• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مجالس المسلمين بين الغُنْم والغُرم

مجالس المسلمين بين الغُنْم والغُرم

يقول المولى - عز وجل - في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْـمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ١١]. إنها آية من آيات الله، تُحدِّثنا عن أمر قد يعدُّه الكثيرون أمراً بسيطاً وهيناً، ولكنه في شريعتنا عظيم، إنه أمر مجلس المسلم وارتباط العمل الصالح به، وتعلُّق الجزاء الحسن به يوم القيامة؛ فالفسحة في المجلس للمسلم في الدنيا يرزق الله بدلاً منها يوم القيامة؛ (فالجزاء من جنس العمل) وهلمَّ جراً في كل عمل صالح. إن مجلس المسلم ليس كغيره من المجالس، بل هو مجلس له خصوصياته وآدابه: من مجالسة ومخالطة ومعاملة... وهو مجلس مسؤول عنه من مبتدئه إلى منتهاه، وثمة فرق بين مجلس يباهي الله به ملائكته وتغشاه رحمته، أو مجلس يغشاه الشيطان. ولكي يحصل المؤمن على المجلس الذي يرتضيه الإله، وتتحقق فيه الأوصاف المحمودة، لا بد من استقراء نصوص الشريعة الغراء المبيِّنة لهذا المطلب. ولعل أهم نص تطالعنا به كتب السُّنة، من حيث علاقته بالموضوع، ما ذكره الحسن بن علي - رضي الله عنه - وقد سأل أباه عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف كان؟ فقال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجلس ولا يقوم إلا على ذِكر، ولا يوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. يعطي كل جلسـائه بنصيبـه، ولا يحسـب جليسه أن أحداً أكـرم عليـه منـه... مَـن جالسـه أو قاومه في حاجة صابَره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردَّه إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطُهُ وخُلُقه؛ فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلـس حلم وحياء وصبر وأمانة؛ لا تُرفع فيه الأصوات، ولا تؤبن (تعاب) فيه الحُرَم، ولا تثنى فلتاته (أي: لا تشاع زلاته وهفواته؛ لا فلتات في مجلسه) متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، يُؤْثِرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب»[1]. فمن خلال هذا النص الرائع يتبين لنا أن مجلس المسلم يستلزم شروطاً وآداباً لا بد منها، قَبْله وأثناءه وبعده. فالمؤمن وهو قاصد مجلسه يستحضر قوله - تعالى -: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: ٩١]؛ حيث إن خطوات المسلم ليست حرة طليقة، أو مرسلة يعبث بها كيف شاء، بل هي خطوات محسوبة معدودة، إما عليه وإما له، وأول الآداب وأول عمل يجدر بالمسلم القيام به حين حضوره أيَّ مجلس ما يلي: أولاً: آداب المجلس: 1 - مصافحة من يلتقي بهم في المجلـــس: لقـــول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه فتصافحا وحمدا الله - تعالى - جميعاً، تفرَّقا وليس بينهما خطيئة»[2]. وفي رواية: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غُفر لهما قبل أن يتفرقا»[3]. 2 - الجلوس في المكان الذي يخصصه صاحب البيت: لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن دخل دار قوم، فلْيجلس حيث أمروه؛ فإن القوم أعلم بعورة دارهم»[4]. 3 - الجلوس في محاذاة الناس لا في وسطهم: وهذا أدب اجتماعي كريم؛ لأنه إذا جلس في الوسط استدبر بعض الناس بظهره فيؤذيهم ذلك. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذَّر من هذا، بل روي عنه: «أنه لعن من جلس في وسط الحلقة»[5] وهذا طبعاً محمول إن كان فـي المجلـس سـعة، وإلا فيجوز لقولـه - تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: ٨٧]؛ إذ الحرج مرفوع في كــل شــيء؛ لأن التشــريع لم يأتِ إلا بما في استطاعة الإنسان؛ إذ لا تكليف بما لا يطاق. 4 - أن لا يجلـس بيــن اثنين إلا بإذنهمـا: لقولـه - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل لرجل أن يفرِّق بين اثنين إلا بإذنهما»[6]. 5 - أن يجلس القادم حيث ينتهي به المجلس: كما قال جابر بن سمرة: كنا إذا أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس أحدنا حيث ينتهي»[7]. وهذا طبعاً محمول على العادة، وإلا فإن كان القادم ذا علم ومكانة فلا بأس بوضعه في المكان المناسب له؛ فقد فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع كبراء القبائل والوفود. وفي رواية الطبراني: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فإن وُسِّع له فليجلس وإلا فلينظر إلى أوسع مكان يرى فلْيجلس»[8]؛ لهذا السبب جعل الرسول الكريم خير المجالس أوسعها في قوله: «إن خير المجالس أوسعها»[9]. ثانياً: مجالس الغُنْم: تلكم جملة من الآداب يَحسُن بالمسلم الالتزام بها قبل انعقاد المجلس وأثناء الاستعداد له، وهناك آدابُ القصدِ للمجلس الذي يسعى المسلم للذهاب إليه؛ فالمجالس كثيرة. ومجالس الغُنْم هي دَيْدَن المسلم ورغبته وإليها قصده وذهابه وعليهــا ســـعيه، سـواء تعلـق ذلـك بمجلس تحصيل العلم أو الدعوة أو التربية والتعليم أو الذكر أو للتحدث في شؤون المسلمين والتفكر في أمورهم. 1 - مجلس العِلْم: وهو مطلوب دنيا وأخرى؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة»[10] وفي الآية المصدَّر بها هذا الموضوع: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١] فطلاَّب العلم لهم الدرجات العلا عند ربهم؛ فكيف لا يسعى الإنسان لمثل هذه المجالس، وتحصيل العلم مطلوب في كل وقت؛ لأن حَمَلة العلم كالنجوم التي يُهتدى بها في الظلمات؟ فعن أيوب عن كاتب أبي قلابة قال: «مَثَل العلماء مَثَل النجوم التي يُهتدى بها والأعلام التي يقتدى بها إذا تغيبت عنهم تحيروا وإذا تركوها ضلوا»[11]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في جوف البحر ليصلُّون على معلم الناس الخير»[12]. والعلم أيضاً مطلوب؛ لأنه طريق العمل؛ فلا عمل دون علم، والله لا يُعبَد بالجهل وهو القائل: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: ٢٣١]، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه»[13].  والعلم إذا لم يكن له ثمرة في القلب والجوارح والمعاملات فكأنْ لم يكن، وقديماً قالت أم سفيان لابنها: «يا بني! خذ هذه عشرة دراهم وتعلَّم بها عشرة أحاديث، فإن رأيت أنها تغيِّر في مشيتك وحديثك وأخلاقك فتوكل على الله وأنا أعينك بمِرْجَلِي وإلا فاتركه؛ فإني أخشى أن يكون وبالاً عليك يوم القيامة»[14]. وقد رفض الشارع الحكيـم أن يُجعـل العلـم طريقـاً لاختيـار المجالـس، فقـال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعلَّمـوا العلـم لتبـاهـوا بـه العلمــاء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيَّروا به المجالس؛ فمن فعل ذلك فالنار النار»[15]. وهو حديث ورد في رواية الدارمي منسوباً إلى لقمان الحكيم؛ حيث قال شهر بن حوشب: «بلغنـي أن لقمـان الحكيـم كــان يقـول لابنـه: بُنـَـيَّ! لا تعلَّم العلم لتباهي به العلماء أو لتماري به السفهاء أو ترائـي به فـي المجالـس ولا تترك العلم زهداً فيه ورغبة في الجهالة، يا بني! اختر المجالس على عينيك وإذا رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم؛ فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك وإن تك جاهلاً يعلِّموك، ولعل الله أن يطَّلع عليهم برحمة فيصيبك بها معهـم وإذا رأيت قومـاً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم؛ فإنك إن تك عالمـاً لا ينفعــك علمك وإن تك جاهـــلاً زادوك غياً أو عياً؛ ولعل الله يطَّلع عليهم بعذاب فيصيبك معهم»[16]. ومجالس العلم لا تخلو من فقه ودعوة وتربية؛ إذ هي مطلوبة، سواء للتكوين أو للتربية، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... أو غيرها. فهي مجالس خير؛ لأن أبسط شيء قد يتحقق فيها هو إبعاد الانسان عن أهون الشر أو هدايته إلى أقل الخير، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في وصيته لعلي بن أبي طالب ومن خلاله لنا: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النَّعَم»[17]، وقال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه»[18]. والدعوة إلى الله وإلى الخير رسالة الأنبياء والمرسلين ورسالة الدعاة الصالحين. وأبناء هذه الأمة هم أفضل من يتحمل هذا الأمر من غيرهم؛ فيجب أن تأخذ من وقتهم ومالهم وجهدهم وعاطفتهم وأنفسهم نصيبها؛ لكي تنتشر الدعوة ويسود الإسلام ويعم الخير المجتمع. ولعل تلك الجلسة الإيمانية التي أشارت إليها كلمة الصحابي الجليل معاذ بن جبل: «اجلس بنا نؤمن سـاعة»[19] أو نبَّه إليها حديث أنس الذي قال فيه: «كان عبد الله إذا لقي الرجل من أصحابه يقول له: تعالَ نؤمن بربنا ساعة، فقالها ذات يـوم لرجـل فجـاء إلــى النبـي، فقـال: يا رسـول اللـه! ألا ترى في رجل يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يرحمه الله إنه يحب المجالس التي تباهي بها الملائكة»[20]. إنها نماذج للمرحلة الأرقمية التي سار عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تربية الجيل الأول من الصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم قبل الهجرة إلى المدينة المنورة؛ حيث كان يجتمع بأصحابه بدايةً في الشعاب سراً، وبعد حصول مواجهات بينهم وبين الكفار انتقل بهم إلى دار الأرقم. ونجاح مثل هذه المجالس العلمية الإيمانية يحتاج إلى عالم فقيه رباني؛ فهو المربي وهو المحور الأساسي. والمطلوب منه العمل بعلمه وصبره وحُسْن توجيهه وسلوكه... وقدوته في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد سأل الحسن بن علي أباه عن سيــرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جلسائه، فقال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائمَ البِشْر، سهل الخُلُق، لين الجانب، ليـس بفظٍّ (سيئ الخلق) ولا غليـظ ولا سَـخَّاب، ولا فَـحَّـاش، ولا عيَّــاب، ولا مزَّاح، يتغـافل عمـا لا يشتهـي، لا يؤيس منه راجيه ولا يخيب فيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحـداً ولا يعيـره ولا يطلـب عورتـه، ولا يتكلم إلا في ما يرجو، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، يضحك مما يضحكون، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه، ومسألته حتى إن كان أصحابه ليستجلبونه في المنطق ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام»[21]. ولا بد أن يعمل المؤمن المستمع الراغب في الخير بحضوره المتواصل والدائم وانضباطه، ورغبته وحُسْن استماعه على إنجاح مثل هذه المجالس. وكذلك العلم الذي يعطى للحضور، يجب أن يكون جامعاً مانعاً يخدم المسلمين، ويصحح مفاهيمهم، ويشحن إرادتهم، ويربي فيهم السلوك الجماعي للأمة، ولكي يحصل هــذا لا بد من الاعتماد على الوحيين المعتمَدَين (كتاب الله، وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -) والحرص على مدارستهما (حفظاً وفهماً وتعلماً)؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»[22]. وقوله: «عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عضوا عليها بالنواجد»[23]. 2 - مجلس الذكر: وهو من المجالس الغانمة التي يحبها الله؛ فعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر؛ فإذا وجدوا قوماً يذكــرون الله - تعالى - تنادوا: هلموا إلى حاجتكم فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا، والله ما رأوك! فقال: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأكثر لك تحميداً وتمجيداً وأكثر لك تسبيحاً، فيقول: وما يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنـة، فيقـول: وهـل رأوهــا؟ فيقولــــون: لا واللـه يــا رب! ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد حرصاً عليها وأشد لها طلباًً وأشد فيها رغبة، قال: فمِمَّ يتعوَّذون؟ فيقولون من النار. قال: فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، والله! ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد منها فِراراً وأشد لها مخافة، فيقول الله - تعالى -: «أُشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم إنما جاء لحاجته، قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم»[24] وربنا يقول في كتابه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: ٢٥١]. ولهذه الجِلْسَة وغيرها من الجلسات الخيرة آداب أثناء انعقادها مما له علاقة بأدب الحديث والاستماع، وقديماً قيل: «من لم يُحسِن الاستماع لم يحسن القول». ثالثاً: كيف تؤتي مجالس الغُنم ثمارها؟ تؤتي هذه المجالس ثمارها من خلال: 1 - التكلم باللغة العربية: وهي لغة القرآن، من استطاع إلى ذلك سبيلاً. 2 - التمهُّل بالكلام أثناء الحديث: لِـمَا أخرجه أبو يعلى عن عروة بن الزبير قال: جلس رجل بفِناء حجرة عائشة فجعل يتحدث. قال: فقالت عائشة: لولا أني كنت أسبِّح لقلت له: ما كان رسول الله يسرد الحديث كسردكم إنما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلاً تفهمه القلوب»[25]. 3 - المخاطبة على قَدْر الفهم: حيث روي عن علـي - رضي الله عنه -: «حدِّثوا الناس بما يعرفون: أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟»[26]، وقـال ابن مسـعـود - رضـي الله عنه -: «ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهـم إلا كـان لبعضهم فتنة»[27]. 4 - التحدث بما لا يُخِل ولا يُمِل: لما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»[28]، وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: «حدِّث الناس كل جمعة؛ مرة فإن أبيت فمرتين؛ فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تُملَّ الناس هذا القرآن»[29] وقال الحسن: «حدثوا الناس ما أقبلوا عليكم بوجههم؛ فإذا التفتوا فاعلموا أن لهم حاجات»[30]. 5 - الإصغاء التام إلى المتحدث: وذلك ما أكده علي - رضي الله عنه - عندما سئل عن مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال: «يعطي كل جلسائه بنصيبه... »[31]. وقديماً قيل: «من لم يُحسِن الاستماع لم يحسن القول». 6 - إقبـال المتحــدث علــى الجلسـاء جمـيعـاً: وذلـك ما أكده علي - رضي الله عنه - عندما سئل عن مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه...» وقال: «… عنده في الحق سواء»[32]. 7 - وأيضاً لا بد من أن يكون جو مجلس العلم والفقه والذكر خاصاً: كأن أوَّله تحريم وآخره تسليم، تمثُّلاً بالسلف الصالح في ذلك؛ فعن أحمد بن سنان قال: «كان لا يُتحدَّث في مجلس عبد الرحمن بن مهدي، ولا يُبرى قلم، ولا يبتسم أحد ولا يقوم أحد قائماً، كأن على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم تبسم أو تحدَّث، لبس نعليه وخرج»[33]. ومن الآداب الأخرى للمجلس: 8 - احتفاظ الخارج من المجلس بمكانه لحين عودته: لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به»[34]. 9 - قراءة دعاء كفارة المجلس: لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلمات لا يتكلم بهنَّ أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كُفِّر بهن عنه، ولا يقولهن فـي مجلـس خيـرٍ ومجلس ذكـرٍ إلا خُتِم له بهن عليه، كما يُخَتم بالخاتم على الصحيفة: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك»[35]. بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة»[36]. رابعاً: مجالس الغُرْم: 1 - وهي النوع الثاني من المجـالـس، ولكنهـا مجالـس لا يرضاها الله، مثل: مجلس يُهتَك فيه عرض أو يُسفَك فيه دم، أو يُسلَب فيه مال، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إلا ثلاثة: سفك دم حرام، أو فــرج حـرام، أو اقتطـاع مـال بغير حق»[37]. وهــو مـا يعنـي أنهـا مجالـس مشجوبة ولا أمـانة لهـا؛ لأن ما يجري ويدور فيها يخالف تعاليم الإسلام. فهذه مجالس يرفضها الرحمن، ويتجنبها كل عاقل من بني الإنسان، حذرت منها الشريعة بأفصح بيان وأوعدت أصحابها النيران؛ إذ المؤمن مسؤول عن وقته، وماله، وعلمه، يستحضر دائماً قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسأل عن أربع: عن عُمُره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله: من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه: ماذا عمل به»[38]. وهناك نهي عن بعض المجالس في بعض أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، أسوقها استئناساً وإن حُكم بالضعف على بعض منها من حيث أسانيدها، وكذا بعض الآثار، منها: 2 - مجالس أصحاب الخصومات: وهو من كلام أبي جعفر محمد في قوله: «لا تجالس أصحاب الخصومات؛ فإنهم الذين يخوضون في آيات الله»[39]. 3 - مجالس أصحاب النجوم: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجالس أصحاب النجوم»[40]. 4 - الجلوس على الطرقات: لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والجلوسَ في الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإن أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غضُّ البصر وكفُّ الأذى وردُّ السلام، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن منكر»[41]. وفي رواية الطبراني: سئل عن حق المجالس، فقال: «ذكر الله كثيراً وأرشدوا السبيل وغضوا الأبصار»[42]. 5 - الأسواق: وهي من المجالس المشجــوبة؛ فقد روى ابن عمر أن رجــلاً سأل النبــي - صلى الله عليه وسلم -: أي البقــاع شــر؟ قــال: «لا أدري حتى أسأل جبريل» فسأل جبــريل، فقــال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل فجاء، فقال: «خير البقاع المساجد وشرها الأسواق»[43]. بالتأكيـد أن المقصـود ليــس هـو السـوق لذاتـه، ولكــن ما يجري في السوق؛ فالاشتغال بالسوق قد يلهي الإنسان عن كثير من الأعمال؛ كما روي عن عمر الفاروق قوله: «ألهاني الصفق في الأسواق»[44]. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً من هيشات الأسواق أثناء الصلاة بقوله: «إياكم وهيشات الأسواق»[45] وهو ما عبَّر عنه فيما ورد من صفاته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: «ولا سخَّاب في الأسواق»[46] فإذا غابت هذه السلوكيات أصبح السوق مكاناً لعمل المسلمين وقضـاء حاجتهـم وضـروراتهم، بل لذِكْر الله - تعالى - كما ورد ذلك في أحاديث صحيحة، منها:  ما رواه عمر بن الخطاب - رضـــي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيـي ويميـت وهـو حـي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة»[47]. ومجالس الغُرْم المذكورة ضررها أكبر من نفعها، وشرها أوضح من خيرها، والمؤمن يبحث عن الخير ويتجنب الشر. هذه إذن هي المجالس بأنواعها: المحمود منها والمذموم، وديدن المسلم منها ما كان فيه غُنمٌ ولم يكن فيه غُرمٌ؛ حيث قيمة الوقت، وقيمة الكلمة، وقيمة الشخص... إنها مجالس خالية من الأمراض اللسانية العشرين[48] «والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»[49]. وهي أيضاً مجالس تتحقق فيها آداب الحوار والمناقشة وآداب الخلاف الفكري، مجالس تضع قواعد أمامها حتى تخرج غانمة سالمة من مثــل: «ليــس أحد بعــد النــبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -»[50]. ومن أعظم ما يتعلق بهذه المجالس أنها مجالس أرقمية، يجب أن ترقى في خطابها وأدبها وفوائدها وثمارها، وأنها مجالس يتحقق فيها الغُنْـم لا الغُـرْم، سـواء كانت مجالـس خاصـة أو عامة، وأن استحضار شرع الله فيها آكد، والإعراض عن اللغو فيها واجب، والحرص على التأثير فيها بالخير، والتقليل من الشر فرض، وهكذا المؤمن الفعال ينفع ولا يضر، يبني ولا يهدم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] المعجم الكبير للطبراني: 22/158و22/162، وطبقات ابن سعد: 1/424. وهو في مختصر الشمائل للترمذي مع اختلاف في بعض الألفاظ: 1/24 بتحقيق الشيخ الألباني.  
[2] صحيح الجامع، رقم: 2741، والجامع الصغير وزيادته: 1/451/4187.  
[3] سنن أبي داود، رقم الحديث: 5212. انظر مشكاة المصابيح: 3/2/4679، وأخرجه أيضاً ابن ماجه والترمذي.  
[4] المعجم الأوسط: 6/333، والصغير: 2/165/965.  
[5] سنن أبي داود: 2/674/4826 وضعفه الألباني، وسنن البيهقي: 3/234/5699، ومسند أحمد: 5/384/23311 وضعفه الأرنؤوط. وهو في ضعيف الترغيب والترهيب: 2/149/1798.  
[6] سنن أبي داود: 2/687/4845، وقال الألباني: حسن صحيح.  
[7] سنن أبي داود: 2/673، رقم: 4825، وصححه الألباني.  
[8] المعجم الكبير: 7/300، 7197، وزوائد الهيثمي: 2/861/919، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 399، وفي الجامع الصغير وزيادته: 1/40/400، وانظر الصحيحة : 3/312/1321.  
[9] مسند أحمد رقم: 11194 و11723، وسنن أبي داود رقم: 4820، والصحيحة: 2/485/832، وصحيح الترغيب والترهيب: 3/104/3074.  
[10] صحيح البخاري، كتاب العلم، رقم: 10، وصحيح مسلم، رقم: 7028.  
[11] مصنف ابن أبي شيبة: 7/185/35178.  
[12] سنن الترمذي: 5/50/2685 وصححه الألباني، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير: 8/234 /7912.  
[13] سنن أبي داود: 2/342/3643 وصححه الألباني، وأخرجه: الترمذي: 5/195/2945، وابن ماجه: 1/82/225، وأحمد: 2/252/7421، وابن حبان: 1/282/84.  
[14] سير أعلام النبلاء: 8/408. وانظر كتاب تاريخ جرجان: 1/492، لصاحبه محمد ابن يوسف أبي القاسم الجرجاني بتحقيق: عبد المعيد خان.  
[15] مسند أحمد، رقم: 1656، وصحيح ابن حبان: 1/161/ 77، وسنن ابن ماجه: 1/93/ 254 وصححه الألباني، والمعجم الكبير: 20/66، وسنن الدارمي: 1/117، والمستدرك للحاكم: 1/161/290.  
[16] سنن الدارمي: 1/117  
[17] صحيح البخاري: 3/1096/2847، وصحيح مسلم: 4/1872/2406، وسنن أبي داود: 2/346، رقم: 3661، وسنن ابن ماجه، رقم: 225. والمستدرك: 3/690/6537. و مسند أحمد: 5/333/22872.  
[18] سنن ابن ماجه: 1/75/206.  
[19] صحيح البخاري، كتاب الإيمان : 1/7.  
[20] مسند أحمد: 3/265/13822 تعليق شعيب الأرنؤوط، إسناده ضعيف: عمارة بن زاذان وزياد بن عبد الله النميري متكلَّم فيهما وقد تفردا بهذا الحديث بهذه السياقة ولم يتابعهما عليه أحد.  
[21] شعب الإيمان: 2/154/1430.  
[22] صحيح البخاري فضائل القرآن، باب 25 رقم: 2027.  
[23] سنن ابن ماجه: 1/15، رقم: 42، وسنن الترمذي: 5/44، رقم: 2676، والمعجم الكبير: 18/246، ومسند أحمد: 4/126/17184.  
[24] صحيح البخاري: 5/2353/6054. وصحيح ابن حبان: 3/139/857.  
[25] مسند أبي يعلى: 7/357/4353، وصححه حسين سليم أحمد.  
[26] صحيح البخاري: 1/59/ 127.  
[27] صحيح مسلم، المقدمة، باب 3.  
[28] صحيح البخاري، رقم: 68.  
[29] صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب 20 رقم: 637.  
[30] مصنف ابن أبي شية: 5/321/26514.  
[31] المعجم الكبير: 22/158 و 22/162  
[32] المعجم الكبير: 22/158 و 22/162.  
[33] سير أعلام النبلاء: 9/201.  
[34] صحيح مسلم، رقم: 5818.  
[35] سنن أبي داود: 2/681/4857، وقال الشيخ الألباني: صحيح دون قوله ثلاث مرات.  
[36] سنن أبي داود: 2/680/4855، وصححه الألباني.  
[37] شعب الإيمان: 7/521/11194، وسنن البيهقي: 10/247/20951، وأخرجه أبو داود في سننه: 72/684/4869وضعفه الشيخ الألباني. والشطر الأول صحيح موقوف من كلام عثمان وابن عباس. أخرجه: أبو الشيخ في التوبيخ، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/410/4095 بلفظ: إنما المجالس بالأمانة.  
[38] سنن الترمذي، رقم الحديث: 2423.  
[39] سنن الدارمي: 1/82/215، وقال محققه حسين سليم أسد: ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم، وأخرجه: البيهقي في شعب الإيمان بلفظ أصحاب الأهواء، كما أخرجه أبو نعيم في الحلية: 3/184.  
[40] مسند أحمد 1/78/582، قال محققه الأرنؤوط: حسن لغيره.  
[41] صحيح البخاري: 2/870/2330، وصحيح مسلم: 3/1675/2121، وسنن أبي داود: 2/671/4815.  
[42] المعجم الكبير: 6/87/5592، وهو في الصحيحة: 6/9/2501.  
[43] صحيح ابن حبان: 4/476/1599، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن. وأخرجه الحاكم: 2/9/2149. بلفظ: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أي البقاع خير؟ فقال: لا أدري، قال: فأي البقاع شر؟ فقال: لا أدري فأتاه جبريل، فقال: سل ربك، فقال جبريل: ما نسأله عن شيء. فانتفض انتفاضة كاد أن يصعق منها محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلما صعد جبريل قال الله - تعالى - سألك محمد أي البقاع خير فقلت: لا أدري، وسألك: أي البقاع شر، فقلت: لا أدري قال: فقال: نعم! قال: فحدّثه أن خير البقاع المساجد وأن شر البقاع الأسواق». تعليق الذهبي في التلخيص: صحيح، وهو في الجامع الصغير وزيادته: 1/559/5582. وقال الشيخ الألباني: حسن. وانظر حديث رقم: 3271 في صحيح الجامع وفي صحيح الترغيب والترهيب: 1/78/325.  
[44] صحيح البخاري، رقم: 49.  
[45] صحيح مسلم، رقم: 1002.  
[46] صحيح البخاري، رقم: 2125.  
[47] رواه الترمذي وقال حديث غريب، وهو في صحيح الترغيب والترهيب 2/142/1694. وقال الألباني: حسن لغيره.  
[48] إحياء علوم الدين للغزالي، الجزء الثالث.  
[49] صحيح البخاري رقم: 6484، وصحيح مسلم رقم: 170.  
[50] المدخل لمصطفى الزرقا: 1/89.  

أعلى