• - الموافق2024/04/28م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حوار مع الناقد ( صابر عبدالدايم )

الناقد (صــابـر عبد الدايــــم) لـ«البيان»: «الحداثيّـون» يسرقون أفكار الغربيين ويقدمونها مشوَّهة!

 

تُرى؛ ما معالم التجربة الأدبية في ظلّ خصائص التصوّر الإسلامي؟ وكيف يمكن تنقية هذا التصور من الشوائب التي علقت به؟ وما موقف الأديب المسلم من التراث الإنساني الموروث.. ماذا يقبل منه؟ وماذا يرفض؟! وهل مصطلح «الواقعية الإسلامية» تأثر بمذهب «الواقعية الغربية»؟ ومَن وراء موجات «التغريب» التي اجتاحت حياتنا الثقافية؟! وهلْ -حقًّا- استطاعت الرواية أن تحلّ مكان الشّعر الذي تربَّع على قائمة الفنون طيلة القرون الماضية؟! ولماذا انقطعت روح التواصل بين المبدع والمتلقي في العالم العربي؟ وما أبعاد الرؤية الإسلامية في الشعر المعاصر؟ وما مستقبل الأدب في السنين القادمة؟! وماذا .. وماذا .. كل هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على الشّاعر الأديب، والناقد الأكاديمي؛ مدير مكتب رابطة الأدب الإسلامي بالقاهرة؛ الدكتور/ صابــر عبد الدايـــم -عميد كلية اللغة العربية بالزقازيق- وإلى التفاصيل:

البيان: بدايةً؛ دعنا نسأل عن معالم التجربة الأدبية في ظل خصائص التصور الإسلامي؟

الشخصية الإسلامية لها مقوماتها التي لا تتجزأ، ولها تصوراتها التي لا تقبل التشتّت، وهذه المعالم تنطلق من منظور كلي شامل، في العقيدة والكون والأدب والحياة، والأديب المسلم في ظلّ هذا التصور تنطلق تجاربه من منبع إيمانه الفيَّاض بالتسليم المطلق لخالق الكون -جلَّ جلاله-، وهو يمزج هذه الانطلاقة الإيمانية بالتأمل في مشاهد الكون، والنظر في ملكوت السماوات والأرض، واستجلاء معالم القدرة الإلهية في صنعة هذا الكون البديع المتناسق. وهو في غَمْرَة تجاربه الإيمانية والتأملية لا يكون بمعزلٍ عن واقع الحياة ومشاغل الإنسان وآماله وأحلامه، فهو في إيمانه يتأمل ما خفي من أسرار الكون، وهو في تأملاته يستجلي أسرار الحياة، ويبحث عن منافذ الخلاص للإنسان عبر رؤية إسلامية متميزة متفردة تُصَاغ معالمها في قالب فنّي مؤثّر.

البيان: ألاَ ترى أنَّ «التصور الإسلامي» في العصور السابقة لحقت به شوائب الفلسفات الوافدة والداخلية، فكيف يمكن تنقية هذا التصور ممَّا علق به؟

هذا صحيح، ولكن لا أحب أن يدفعنا حماسنا تجاه قضية تصفية التصور الإسلامي من كل شائبة إلى المبالغة والتعسف في الانعزال والقطيعة، بلْ والموقف الرافض لثمار الفكر الإسلامي في أزهى عصوره.

   وأعتقد أنه في حقل الأدب والثقافة، لم يقلّد النقاد والشعراء الأدب الإغريقي الوثني؛ لأنه لمْ يُتَرْجَم لهم كاملاً، كما أنَّ هذا الأدب الوافد لا يتوافق مع وجدان الشاعر المسلم، وإنْ كان هناك ثُلَّة من الشعراء أصابتهم حُمّى هذه الثقافات الوثنية الوافدة، مثل ظاهرة المُجون والزندقة والإغراق في الفلسفات الباطنية؛ كما حدث عند بعض الشعراء العباسيين.

البيان: إذن؛ ما الموقف الصحيح من التراث الإنساني الموروث.. ماذا يُقبَل منه؟ وماذا يُرفَض؟!

أُطالب الأديبَ المسلم بالوعي التام، والحذر الشديد وهو يقرأ التراث الإنساني، ولعلَّ الدعوة إلى معرفة النقيض أو اكتشاف معالم الوجه المضاد تَفتح أمام المفكر المسلم والأديب المسلم أبوابًا متعددة للدخول منها إلى عوالم الثقافة القديمة والحديثة؛ فالأديب المسلم ليس بمعزل عن التيارات السائدة، بلْ عليه أن يتحصَّن ضد المعرفة بالمعرفة، فيصفِّي، ويُحلّل، ويفحص ما يُقدَّم إليه، ويَقبل ما يتوافق مع فِطْرته الإنسانية، ورؤاه الفنية، ويكشف زيف الفكر الدخيل والرُّؤى الهدامة.

البيان: هل «الواقعية الإسلامية» مضاهاة وتقليد، أمْ تأثر بمذهب «الواقعية الغربية»؟!

المقصود بالواقعية في الإسلام هو التحقّق في عالم الواقع، وهذا المفهوم مجرد من كل ما علق بالواقعية من معنى اصطلاحي تاريخي في البيئات الأخرى، وليست الواقعية إقرارًا بما يدور في عالم الواقع من إيجابيات وسلبيات، وانضباطات وانحرافات، ولكنها مثالية واقعية؛ لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج تملك البشرية أن تصعد إليه.

وفى رأيي أنَّ للواقعية في التصور الإسلامي ثلاثة مظاهر:

- التعامل مع الحقيقة الإلهية متمثلة في آثارها الإيجابية وفاعليتها الواقعية.

- التعامل مع الحقيقة الكونية متمثلة في مشاهدها المحسوسة المؤثرة أو المتأثرة.

- التعامل مع الحقيقة الإنسانية متمثلة في الناس كما هم في عالم الواقع.

    فهذه الواقعية لا تلتقي مع الواقعية التي اصطلح عليها النُّقّاد في العصر الحديث؛ لأنها تُمثّل وجهة نظر تخالف قِيَم الإنسان؛ حيث ترى الحياة من خلال منظار أسود، وترى أنَّ الشر هو أساس الحياة، وأنَّ التشاؤم والحذر هما الأجدر ببني البشر لا المثالية والتفاؤل، ولذا نحن ضد واقعية «فولتير» و«بلزاك» اللَّذَيْن يمثّلان الواقعية باصطلاحها الأوربي البغيض، والتي أثَّرت في أدبنا العربي تأثيرًا جذريًّا لمْ يَعُدْ قادرًا على النجاة بنفسه منه، ولعلَّ نتاج نجيب محفوظ الروائي، ونتاج توفيق الحكيم المسرحي، ونتاج يوسف إدريس القصصي يُعدّ محاكاة وصدًى لقِيَم الواقعية المحزنة الفنية والموضوعية، وقد سار على دَرْبهم وحاكاهم المبدعون الشباب في العالم العربي، بلْ توغلوا في واقعيتهم المشوهة!

البيان: كيف استطاعت موجات التغريب اجتياح حياتنا الأدبية والثقافية إلى هذا الحد؛ على الرغم من تراثنا العريق وتقاليدنا الصارمة؟!

أعتقد أنَّ تمزّق الأمة الإسلامية، ووقوع الوطن العربي في قبضة الاستعمار الغربي، وطغيان الفكر الاستشراقي المعادي للعروبة والإسلام، كان ذلك بمثابة تمهيد للغزو الفكري، كما أنَّ هذه الموجات العاتية من المد الفكري التغريبي -للأسف- وجدت عقولاً انهزامية تستجيب لكل أصدائها، ووقعت هذه العقول فريسة هذه الاستجابات العمياء للثقافات الوافدة.

وقد بلغت المأساة ذُروتها حين وجدنا مَن يروّج للتغريب، ويركب موجاته المخادعة التي تغرق في غياهبها كل من يحتمي بها أو يظن النجاة في السباحة مع تيارها.

     وكثير من رواد الفكر «المزعومين الواهمين» في مصر والمغرب وتونس وسوريا ولبنان قد صنعوا من فكرهم بُوقًا يردِّد في غير وَعْيٍ مبادئَ الثقافات الوافدة، ويُروِّج لها ويُحاكيها في مؤلفاته وآرائه، وفي أحيانٍ كثيرة يقوم بعض هؤلاء «الواهمين» بسرقة الأفكار التغريبية وتقديمها في صورة مشوهة ممسوخة.. وقد تأثرت الحياة الثقافية والفكرية والإبداعية بهذه الموجات الطاغية، ففسد المناخ الشعري في كثير من بلدان العالم العربي، وشوهت الحياة الفكرية وغابت رؤاها.

      وإنْ كانت هذه الموجة الإلحادية بدأت في الانحسار، خاصةً بعد سقوط الشيوعية، وبزوغ صحوة ثقافية بين أبناء الأمة وشبابها، إلاَّ أننا مازلنا في حاجة إلى تكاتف جهود المخلصين لدينهم ووطنهم من أبناء الأمة.

البيان: هناك من يقول بأنَّ هذا (عصر الرواية) بعد أن أطاحت بعرش الشِّعْر الذي ظل متربعًا على القمة قرونًا طويلة.. ما مدى صحة هذه المقولة؟ وما الأسباب التي وراء انزواء الشِّعر، وهروب الشعراء من الميدان؟!

حدث ذلك بالفعل، فالرواية والقصة القصيرة تنافسان الآن الشعر منافسةً ضارية، ولكنهما لمْ يصبحا بديلاً عنه بعدُ، فما يزال الشّعر على الساحة، له حضوره الفعَّال، وأثره الغائر في النفوس، وهناك عوامل كثيرة وراء تفوّق فنّ القصة وفنّ الرواية في جذب القارئ، وفى القدرة على التأثير، وعلى الالتحام بواقع الزمان والمكان، أوْ بإيقاعات الحياة المعاصرة، أهمها:

 - إنَّ القصة والرواية يمكن تحويلهما إلى مسلسلات درامية تلفازية، تصل إلى ملايين المشاهدين، وتؤثر فيهم، أمَّا الشعر فما يزال أسير الكلمة المكتوبة!

- إنَّ الشعراء وبخاصة «شعراء الحداثة» قد انحرفوا بالشِّعْر عن مساره الصحيح، وأوغلوا في الغموض، وكشفوا عن عدائهم السافر لثوابت الأمة في تراثها وواقعها، وتمادوا في الانحراف عن مألوف اللغة ومألوف العُرْف، وأتوا بتجارب أقرب إلى الهذيان والعبث والمجون والتكلُّف.. وهذه المثالب والتشوهات التي ناءت بها تجارب كثير من شعراء الحداثة أدَّت إلى انصراف الناس عن الشعر والشعراء، وانصرافهم إلى ميادين أخرى، ومِنْ هنا أُتيحت الفرصة للرواية والقصة «مؤقتًا» جوّ الغلبة والفوز.

ولكن ما يزال فريق من الشعراء المخلصين لهذا الفن السامق، يبدعون القصيدة الشعرية الصافية في شكليها «الخليلي والتفعيلي»، ويقدِّمون تجارب شعرية صادقة مؤثرة في وجدان الناس. وعلى عاتق هذا الفريق من الشعراء يقع عبء استرداد المكانة اللائقة للشعر من جديد، فهو فنّ العربية الأول، والأمل معقود على الشعراء الجادين الذين يبدعون في مجال التجارب الإسلامية النابضة بعبق الحضارة الإسلامية الراسخة.

البيان: باعتبارك من المتابعين للمسيرة الثقافية في الوطن العربي؛ ما هو تقييمك للحركة النقدية المعاصرة، خاصة بعد تعدُّد المدارس والمذاهب الأدبية؟

  الحركة النقدية تمر بأزمة حقيقية، فالنقد تعددت مدارسه، وتنوّعت طُرقه، وأغلبه يَستورد النموذج الغربي، ويحاول تطبيق المبادئ النقدية التي أبدعها الغربيون على النماذج الإبداعية في لغتنا العربية، وهذا -بالطبع- منهج غير صحيح، فلكلّ لغة مكوناتها الصوتية والأسلوبية والإيقاعية والخيالية، ولغتنا العربية لغة بيانية مشرقة لها موحياتها، فالنقد الأدبي لا بدَّ أن ينبع من مناخ اللغة ومحيطها المائج بكل تراكيبها، وكذلك عليه أن يُصْبَغ بصبغة البيئة التي تمخضت عن ذلك الإبداع.. فأصبح ثمرة لها.

   وبهذا المفهوم؛ أرى أنَّ النقد الحديث ما يزال يحلق بعيدًا عن فضاء النصوص الإبداعية، ويكتفي كثير من النقاد باستيراد النظريات الغريبة، وإعادة صياغتها في جملة عربية معقدة لا يفهما كثير من المبدعين، ودليل هذا الانفصام بين التنظير النقدي المستورد وبين النص الإبداعي: أنَّ «نجيب محفوظ» قال حينما قرأ نقدًا لروايته في مــجلة «فصول»: «إنني لأول مرة لا أستطيع فهم ما يقوله الناقد في نقد الرواية»!

البيان: فالإبداع يسبق المقاييس النقدية، وأرى أنَّ النقد تخلَّف عن مواكبة الإبداع حين رحل بعيدًا، وخاصم بيئة المبدع، وعاد غريب الوجه واليد واللسان!

هل نستطيع القول بأنه تلاشت ما أطلقوا عليها «قصيدة النثر»؟ وما هي الوصية التي تسوقها إلى الشعراء الشبان في العالم العربي؟

  إذا كانت قصيدة النثر قد تلاشت أوْ اندثرت وذهب ريحها في بعض البلدان، فإنها مازالت تجد لها أنصارًا ومدافعين يجادلون عنها بالباطل في بلدان أخرى، كمحاولة ميئوسة من أنصارها لمواراة ضعفهم وعجزهم عن الإيقاع الشعري الصحيح في ثوب المؤثر. وعلى القصيدة «العمودية» بلْ على مبدعي الشّعر «المقفَّى» أن يُخلِصوا لفن الشعر، وأنْ يقدّموا تجارب شِعرية فياضة بمقومات الشعر الأصيل، وألاَّ يكتفوا بتقديم المضمون في صياغة مباشرة سليمة لغويًّا فقط، وإنما لا بدَّ من تقديم التجربة في إطار الصورة الشعرية الجديدة الكلية الرامزة الموحية.. التي تجعل للقصيدة أكثر من بوابة للدخول إلى عالمها.

وعلى مبدعي الشّعر أيًّا كان تفعيليًّا أوْ شِعر الشطريْن، ألاَّ يفرطوا في موسيقى الشعر، فالشعر إيقاع موزون، وصورة كلية جديدة، وبناء لغوي دالّ يضيء المعنى، ولا وجود لِمَا يسمى بقصيدة «النثر» في دائرة الشعر الجادّ الأصيل، فالشِّعر كان -ولا يزال- ديوان العرب، وسِجلّ حياتهم ومعاشهم.. وعلى الشعراء الشبان أن يتجاوزوا اللغة النثرية، وأن يقدّموا البناء اللغوي الإيحائي المثير للتساؤل والشعور والانتباه.

البيان: أخيرًا؛ كيف انتظمت «الرؤية الإسلامية» أعمال كثير من الأدباء، خاصة في مجال الشّعر؟

    بالطبع، فالرؤية الإسلامية في الشّعر المعاصر في النموذج الأمثل لها تبتعد عن الشعر الديني المباشر في شِعر المناجاة والتضرع وشِعر الوعظ، والحث على التعاليم الإسلامية، فذلك مجال تعليمي في الاتجاه الأخير منه، ولكن هذه الرؤية تتمثل روح الإسلام، وتستجيب لأثره الفعال في تغيير الوجدان، وفى تغيير رؤية الإنسان للأشياء، وكذلك تستوحي هذه الرؤية جو الحضارة الإسلامية، وفى مواقفه وشخوصه، وأماكنه وأزمنته، ولا تروى هذه الرؤية في صياغتها الفنية التاريخ في صورة سريعة تقريرية، بل تمتزج بروح ذلك التاريخ، وتشكل منه واقعًا حضاريًّا له شخصيته ونفاذه وتأثيره... وهناك جيل من الشعراء الحقيقيين يتشكل في إطار هذه الرؤية الشّعرية الإسلامية على امتداد الوطن العربي، منهم على سبيل المثال: وليد قصَّاب، ومحمد بن عمارة، ومحمد علي الرباوي، ومصطفى عكرمة، وعبد الله شرف، وعبد الرحمن العشماوي، وجابر قميحة، ومأمون جرّار، ومحمود مفلِح، وعدنان النحوي، وحسن الأمراني، ومحمد الشرقاوي.. وغيرهم من الشعراء السائرين في وهج التيار الإسلامي.


أعلى