضاغطة على باكستان.

وهكذا -ولظروف عديدة أخرى- حظيت فكرة الانخراط في تحيزات الوضع الدولي بزخم كبير، بل باتت، حالة مفروضة على باكستان التي ظلت تتحرك دومًا في الجانب الذي لا تقف فيه الهند التي هي سبب التهديد الوجودي لها. ووفقًا لهذا الوضع الاستراتيجي فقد اعتمدت باكستان سياسة خارجية تجعل معطى التحدي الوجودي أساسًا في إدارتها، وكان وصولها للحصول على السلاح النووي قضية حياة أو موت.

وإذ تشكَّل نَمَط من الحكم التنافسي وفق آليات الصراع الحزبي في دولة مُهدَّدة وجوديًّا، ولم يتشكل لها اقتصاد مستقل، ولا مجتمع مستقر في البداية؛ فقد ظلت الدولة العميقة حاكمة لكل الحركة الاستراتيجية في البلاد، وزاد من أهمية ذلك -أو كان نتيجة له- عدم تشكُّل دولة حديثة  القوانين ونُظُم الإدارة بما يجعلها قادرة بمؤسساتها على ضبط تصرُّفات الساسة والمواطنين والمؤسسات.

وهو ما صنع مفارقةً بنيوية أخرى؛ إذ هذا البلد الذي وصل حد إنتاج الأسلحة النووية والصواريخ الحاملة لها، يعاني اقتصادها وحياتها المدنية حالة خطرة من الأزمات الاقتصادية والمجتمعية وأوضاع الفقر.

لقد عاشت باكستان أزمة بنيوية؛ فهي ديمقراطية في الشكل وفي الجوهر لم تتشكل فيها قواعد وأُسُس للديمقراطية؛ إذ ظلت الجهوية والمناطقية هي المسيطرة. ولقد حظي الجيش بدَوْر محوريّ وبثقة المجتمع بعد دخوله كل تلك الحروب، ولذلك كان طبيعيًّا أن يتأخر تشكيل نُخَب مدنية قادرة على إدارة الحكم.

لكنَّ حالة التهديد الوجودي قد زالت بعد امتلاك السلاح النووي، كما تغيَّر المجتمع، وكذلك تغير الوضع الدولي.

وأصبح عمران خان هو عنوان كل هذا التغيير الآن.

 

عمران خان وأزمة الوصاية الخارجية:

وُلِدَتْ باكستان عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وعاشت مطلع استقلالها، وخاضت الحروب التي فُرضت عليها -خلال الحرب الباردة-؛ فكان لازمًا أن تكون في عمق تلك الحرب الدولية سواء كانت راغبة أو مُكرَهة، والأغلب أنها كانت مُكرَهة. وقد فرض عليها أن تكون إلى جانب الغرب.

فإذ تحرَّكت الهند باتجاه الاتحاد السوفييتي بحكم مصالحها؛ فقد تحركت باكستان نحو الغرب وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، وكلتا البلدين لم يكتفيا بالتعامل مع باكستان كدولة مستقلة، بل كدولة تابعة، وصاروا يحاولون التَّحكُّم في الكثير من قراراتها الخارجية والداخلية -وإن عبر آليات مغطاة-، وهو ما جعل مطلب إنهاء تلك الوصاية شعارًا مؤثرًا في حركة الشارع الباكستاني.

وقد زاد من ضرورة التَّوجُّه نحو الغرب قيام الاتحاد السوفييتي بغزو واحتلال أفغانستان -عمق باكستان الاستراتيجي-، وقد أدَّى ذلك الغزو بدوره إلى حالة ونمط خطير من الدور الغربي في الداخل الباكستاني، التي أصبحت معبرًا وحيدًا لوصول الإمدادات للمجاهدين الأفغان لمقاتلة السوفييت.

لكنَّ الأوضاع الاستراتيجية تغيَّرت بعد انتهاء الحرب الباردة؛ فلقد تغيرت العلاقات بين الهند والولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، وصارت الهند قادرة -في ظل سيولة العلاقات الدولية- على التعاون مع الولايات المتحدة. وهي حالة تطورت إلى حدّ الخطر على باكستان بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان؛ إذ سعت الولايات المتحدة لمنح الهند موضع قدم في أفغانستان.

وظهرت الصين قوة كبرى، ولذا تحركت باكستان باتجاهها كدولة جوار وباعتبارها دولة منافسة للهند، وهو تطوُّر تصاعَد مع تغيُّر نمط العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، بما زاد من الضغوط الأمريكية على باكستان.

ولقد كان للحرب الأمريكية البريطانية الأطلسية على أفغانستان، دوره الحاسم في خلخلة العلاقات مع الغرب وتوجُّه باكستان للصين.

وهو اتجاه تزايَد بعد توتر الوضع الدولي بسبب حرب أوكرانيا، وتعمَّق أكثر بسبب الترتيبات الاستراتيجية الأمريكية البريطانية في آسيا ضد الصين، وبات مطلوبًا أن تُحدِّد باكستان انحيازاتها على نحوٍ كلي لا جزئي.

وهنا تحرَّك عمران خان سريعًا، وبأسرع مما تحمله التوازنات الداخلية، بين الذين عملوا مع الولايات المتحدة والذين يرون المصلحة الاستراتيجية لباكستان؛ في بناء شبكة مصالح جديدة مع الصين وروسيا.

لقد تبنَّى خان رؤية جديدة لتوجهات باكستان الخارجية. لم يكن خافيًا تبنّيه سياسة مناهضة للولايات المتحدة منذ بداية تولّيه للحكم، وهو الذي حرَّك فعاليات تعميق العلاقات مع الصين خلال تولّيه موقع رئاسة الوزراء، وشهد حُكمه تدفُّق الاستثمارات الصينية إلى باكستان عبر الممر الاقتصادي. ووصل حد إجراء مباحثات مع بوتين عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، وانتهى الأمر بالرجل للحديث عن مؤامرة أمريكية للإطاحة به.

وواقع الحال أن بُعْد السياسة الخارجية كان عنوانًا رئيسًا في الحركة السياسية الداخلية في باكستان. وليس بعيدًا عن ذلك أن أصبحت بريطانيا محطة يلجأ إليها كل الساسة الباكستانيين عقب الإطاحة بهم من الحكم. وإنّ بُعْد السياسة الخارجية، قد جعل باكستان خلال الحرب السوفييتية على أفغانستان وخلال الحرب الأمريكية عليها، في وضع حرج. وإن السياسة الخارجية كانت وراء مقتل الرئيس الباكستاني السابق ضياء الحق. وإن حدَّة المواقف بشأن السياسة الخارجية، وبشكل خاص الموقف تجاه الولايات المتحدة؛ قد تصاعدت على نحو خطير في داخل المجتمع الباكستاني، بعد أن كشف الرئيس الباكستاني الراحل برويز مشرف عن تهديد الرئيس الأمريكي جورج بوش لبلاده بالقصف إذا لم تتعاون بلاده في الحرب التي أعلنتها واشنطن تحت مسمى الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001م.

ثُنائية المدنيين والعسكريين في باكستان

ليس في الأمر تجاوز كبير إذا وجدنا أَوْجُه مقارنة بين تجربة أردوغان وتجربة عمران خان. مفهوم ومُؤكَّد وجود فارق جوهري بين الحالتين التركية والباكستانية، غير أن عنوان سيطرة الدولة العميقة على إدارة الدولة، وتحديدها النمط العام للفكر الاستراتيجي، وتدخُّلها المباشر وبالقوة العسكرية لإسقاط الحكومات المدنية، هو وَجْه شَبَه مُهِمّ بينهما، وهو لا يقتصر على تركيا وباكستان، بل شكَّل نمطًا عامًّا في إدارة الدول المركزية في العالم الثالث.

لكنَّ النموذج الباكستاني فاقَ كل التجارب الأخرى بحكم حالة التهديد الوجودي التي تجعل القوات المسلحة في موقع الصدارة بشكل حاسم.

فمنذ الاستقلال عاشت باكستان فترات طويلة تحت الحكم العسكري المباشر. ويمكن القول بأن الجيش هو الذي أدار البلاد بشكل مباشر عبر انقلابات عسكرية مباشرة، أو عن طريق غير مباشر من خلال مدنيين كانوا على درجة واضحة من الارتباط بالجيش، ومن خرج منهم على الخطوط الحمراء التي وضعها الجيش؛ تمَّت الإطاحة به.

لقد عاشت باكستان تحت الحكم العسكري بين عامي 1958 و1971م، لتعود للحكم المدني حتى عام 1977م؛ إذ عاد الحكم العسكري، وتواصل حتى عام 1988م. ولم يمضِ على ذلك الحكم سوى نحو 11 عامًا حتى عاد الحكم العسكري في عام 1999م، واستمر حتى عام 2008م، كما شهدت باكستان عمليتي اغتيال لرئيسين للوزراء.

وواقع الحال أن عمران خان، لم يكن في بداية حكمه خارجًا على قاعدة رضا عسكر باكستان عنه. لكنه تحوَّل إلى ظاهرة شعبية، وبدأ يطرح تغييرات كبرى في نمط إدارة الحكم وفي السياسة الخارجية؛ فتعرَّض إلى ما تعرَّض له.

لكنَّ القصة الأصلية لم تنتهِ بَعدُ؛ قصة التغيير ستسير في طريقها، سواءٌ عبر عمران خان أو غيره.

 


أعلى