• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
السودان ومخاطر الصراع

وكذلك فإن الصراع في السودان له امتدادات خارجية داخل العمق الإفريقي؛ أبرزها العمق القَبليّ لزعيم التمرد «حميدتي» الذي ينحدر من قبيلة الرزيقات في دارفور


بدأت السودان في الانحدار باتجاه مسار الفوضى والمواجهة العسكرية منذ اليوم الأول الذي بدأت فيه عملية تقويض سلطة الدولة لصالح مسار الاحتجاجات التي دعّمها الغرب؛ بغيةَ إسقاط النظام السياسي بزعامة الرئيس السابق؛ عمر البشير، واستبداله بقطاع عريض من الأحزاب السياسية التي دعّمتها القوى الغربية تحت ذريعة تمكين «الحكم المدني».

 ورغم أن هذه الكنتونات السياسية التي تُمثِّل مصالحها وأطماعها السلطوية، وتحاول دائمًا الاستناد إلى الهوية السياسية الغربية لتحقيق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وإجبار النظام السياسي على تقديم تنازلات تنسجم مع أطروحات المجتمع الدولي؛ تستهدف هوية السودان الإسلامية وارتباطها الثقافي والسياسي بمحيطها العربي والإسلامي، بالإضافة إلى تسهيل الاستجابة لأطماع المؤثرين الإقليميين والقوى الدولية.

تستند دولة السودان في استقرارها الاقتصادي على مجموعة من المكتسبات؛ أهمها: صادرات الذهب التي حقَّقت إيرادات بواقع 2.85 مليار دولار أمريكي خلال العام 2021م، والفول السوداني بواقع 488 مليون دولار، والنفط الخام بواقع 385 مليون دولار، والثروة الحيوانية بواقع 239 مليون دولار، وتستهدف هذه الصادرات بالمقام الأول الإمارات والصين والسعودية والهند وإيطاليا، وهي حاجة مُلِحَّة تساهم في تأمين احتياجات 46 مليون نسمة يعيشون في هذا البلد المطل على البحر الأحمر بحدود ساحلية 853 كيلو متر مربع، تُعدّ من أهم محاور الأمن القومي العربي، وأبرز ممرات التجارة الدولية التي تتخطَّى قيمتها 700 مليار دولار.

هذه الأهمية الحيوية للحدود الساحلية للسودان جعلته محور اهتمام ومطمعًا لعددٍ من القُوى الدولية، خصوصًا فيما يتعلق بأهم موانئه البحرية، وهو ميناء بورتسودان الذي يُعدّ نقطة سفر مهمة لآلاف المسلمين من إفريقيا للوصول إلى ميناء جدة الإسلامي في المملكة العربية السعودية الذي يبعد عنه 169 ميلًا، وكذلك لأن 90% من التجارة الخارجية للسودان تَعْبُر هذا الميناء، وكذلك فهو بوابة بحرية مهمة للكثير من الدول غير الساحلية في العمق الإفريقي؛ لذلك تسعى روسيا إلى بناء قاعدة عسكرية في بورتسودان من أجل مَنْح سُفنها الحربية قدرةً على الوصول إلى واحدة من أكثر الممرات البحرية العالمية ازدحامًا وهو قناة السويس، بالإضافة إلى توفير مسار آمن لتغذية عملياتها العسكرية في العمق الإفريقي.

لذلك وبقدر ما يتم تصوير الصراع الحالي في السودان على أنه مجرد صراع على السلطة بين قائد مليشيات الدعم السريع محمد حمدان دقلو وقائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان؛ فإن طبيعة التأثير الدولي لا تزال محدودة، فلم يلجأ أيّ طرف دولي إلى فرض عقوبات على مليشيات الدعم السريع بوصفها منظمة متمردة عقب صدور بيان من الجيش السوداني باعتبارها مليشيات متمردة، ولا يزال يحمل الخطاب السياسي الدولي والإقليمي الكثير من الضبابية؛ لكونه يعترف بمليشيات الدعم السريع كطرف في الصراع السياسي، ويتجاهل الكثير من الجرائم التي نفَّذتها، مع ميراثها الكبير في دارفور.

تُحاط السودان بحدود جغرافية تشكلها سبع دول؛ هي: تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان ومصر وإريتريا وإثيوبيا وليبيا، ولديها امتدادها السياسي المرتبط بقضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والقرن الإفريقي؛ لذلك يُشار إليها كأحد حلقات الصراع الفاعلة، سواء فيما يتعلق بملف سد النهضة، أو الأزمة الليبية، أو النزاعات في الغرب الإفريقي، لذلك يحرص الجهد الدولي على أن تكون السودان محطة من محطات الفوضى في المنطقة، مع الإسهام في تسليح طرفي الصراع لاستثمار الأزمة في إجراء تغييرات غير مسبوقة في التوازن الإقليمي.

قلق الجيران

مصر قد تكون أبرز المستفيدين من إسقاط النظام السياسي السابق في السودان الذي يُشار إليه على أنه أبرز حواضن الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، لذلك تبنَّت دعم المرحلة الانتقالية بزعامة البرهان، وأظهرت تحالفًا موثوقًا مع الجيش السوداني خلال هذه الفترة؛ لحثّه على التمسك بالسلطة، وعزَّزت دعمها بمناورات مشتركة مع الجيش؛ فالقاهرة بقَدْر ما تريد التخلص من إرث الإسلام السياسي في السودان؛ إلا أنها بحاجة إلى صناعة نفوذ وتأثير كبير في السودان لعدة مسارات؛ أهمها: الاستمرار في توثيق تحالفها مع السودان في مواجهة سد النهضة الإثيوبي، بالإضافة إلى استمرار إخماد المطالبات السودانية المستمرة بشأن حلايب وشلاتين، وإبعاد أيّ تأثير عسكري خارجي قد يساهم في تأجيج التوتر في البحر الأحمر، وبالتالي انعكاس ذلك على حركة الملاحة في قناة السويس.. ما سبق يؤكد أن مصر ستستفيد من الصراع الحالي أكثر مما تخسر على المدى البعيد؛ فالصراع الذي شغل ساسة السودان عن عدوهم وأغرقهم في نهر من الدم؛ قد يزيد من حصة مصر المائية من نهر النيل خلال فترة الصراع.

وكذلك فإن الصراع في السودان له امتدادات خارجية داخل العمق الإفريقي؛ أبرزها العمق القَبليّ لزعيم التمرد «حميدتي» الذي ينحدر من قبيلة الرزيقات في دارفور، وبفَضْل عُمْقه القَبَليّ نجَح في صُنْع شراكات في ليبيا مع الزعيم العسكري الليبي خليفة حفتر الذي بدَوْره كان عرّابًا لمشروع الوجود الروسي في إفريقيا الوسطى وتشاد، بالإضافة إلى ملف مناجم الذهب الذي يُتَّهم «حميدتي» بالهيمنة عليه.

الإمارات العربية المتحدة أحد اللاعبين الكبار في الملف السوداني؛ حيث تحاول تغذية طموحاتها في السيطرة على الطرق البحرية في خليج عدن والبحر الأحمر، وبوابتها إلى ذلك الاستيلاء على ميناء بورتسودان، ففي 20 يونيو 2022م أعلنت الإمارات عن ضَخّ استثمارات بقيمة 4 مليارات دولار لبناء ميناء جديد في بورتسودان يتبع لمجموعة موانئ أبو ظبي سيكون قادرًا على منافسة ميناء بورتسودان الرئيسي. وكذلك فإن الإمارات التي تحاول بناء أسطول بحري ضخم تسعى لاستثمار ذلك الصراع في إيجاد نقاط تأثير عسكرية في إريتريا وأرض الصومال والصومال والساحل الجنوبي لليمن، وكذلك فهي تعتبر أكبر مستورد للذهب السوداني.

وتشير بعض التقارير الدولية إلى أن روسيا -بالإضافة إلى محاولتها الوصول إلى موارد الذهب واليورانيوم والنفط والمرافق البحرية في السودان-؛ تسعى منذ وقت طويل لإنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان لاستضافة 300 جندي روسي تَمنحها القدرة على الوصول إلى قناة السويس، والهدف من ذلك -كما ذُكِرَ سابقًا- أن تكون هذه القاعدة البحرية محطة إمداد جغرافي لروسيا، إضافةً إلى قواعد مجموعة فاغنر التي تُدير العمليات الروسية في القرن الإفريقي؛ والتي تدعم روسيا -من خلالها- حلفاءها في المنطقة، وأبرزهم خليفة حفتر، وزعيم التمرد «حميدتي».

من جهة أخرى تعد الولايات المتحدة من أبرز أدوات الضغط في العملية السياسية في السودان منذ سقوط النظام السياسي السابق؛ فقد استغلت عملية إدراج السودان ضمن الدول الراعية للإرهاب في عام 1993م، كواجهة لمعاقبة السودان ومحاصرتها اقتصاديًّا وعسكريًّا، ودعم خصومها مثل جنوب السودان وإثيوبيا؛ بهدف زعزعة الاستقرار، وصنع فراغ أمني يُشكِّل عامل تهديد للأمن القومي العربي يهدف -بصورةٍ أو بأخرى- لتمكين الدولة العبرية من الولوج لممرات الملاحة البحرية، وإيجاد نقاط ارتكاز استخبارية تحاصر قوى التأثير مثل مصر والمملكة العربية السعودية. ولذلك تم الضغط على السودان عقب سقوط نظام عمر البشير للالتزام بمسار «اتفاقات أبراهام» مقابل تخفيف بعض العقوبات الاقتصادية عنها، وهي خطوة أدَّت فعليًّا لزيارات متبادلة بين السودان والكيان الصهيوني، نتج عنها طرد بعض الفصائل الفلسطينية من السودان استجابةً لمطالب صهيونية، ومنع تهريب السلاح لقطاع غزة، وتمكين شخصيات سياسية مُقرَّبة من واشنطن وتدعم مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني،  على الرغم من أن الدولة العبرية كانت ولا تزال من أبرز الداعمين لتمرد الحركة الشعبية ضد الخرطوم، وأدَّى ذلك من قبل لانفصال جنوب السودان.

حاول كُلّ من «حميدتي» و«البرهان» استثمار الرغبة الأمريكية في دَفْع مسار التطبيع بين السودان والدولة العبرية؛ من خلال إرسال مبعوثين عسكريين إلى الدولة العبرية قَبْل الهيمنة على السلطة في 25 أكتوبر 2021م، وكان الهدف من هذه الزيارات إقامة علاقات استخبارية وأمنية مشتركة، هدفها حَمْل الدولة العبرية على الضغط على الولايات المتحدة للاعتراف بهيمنة العسكر على السلطة، وإعادة السودان إلى المنظومة الدولية التي تَعترف بها واشنطن.

الخطوة الأمريكية لم تكن غايتها فقط تلبية طموحات الدولة العبرية في التوسع الاستخباري والعسكري في حوض البحر الأحمر فقط، بل في سياق الربط الاستراتيجي للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وإفريقيا؛ لذلك تم ترشيح جون جودفري ليكون سفيرًا للسودان عام 2022م، وقد شغل جودفري عددًا من المناصب في الشرق الأوسط وإفريقيا؛ أبرزها نائب منسّق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية، ونَتَج عن ذلك توسيع النشاط العسكري الأمريكي في الصومال وجيبوتي وإثيوبيا. وكذلك استثمر البرهان مطالب روسيا بافتتاح قاعدة عسكرية في السودان كورقة للضغط على واشنطن للقبول بوجوده في سدة الحكم كبديل عن مسار «التغيير الديمقراطي»، فقد حصلت السودان على أسلحة روسية بقيمة مليار دولار، الأمر الذي دفع واشنطن لإرسال حاملة الطائرات ونستون تشرشل لتَمْخُر عباب البحر المتوسط يُرافقها قِطَع بحرية صهيونية.

وكذلك تَعتبر الولايات المتحدة أنَّ أمن الملاحة في البحر الأحمر مهمة جدًّا، ليس فقط لكونها من أهم مسارات شحنات النفط العالمية، بل أيضًا تُعدّ من أبرز مُهدِّدات الأمن القومي الصهيوني، لذلك حذر السفير الأمريكي جودفري من السماح بإجراء أي تغيير عسكري في حوض البحر الأحمر، والسعي لتعميق العلاقات العربية الصهيونية؛ لضمان استقرار هذا الممر الملاحي العالمي.

بالإضافة إلى ما سبق فإن مبادرة الحزام والطريق الصينية تعد أحد مهددات العلاقات الأمريكية السودانية، فبالإضافة إلى الاستثمارات الصينية الضخمة في السودان وإفريقيا، فإن الصين هي ثاني شريك تجاري للسودان، وهو أمر يُفسِّر استخدام الصين حق النقض الفيتو ضد قرارات مجلس الأمن التي استهدفت استيلاء البرهان وحميدتي على السلطة؛ لأن الصين بحاجة لتأثيرها في السودان لضمان استمرار تمدُّدها في العمق الإفريقي.

تقول مجلة فورين بوليس في مقال نشرته بعنوان «في السودان.. السياسيات الأمريكية مهدت الطريق للحرب»: «إن الجهد المضلل لواشنطن بشأن إجراء تغيير ديمقراطي في السودان هو الذي روّج لفكرة دمج مليشيات الدعم السريع للجيش السوداني، رغم عدم وجود مقومات لذلك».

 وتبرر المجلة ذلك بالقول: «إن عدم تناسق هيكل الجيش النظامي ومليشيات الدعم السريع واختلاف سياسة التسليح والتمويل يؤكد أن الهدف من هذه الخطوة كان تضخيم التصارع بين القوتين. فكيف يمكن لمليشيات عسكرية تتهمها واشنطن بارتكاب جرائم حرب، وتحصل على تمويل من ما يسمى بــ«أمراء الحرب» أن تصبح جزءًا من جيش نظامي تربَّى منذ عقود على عقيدة قتالية واضحة وخاضعة لسلطة الدولة؟!».

لذلك يمكن الإشارة إلى ما يجري في السودان كجزء لا يتجزأ من الصراع الروسي الأمريكي على الموارد الأساسية بدرجة أولى، بالإضافة إلى استكمال عملية نشر الفوضى التي ستُعزّز من دور بارز للدولة العبرية في المنطقة، مع هيمنة كاملة على ثروات المياه والذهب في السودان، وبصفة أخرى يمكن أن تُشكِّل ورقة ضغط جديدة تضغط على المملكة العربية السعودية تشبه إلى حدّ كبير تأثير المليشيات الإيرانية في العراق أو الحوثي في اليمن، وكذلك قد تُسهم في تقويض مقومات الأمن القومي المصري.

 


أعلى